Print
أحمد عبد اللطيف

بعد 39 عامًا: يوسا يكشف حوارًا مع بورخس

3 يوليه 2020
تغطيات
"نصف قرن مع بورخس"، هو الكتاب الجديد للمنوبل البيرواني ماريو بارغاس يوسا، الصادر منذ أسبوع عن دار ألفاجوارا الإسبانية. يحاول يوسا عبر صفحات الكتاب رد الاعتبار لبورخس باعتباره أهم كاتب في اللغة الإسبانية في القرن العشرين. ولعل أهمية الكتاب تكمن في نشر حوار لم ينشر من قبل أجراه الكاتب البيرواني مع الكاتب الأرجنتيني في بيته في بوينوس آيرس عام 1981، التاريخ هام جدًا، إذ يبدو أن الحس الصحافي ليوسا تنبأ بفوز صاحب "الألف" بنوبل بعد أن توّج على عرش الكتابة الشعرية والسردية على مدار ستين عامًا، وحقق شهرة عالمية ساعدت في دعم تيار الواقعية السحرية. لا بد أن الكاتب البيرواني كان ينتظر فوز بورخس بالجائزة لينشر الحوار، لكن القدر شاء أن يفوز بها ماركيز عام 82، لينام الحوار في الدرج لما يقرب من أربعين عامًا حتى يفرج عنه صاحب "حفلة التيس".

كتب يوسا في "نصف قرن مع بورخس": "لو أتيح لي أن أسمّي كاتبًا باللغة الإسبانية، ومن زمننا لتُخلد أعماله، ويترك أثرًا عميقًا في الأدب، سأشير إلى هذا الشاعر والقاص والناقد الأرجنتيني خورخي لويس بورخس. حفنة الكتب التي كتبها، كتب دائمًا موجزة، كاملة مثل خاتم يشعر المرء دائمًا أنه منحوتة، كانت ولا تزال ذات أثر كبير على من يكتبون بالإسبانية. قصصه الفانتازية التي تحدث في لا بامبا، أو بوينوس آيرس، في الصين، أو لندن، في أي مكان في الواقع، أو اللاواقع، تعكس الخيال الخصب نفسه، والثقافة الواسعة نفسها الموزعة في مقالاته حول الزمن ولغة الفايكينغ... لكن الحكمة عند بورخس ليست كثيفة، ولا أكاديمية، دائمًا هي شيء فريد ولامع ومسلٍ، مغامرة للروح نخرج منها كقراء مندهشين وممتلئين".
لكن مقدمة يوسا المحتفية ببورخس لم يقابلها ترحيب من جانب الكاتب الأرجنتيني، إذ حملت ردوده كثيرًا من السخرية والهروب، وبدا أحيانًا ضيق الصدر من الكاتب البيرواني. وجّه يوسا اللوم لبورخس لتقليله من شأن فن الرواية بقوله إنه يستغرب كتابة خمسمئة صفحة لقول ما يمكن قوله في عبارة واحدة، وكان نقد يوسا منطلقًا من كونه روائيًا. هنا جاء رد بورخس ساخرًا: "نعم إنه خطأ، خطأ ابتكرته أنا. كسل، أليس كذلك؟ أو تجنب المنافسة". وعلى عكس صورة بورخس المتواضعة دائمًا، بدت كثير من إجاباته قصف جبهة، كأنه لا يريد أن يفتح حوارًا يطرح فيه أفكارًا حول القصة والرواية، رغم أن لبورخس حوارات ونصوصًا متعددة يتناول فيها فكرة الإيجاز، وكون القصة أقرب إليه من الرواية.


السياسة والقومية
بالإضافة للحوار الأدبي، تطرق يوسا إلى السياسة والقومية، وتطرق إلى الصراع التشيلي

الأرجنتيني حينها. اللافت أن بورخس بدا مضادًا للقومية وللحروب، ومع ذلك رأى أن بعض الحروب عادلة، مثل حرب 1967، ليؤكد بذلك على موقفه المخزي من الصراع العربي الإسرائيلي، وهو موقف لا يبرره إلا اعترافه بأنه لا يفهم في السياسة، وأنه لا يتابع الأحداث اليومية. لكنه ليس الموقف المخزي الوحيد لبورخس، فموقفه كذلك من الديكتاتورية الأرجنتينية، وبعض ديكتاتوريات أميركا اللاتينية. أما إجابته عن شكل الدولة التي ينتظرها، فكانت: "أنا عجوز أناركي من أنصار سبنسر، وأعتقد أن الدولة شر، لكنه حتى هذه اللحظة شر لا بد منه. لو كنت أنا ديكتاتورًا لتنازلت عن منصبي، ولعدت إلى أدبي المتواضع، لأني لا أمتلك حلًا لأقدمه. أنا شخص حائر، وخائب الأمل، مثل كل أبناء بلدي". في عام إجراء الحوار كانت الأرجنتين تحت حكم آخر ديكتاتورية، ومع ذلك كان يرى أن بلده يستحقها، قال: "لا أعتقد أن هذا البلد جدير بالديمقراطية، ولا بالأناركية. ربما في بلدان أخرى يمكن تطبيق ذلك، في اليابان مثلًا، أو في البلاد الاسكندنافية". وهو رأي شديد الخطورة، ولا يمكن قبوله حتى تحت لافتة اليأس من الأحداث، فبورخس كاتب كبير، مؤثر ومسموع، وكونه ينزع عن أهل بلده الحق في الديمقراطية هو افتقاد لأول دروس السياسة الملخص في أن الشعوب تتعلم بالتجربة والخطأ، فالأرجنتين التي عانت الحكم العسكري والمعتقلات والقتل خارج القانون، كانت تستحق في عام 1981 أن تخوض تجربة ديمقراطية.
ومع أن أسئلة يوسا كانت مستفزة لبورخس، ربما لأنه وضع إصبعه في الجرح، إلا أن تعليق

الكاتب البيرواني على بيت بورخس، ووصفه بأنه متواضع، كان من أكثر لحظات اللقاء توترًا، إذ اضطر الكاتب الأرجنتيني أن يقول "الرفاهية وقاحة"، ردًا على "بيتك محض تقشف كبير، تبدو غرفة نومك كزنزانة راهب، هي بالفعل متواضعة بشكل لافت". وهي النقطة التي نقلتهما للحديث عن الفلوس والثراء والفقر، ليجزم بورخس أن فائدة المال هي شراء الكتب والسفر.
الحوار في مجمله بدا مغرضًا، الأسئلة نفسها تدوير لأسئلة سابقة ربما تكون إجاباتها معروفة، لكن يوسا أراد أن يضيف بصمته خاصة في الموقف السياسي. اللافت أن عام الحوار (1981) كان يوسا من نجوم الأدب اللاتيني، وحقق خلال عشرين عامًا نجاحًا لافتًا، حتى كان اسمه يرد كبطل ضد لماركيز في كل المناسبات. مع ذلك، تعامل معه بورخس كأنه نكرة، وربما يرجع ذلك لموقف سابق حدث أثناء حوار بينهما نُشر في باريس ريفيو عندما كان بورخس في فرنسا، إذ أشار يوسا إلى "عدم نظافة الحمّام"، وهو ما جرح كبرياء الكاتب الأرجنتيني بالتأكيد.
ثمة إشارات بعيدة عن الحوار يمكن أن توضّح لنا سياق بورخس وأسلوب حياته. كرّس صاحب "كتاب الرمل" حياته للكتب، وخاصة الكتب القديمة، وصب جل اهتمامه على التراث العربي والعبري والجيرماني واليوناني، بالإضافة للأدب الإنكليزي الكلاسيكي. لم يكن بورخس من قراء الصحف، ولا من متابعي الأخبار، وكان شبه منفصل عن العالم الواقعي، وكان

الاتصال الوحيد يأتيه بالسمع، ويخص أخبار الأرجنتين، أما ما يأتيه عن أخبار الخارج فلم يكن يتفحصها، أو يخضعها للتحليل، لأنه في الحقيقة كان مشغولًا بقراءات محددة، وبكتابات يريد أن ينجزها.
ليس في ذلك أي تبرير لسوء اختياراته السياسية، إذ يبقى مسؤولًا عنها، لأنه صرح بها، وهي قناعاته في النهاية، لا يقلل ذلك من كونه كاتبًا عظيمًا، وأضاف للأدب العالمي بصمة كبيرة، وفتح رئة وأفقًا في الكتابة القصصية. هو في النهاية يحسب من زمرة الكتاب المبدعين أصحاب المواقف السياسية المخزية.
انتهى حوار يوسا، لكن في اليوم التالي كتب بورخس تعليقه على هذا الحوار الذي لم يكن قد نشر بالطبع: "زارني بالأمس كاتب بيرواني. أكثر من كونه كاتبًا بدا لي سمسار عقارات"، وهو تعليق قاسٍ، لكنه يساعد في الوقت نفسه على فهم مجمل الحوار، وإجابات بورخس الموجزة على عكس عادته.