Print
منى آرشي

سكون.. على أعتاب الخمسين (قصائد)

22 يوليه 2020
ترجمات

وقعت عيناي على قصيدة قصيرة لمنى آرشي في إحدى عربات قطار الأنفاق في لندن ذاتَ شتاء. على عجلٍ، التقطتُ صورةً للقصيدة وأضفتها إلى ألبوم صورٍ يحمل اسم (Follow-up  متابعة)، وما أن تيسّر لي بعض الوقت حتى عُدتُ لاستطلاع سيرةِ هذه الشاعرة وكتابتها اللافتة.
أصدرت آرشي مجموعتين شعريتين إلى الآن، الأولى بعنوان "أيدٍ صغيرة"، والثانية بعنوان "أيتها الآلهة الكبيرة العزيزة". وقد اختيرت آرشي مؤخرًا لتكون ضمن لجنة تحكيم جائزة تي إس إليوت الشعرية.
قبل أن تتفرّغ للعمل الأدبي، كانت منى آرشي تعمل محامية في حقوق الإنسان، وهي ابنةٌ لأبوين مهاجِرَين من الهند. تقول آرشي في إحدى مقالاتها إن القصيدة ليست أداةً للدفاع عن حقوق الإنسان، ولا مرافعةً أمام محكمة، وليس عليها أن تسعى لتكون مجرّد نشاطٍ يتشاطره الشعراء والمدافعون عن حقوق الإنسان في مساءلتهم المحمومة للّغة... يحتاج الشعر، كما تقول، لمواصلة كفاحه في خلق مساحةٍ لنفسه وتصوّر ما يتعذّر تصوّره ليأتي باللاّمُتخيّل على الورق. وتضيف آرشي أن بوسعِ الشعر مجابهة انحطاط اللغة والحقيقة وتهتُّكِ التعاطف البشري الذي نشهده. قلّما تُفلِح القصائد في أن تغدو بواعث أخلاقية، إلا أن الشعر في جوهره، تقول آرشي، يقف في وجه التبسيط المتمثّل في تملُّق اللغة منتصرًا للتعاطف والخيال والعمق الذي تنطوي عليه اللغة.



على أعتاب الخمسين

 

مرّاتٍ؛

في مرايا الحمّام الغبِشة

يرى الوجوه الثلاثة تحدّق فيه؛

وجهُه؛

وجهُ الرجل الأشيَب

               الذي استحقت بوليصة حياته؛

ووجهُ الشباب الهازئ

                  الذي دفع القسط الأول.  

 

هذا الصباح

 

ثمة رأسُ خيطٍ

مثل جدائل الزعفران

 بين يدَي أمي

          فوق ستة يارداتٍ من القطن الأبيض؛

أنا في الحديقة،

شبهُ منسيّة

          جِوارَ الأزهار المستحيلة.

 

سكون

 

لم ينقلب القمر شمسًا

كل ما في الأمر أنه هبط على الصحراء،

في شوارع عريضة؛

 رُزَمًا من الفضة المشغولة بيديك

الليلُ شُغلُ كوخِك الآن؛

النهار سوقك الرائج؛

العالم طافحٌ بالورق؛

اكتُب لي.

صلاة صغيرة

هأنذا

مِن جديد

طائر نُميميّةٍ هذه المرة

في المرة السابقة

كنتُ النسغ الأبيض

لا تُطيّر ذباب الفاكهة

بل زُر جيوب ألمي الأزرق المُسودَّ

هأنذا

لائذةً، صُحبةَ الأغاني العمياء التي كأثرِ الدود في الطين

منكمشةً في خشونةِ زغبي.  

 غزل

حتى عيوننا ليست لنا...

فريدريكو غارثيا لوركا، منزل برناردا ألبا

أودّ أن أُنصِت إلى السطح، قربَ ذبابة مايو، أسمعُها كيف تحفظُ لباقتها فوق جِلدِ البحرية.

أودُّ لو أُنَحّي الكلمات، أُبقيهنّ في مواضِعِ التوكيد، أُعجِمُهنّ، أُعلّقهنّ لينضُجنَ مثل أعناب.

وبوِدي لو أبوحُ للمطر ليكون عطوفًا بمليون وخزة خفيفة فوق جلدي.

سآبى أن أعود كوردةٍ أو كزهرة توليب، أريدُ أن أُغرَسَ تحت سماء الليل التوّاقة.

 بودّي لو أتلاشى إلى خطٍّ في طيّات كفّك، خطٌّ يلتَمِعُ في الظل.

بودِّي لو أن أصابع الرب تتقصّف، ولو أنك تتفرّجُ علَيَّ إذ أطوي أكمامي كاشِفَةً عن معصمي الناحل.  

 لوحة للفنان إسحاق ليفيتان (1860- 1900) 












 

مكالمة هاتفية على متنِ قطار

أصغرُ عُظَيماتِ الأذن البشرية صارت أخفّ من حبة رز.

لا تنفكّ تفكّرُ؛ ذلك يعني شيئًا، بيدَ أنه قد يعني شيئًا آخر.

ثمّة ما هو مفقود، تُنَقّبُ في جيوبها، في الأكمام، تبحثُ في ثقوب القماش.

هل لكِ تأكيدُ أنكما شقيقان؟

وحين ناولوها نظّارته التي بلا إطار، كانت النظارة مطويةً في كمٍّ مَحشيّ؛

وبعد عِدة إمضاءات، كانت حقيبة ظهرِه بين يديها،

(بلا أطعِمَتِه سريعة التلف)، أخفُّ كثيرًا مما توقَّعت.

 

شَعرُ أمّي

سَلوار* أمي يكشف عنها؛

ضفائرها المُنثَنِيةُ على كامل الظهر

 تنتهي مثل همسةٍ في الأسفل؛

هل لنا أن نلمسها؟

 يسألونها في حديقة الأطفال؛

وبِخَفَرٍ تُوسّدُ الجدائل الداكنة في أيديهم

وإذ تغتسِلُ يستحيلُ الشَّعر رداءً من الألياف

منسدلًا على منكبَيها مثل ستائر ثقيلة

وإذ تجلس متبخِّرةً جوار الرادييتر القديم؛

 تُمسِك بمقلاةِ حبوبها الجافة

 تُفلّيها من الحصى المتنكّرة

 تاركةً أثرًا من الهمسات على الأرض.

 

طائر الطنَّان

مُرِ الجذور تنحني في الزجاج،

أطلِق أصابعك؛

اقبِض هُنَيهةً على النهد ثمّ انزلِق في الفضاءات؛

مُجْ أعلى فأسفَلَ في الثَّنايا، مكانَ ينثَني النهدان وينهضان.

كُن إلهًا

حُفّ بجلدك المُبرِئ جلديَ،

بدِّدْني وقُلْني من جديد

قل لعينيَّ تهويان وتنغرِسان في السجادة؛

دع يداي تَجدلان لك الهواء.

الشمس المتمنِّعةُ في النافذة،

 افتح عينَيكَ؛

استَعِر بضراوةِ هواك في كثافة هذا الغبَش؛

فُكَّ السحَّابَ العظميّ لعمودي الفقري وافرُك كُلَّ نتوء؛

 خُذ أطرافي واطوِني؛

 إليك فمي يا طائر الطنَّان؛

 أطِل مُقامَك وخُذ أنفاسي.   

 

في كلّ مكان

في انتظار المطر على الأغلب؛

أحيانًا ما ندعه يهطل برفقٍ فوق وجوهنا؛

ذلك ما تفعله الأزهار

أمس، رأيتُ عينيه في نظرةِ فتى جوارَ نافورة ماء

ليس علينا البحث عنه – نقول للأطفال– هو في كل مكان

هو في كل مكان

ليس علينا البحث في البذور السوداء لدوّار الشمس

التي نطعمها للعصافير

ولا في الأصداء العمياء لصلواتنا.

بعد المطر، نرفع مظلات الخيش، ولا نأمةَ

كأننا في كنائسِ أنفسِنا؛

لا نرجو إجابةً – على الرغم من أنه هناك.   

 

*سلوار: أحد أكثر الأزياء شيوعاً بين رجال ونساء شبه القارة الهندية

ترجمة إبراهيم قعدوني