Print
بوعلام رمضاني

نهاية مكتبة تاريخية مجاورة للسوربون

19 يونيو 2020
تغطيات

أصبح (20 شارع سان ميشال) في باريس منذ الخامس عشر من الشهر الجاري رمزَ يتمٍ ثقافي بامتياز، بشكل لم يعرفه من قبل الحي اللاتيني الذي يشتهر بجامعة السوربون العريقة. هذا اليتم الذي لا تستحقه عاصمة ثقافية في حجم وشهرة باريس، قد يبدو شيئًا عاديًا، إذا ما عرفنا أن غلق "مكتبة بولينييه" التي تأسست عام 1938، وأشرفت على تسييرها خمسة أجيال، ليست هي المكتبة الأولى التي أغلقت أبوابها في باريس لتترك مكانها لبنك شهير، أو لإحدى شركات التأمين، أو لتاجر ألبسة، أو مساحيق تجميل، تدر مالًا وفيرًا بفعل إشهار لا يرحم الفقراء.
ونحن الذين حققنا سبق الكتابة عن غلق مكتبة (ابن سينا) قبل حوالي سنة، أو أكثر، نؤكد في البداية أن سبب غلق "مكتبة بولينييه" لا يعود الى قلة إقبال الزبائن، أو لغلاء الكتب، كما قال لنا بعض المهاجرين العرب عن مكتبة (ابن سينا)، والذين تحدثنا معهم في غياب المسؤول اللبناني الذي كان يشتكي لنا من صعوبة حال المكتبة كلما مررنا عليه قبل توجهنا إلى معهد العالم العربي بعد خروجنا من محطة الميترو المقابلة لجامعة جيسيو.

وفاء الخلف للسلف
خلافًا لبعض المكتبات المستقلة التي أفلست، بسبب جائحة كورونا التي فرضت على محبي القراءة وغيرهم من الناس البقاء في البيوت لمدة شهرين في إطار إجراءات الحجر الصحي، لم تغلق "مكتبة بولينييه" أبوابها بسبب كورونا، أو قلة إقبال الزبائن، بل نتيجة قرار مالك محل

المكتبة بعدم تجديد عقد الإيجار، كما تم خلال أعوام كثيرة. للتعريف بهذه المكتبة التاريخية الفريدة من نوعها في فرنسا، وربما في العالم، انتقلت إلى مقرها، ووقفت عند خصوصيتها من خلال محاورة الآنسة لويز بولينييه، ووالدتها آني، في غياب الأب لسبب قاهر. لويز (30 عامًا) مكلفة بالاتصال والإدارة، وتعمل منذ زمن طويل في المكتبة، مثلها مثل شقيقها المسؤول عن التسويق. ترعرع الاثنان في أحضان أسرة بقيت وفية لذاكرة ثقافية وحضارية غير مسبوقة حتى ساعة كتابة هذه السطور. غلق مكتبة 20 شارع سان ميشال، التي يعود تاريخها إلى عام 1938، حز في قلب الإبنة  المسؤولة التي ورثت حب الكتاب، لكن أسفها لم يبلغ حدًا مأساويًا ما دام التعويض عن مكتبة الرقم التاريخي سيتم يوم السادس عشر من الشهر الجاري، على بعد أمتار من الرقم القديم: "سنأخذ آلاف الكتب المتبقية من 20 إلى 16 شارع سان ميشال، آسفين على رمزية المقر التاريخي القديم، لكن غير مستسلمين للأمر الواقع، ومستمرين في تخليد ذاكرة أجيال عبر سبعة فروع حديثة  أخرى تتواجد في باريس العاصمة، وفي (إقليم سان أي مارن)، شمال غربي باريس. وصلت والدة لويز بعد حوالي ربع ساعة من انطلاق حواري مع ابنتها لويز، وانضمت إلى الجلسة قائلة: "نحن أوفياء كخلف للسلف الذي تخصص في شراء وبيع الكتب القديمة بأثمان زهيدة في متناول كل الفئات الاجتماعية، وغلق مقر المكتبة العريقة لن يثنينا عن الاستمرار في عملنا بشكل طبيعي، وبروح إيجابية وبناءة".

 

مكتبة إنسانية
يعود تاريخ صراع أسرة بولينييه مع مالك مقر المكتبة التاريخية إلى عام 2011، حسب السيدة آني بولينييه، التي تضيف: "شب الصراع مع مالك المقر بعد أن تصاعدت وتيرة

الإيجار إلى درجة أدت في النهاية إلى القضاء، واستطعنا مواجهة الموقف لأعوام. وفي النهاية، لم يعد في مقدورنا دفع إيجار مرتفع، سيما أن تخصصنا في بيع الكتب القديمة بأثمان رخيصة لا تسمح لنا بأرباح خيالية. نحن لسنا مكتبة تجارية، وشراء وبيع كتب قديمة تتداولها الأجيال وكل الفئات الاجتماعية أقرب إلى الروح الإنسانية منه إلى التجارة المتعارف عليها في مجالات أخرى، وأرباحنا متأتية أكثر من حجم المبيعات سنويًا، وليس من الأسعار المنخفضة" (حوالي مليون كتاب في السنة). إقبال كل الفئات العمرية على المكتبة التاريخية وقفنا عنده، ونحن نلتقط بعض الصور لشيوخ وكهول وشبان ونساء شابات ومسنات، وراح الجميع يشتري بالجملة الكتب المختلفة، وخاصة تلك التي وضع فوقها إعلان التنزيلات قبل أيام قليلة من الغلق، ومن بينها كتب عن باريس. في الوقت الذي كنا ننتظر الآنسة لويز، عشنا اللحظة التي دخل فيها شيخ بحقيبة كتب لعرضها للبيع. مع الأسف، لم يتمكن من تحقيق هدفه، بسبب توقف مسؤولي المكتبة عن الشراء نتيجة الغلق الوشيك، ووجه الشيخ نحو فروع المكتبة الأم التي استحدثت في السنوات الأخيرة، وإلى الفرع الجديد الذي يبعد عن القديم بضعة أمتار. شيء آخر لفت انتباهنا تمثل في الطلبة الذين يعدون من الزبائن الأكثر ترددًا على المكتبة، وفي السياح الفرنسيين الذين خرجوا بقوة من بيوتهم بعد رفع الحجر الصحي، والصينيين واليابانيين، الذين نجدهم في كل الأماكن الثقافية الشهيرة تقريبً،ا ومن بينها قصر فرساي، ومتحف اللوفر.

 

احتجاج الطلبة
كما كان متوقعًا، تبيّن أن غلق "مكتبة بولينييه" التاريخية التي تردد عليها الملايين منذ 80 عامًا قد راحت ضحية مسار أضحى ظاهرة مقلقة تهدد مستقبل الكتاب في سياق عولمة أتت على الأخضر واليابس في مجال التجارة المادية الاستهلاكية.
قالت لويز في هذا السياق: "ستغلق قريبًا مكتبة في شارع مازارين غير البعيد عن المكان الذي نحن فيه الآن قبالة مكتبتنا، كما ستغلق ثلاث مكتبات لجوزيف جيبار، وهي المكتبات الشهيرة التي صنعت هي الأخرى شهرة شارع سان ميشال، والحي اللاتيني". أضافت بحسرة: "حيال

هكذا ظاهرة، من الطبيعي أن نقلق ونحزن نحن جيل الطلبة الذين ترعرعوا على هذا النوع من المكتبات، وخاصة على نوع المكتبات التي تبيع الكتب القديمة المتداولة اجتماعيًا على نطاق واسع، وتحكي قصص حب دارت حول الإنسان والكتاب والثقافة بوجه عام". أسى لويز تعمق أكثر فأكثر، ونحن نقرأ كتابات عشرات الزبائن الذين عبروا عن حزنهم في الكتاب الذهبي الذي وضع في متناولهم داخل المكتبة التي لن تطأها أقدامهم بعد منتصف هذا الشهر.
يجدر بالذكر أن تاريخ مكتبات "بولينييه" يعود إلى عام 1845، وعنوان 20 شارع سان ميشال، الذي يحتضن المكتبة التي فتحت أبوابها عام 1938، هو الذي صنع خرافة مكان ثقافي وأدبي وإنساني رغم انتشار فروع له في سبعة أحياء باريسية أخرى لن تعوض وهج وسحر ورمزية المكتبة التي قتلها فيروس الربح غير المتعلق بالثقافة، أو بفيروس كورونا. وإذا كان الفيروس الأول قد تمكن من القضاء على رئة الحي اللاتيني الثقافية، فإن تجند الطلبة، وكل محبي الكتاب من المسؤولين المحليين التابعين لبلدية باريس والمواطنين العاديين وعائلة بولينييه، سمح بولادة رئة ثانية على بعد أمتار من مكان الرئة الراحلة، ولو في فضاء لا يسمح بالتنفس الكبير كما كانت الحال في المكان التاريخي الأول الذي كان يغطي مساحة 400 متر مربع. المكان الجديد لا يتجاوز ربع مساحة المقر الأول، لكنه يسمح بشراء الكتب بثمن رمزي، وبالتالي بالتنفس عبر رئة خالدة لا يعرف قيمتها الحيوية إلا من لا يستطيع العيش من دونها.