Print
نجيب مبارك

"الصعود".. سيرة رواية مجهولة لكازانتزاكي

10 أكتوبر 2021
تغطيات
لا يزال نيكوس كازانتزاكي (1883 ـ 1957) المؤلِّف اليوناني الأكثر ترجمة وانتشارًا في العالم. لذلك من البديهي أن يصنع الحدث على المستوى العالمي نشر رواية جديدة له، ظلّت مجهولة لعقود طويلة، بل إنها تُنشر للمرة الأولى حتى في بلده اليونان، وتحمل عنوان "الصعود" في طبعتها الفرنسية الصادرة هذا العام، عن دار "كامبوراكيس" اليونانية. وطبعًا، لم يكن هذا العنوان من قبيل الصدفة، إذ أنه يلخص في الحقيقة ثيمة الرواية إلى حد بعيد: روائي يوناني يترك جزيرة كريت المدمَّرة عام 1946 ليصعد شمالًا من أجل إقناع المثقفين الإنكليز بتشكيل حركة سلام عالمية. إنّها رواية مؤثّرة للغاية، تبشّر بروايات لاحقة أكثر نجاحًا، وموشاة بزخارف رائعة، تحضر فيها روح كازانتزاكي وهواجسه.




العودة إلى الوطن المخرّب
في الواقع، لم يكن هذا "الصعود" كتابًا مخفيًا في أعماق كهف بجزيرة كريت، وتم العثور عليه بمحض معجزة؛ إذ كان وجوده معروفًا منذ سنوات، بالنسبة إلى المتخصصين في أعمال كازانتزاكي على الأقلّ، وهو نص يرجع تاريخه إلى عام 1946، واعتُبر دائمًا بمثابة عمل تحضيري، أو مسوّدة، لأعمال مستقبلية. وفعلًا، فقد عُثر على بعض صفحاته مطوَّرة بشكل مستفيض في روايتين لاحقتين، هما "الحرية والموت" (1947)، و"المسيح يصلب من جديد" (1948). ولكن، لماذا لم يُنشر الكتاب منذ ذلك الوقت، وبقي كل هذه الفترة حبيس الأدراج؟ هل كان الأمر متعلقًّا بوعي ورثة الكاتب الراحل بأنّ بناء الرواية غير مكتمل؟ أم أنّه تم التراجع عن قرار النشر ردًّا على السلوك الفظيع للمملكة المتحدة في قبرص خلال السنوات التي تلت كتابته؟ يصعب الحسم في هذا الأمر نهائيًّا، كما أنّ قرار أصحاب الحقوق القاضي بالسماح بنشر هذا النص، في هذه الأيام بالذات، يبقى قرارًا غامضًا في كلّ الأحوال.




تحكي الرواية قصة رجل يدعى كوزماس، بمثابة قرين للكاتب، أو صورة مختزلة منه، تتوزع حياته بين كريت وإنكلترا بعد عام 1945، ويجد فيها القارئ كثيرًا من ارهاصات الأسئلة الروحية والأدبية التي ستعج بها أعمال كازانتزاكي لاحقًا. يقول في إحدى الفقرات: "كانت كريت تقترب بجبالها وبساتين زيتونها وكرومها. ومن بعيد، أظهر ميغالو كاسترو بياضه في ضوء الصباح. انتشرت رائحة الزعتر في الهواء أكثر فأكثر. وكان الضوء قد نزل الآن من القمم عند سفح الجبل وغمر جذوره، وانتشر بهدوء حتى فاض على السهل. بدأت صورة الأشجار الظليلة تتشكل، والديوك تصيح، وفي تلك اللحظة استيقظ العالم". أكيد أنه بالنسبة للشخصيتين اللتين تتكشف أمامهما هذه المناظر الطبيعية، كان الأفق سيبدو وكأنه وعد حقيقي. لكن الواقع سرعان ما خيّب الآمال، وأظهر جانبه القاسي والمحزن.


الصعود من أجل السلام
تتكون الرواية من جزأين. في البداية، يعود الكاتب كوزماس إلى جزيرة كريت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد وفاة والده مباشرة. كان كوزماس قد غادر الجزيرة قبل عشرين عامًا، في عام 1926. وعندما انتهت الحرب، عاد مع زوجته نويمي، اليهودية البولندية، على أمل أن تكون أسرار الأمس قد طردت العنف من قلوب أبناء شعبه المسيحيين المتطيرين، علمًا أن حياة الزوجين انطبعت دائمًا بهاجس البقاء على قيد الحياة، وربما ستنطبع به أكثر في هذه الجزيرة، أو "هذه الغابة الكريتية"، بحسب رؤية ابنة هذا الحاخام: "إنه عالم آخر، قالت لنفسها، أرض أخرى، رب آخر. هنا، "القدور الكبيرة"، هذه النفوس، لم تُطفأ بعد، كما اعتاد أبي القول". لكن كوزماس سيغادر ويترك زوجته وحيدة مع أشباح ماضيهما. لقد أحضرها معه إلى هنا ورحل، هي التي فقدت عائلتها بأكملها خلال الحرب، ولم تنجُ إلا بمعجزة. ثم إن ظل الأب الهائل، على الرغم من وفاته، ظلّ يخيم على منزل الأجداد، بحيث تجد نويمي صعوبة في إيجاد مكان لها بين والدة كوزماس وأختها. صعد الزوجان لرؤية جد كوزماس لأبيه، الذي كان يحتضر. بعدها نويمي تخبر زوجها أنها تنتظر طفلًا. لكن كوزماس سيقرر الذهاب بمفرده إلى إنكلترا، لأنه شعر بأن عليه واجبًا كمثقف للتدخل في مسيرة هذا العالم الذي صار مستقبله مخيفًا. وهناك سيكافح طويلًا، في محاولة للعثور على موقع، أو مهمّة تمنحه المعنى والشعور بالجدوى.







يرى نيكوس كازانتزاكي أنّ اليونان التقليدية انجرفت بعيدًا مع التيّار المأساوي للعالم، أي مع الطبيعة البشرية المعرّضة للشر. وهنا تقترب الحوارات العميقة في الرواية من بنية الحكاية الفلسفية، حيث تتمكّن الشخصيات من مناقشة عودة المسيح في مصنعٍ إنكليزي كأنّها تتمة لمراسلات عاطفية يائسة. وبحسب رأي الناقد رينيه بوشيه، فإنّ هذه الرواية تلقي الضوء بعض جوانب كثيرة من السيرة الذاتية لكازانتزاكي، مثل تفضيل البطل كوزماس، قرين المؤلف، لمشروعه الأدبي والفكري على زوجته، أي رهانه على الكتابة بدلًا من الحب. ويعرض كازانتزاكي هذا الصراع في مشهد يصوّر كوزماس في إنكلترا على وشك الاستسلام للزنا، فيكتشف أن وجهه مغطى بقناع، وهذا يعبر عن الغواية بالتأكيد، مثلما يعبر عن الحماية من الوقوع فريسة الرغبة. إنه يذكرنا بالراعي مانوليوس، في رواية "المسيح يصلب من جديد"، الذي نجا هو أيضًا من فخ الفساد الحسي بالطريقة نفسها. ألا يحيل هذا الشكل الغريب على مسرحية بول كلوديل "إخبار مريم"، حيث يكون الجذام على وجه فيولين علامة مرئية، لكنها لا تدل على الشر، وإنما على القداسة؟ لا شك أنّ الرغبة في الارتقاء إلى المطلق، خصوصًا عن طريق الكتابة، ظلّت تطارد كازانتزاكي إلى الأبد. وكما جاء على لسان مترجمه الفرنسي، الذي اقتبس هذا المقتطف من الكتاب الأول لكازانتزاكي "تصوف"، الحاضر ضمنيًا في رواية "الصعود": "اخترتُ الطريق الصاعد، لأن قلبي يدفعني إلى الأعلى. أعلى، فأعلى، فأعلى!، يصرخ قلبي، فأتبعه بكلّ ثقة".



أصداء السيرة الذاتية
يمكن القول إن هذا الكتاب أكثر من مجرد رواية، إنه سيرة ذاتية في الوقت نفسه، وهو انعكاس شامل للإيمان والروحانية، ولكن أيضًا للرغبة في تغيير الصورة الكئيبة للعالم، بالإضافة إلى التحليل السياسي الدقيق. كتاب مشبع بالأساطير، تغمره أجواء دينية، حيث تظهر جزئيًا من خلال شخصية البطل الشبيه بالمسيح تقريبًا. والرسالة التي يريد إيصالها هي الواردة في هذا المقطع: "إنّ هناك خطرًا كبيرًا يهدّد حضارتنا. ومن خلال النظر مباشرة إلى عيني هذا الخطر، من دون خوف، يمكننا التغلُّب عليه. لقد عرفت دائمًا أنّ أشرس عدوّين لقوى الشر هما الشجاعة والنور. لكنني لم أستطع رؤية وجه هذا الخطر بوضوح. لذلك لم أستطع تخمين ماذا يجب أن نقاتل وكيف. لقد حجبه عنّي ظلٌّ ثقيل ومراوغ. لكن هذا الصباح، رأيت وجهه بوضوح في المنام".









بالإضافة إلى الرحلة الأدبية التي تقودنا إليها رواية "الصعود"، يمكن أن نطالع الأسس والخطوط الأولية لبعض الشخصيات والمشاهد القادمة، في روايات ناضجة ستعرف نجاحًا منقطع النظير. ولكن قبل كل شيء، نصادف العديد من أصداء حياة الكاتب نفسه. وعلى سبيل المثال، تم تعيين كازانتزاكي فعلًا للسفر إلى جزيرة كريت في نهاية الحرب العالمية الثانية، من أجل معاينة آثار الجرائم التي ارتكبها النازيون، ورغب في تأسيس حركة باسم "أممية الروح"، لكنه شعر بخيبة أمل كبيرة عندما ناقش الفكرة مع مثقفي العصر، خلال رحلاته إلى إنكلترا. لذا، فإن كوزماس هو بطل من التاريخ يعكس صورة كازانتزاكي نفسه، تحرك كليهما الحاجة نفسها إلى الكتابة، ويشعر كل واحد بالذنب، لأنه ترك الأسرة والبلد خلفه، بينما يسكنه حلم النضال من أجل السلام والحرية، قبل أي شيء آخر. وكما هو الحال في بعض الكتابات الأخرى التي تعدُّ بذورًا بطريقة ما، تعج هذه الرواية بالأسئلة الميتافيزيقية المتناقضة التي تتشكل هنا أيضًا عبر كريت وإنكلترا (أمّتان متعارضتان، سواء من حيث المناخ، أو مزاج السكان)، وعبر مسار بطل الرواية نفسه. وفي النهاية، سيصل كوزماس إلى حد المعاناة الجسدية بسبب الصراع الرهيب بين روحه وحاملها المادي (هذا الألم يحضر أيضًا في رواية "المسيح يصلب من جديد" لأسباب مماثلة، وقد عانى منه نيكوس كازانتزاكي شخصيًا خلال حياته).




أخيرًا، تعكس رواية "الصعود" بداية اهتمام كازنتزاكي بانعكاس مكانة الموتى في مجتمع الأحياء، وربما تأثّر في ذلك برحلته إلى الاتحاد السوفييتي في عام 1927، حيث التقى بالكاتب الروماني، بنايت إستراتي، الذي سيصبح أحد أصدقائه العظام. كما تسري في هذه الرواية قوة غير عادية ترسمها ريشة شبه صوفية، من خلال كتابة عميقة ومهيبة يشعر معها القارئ بتماسك قوي، وتثير في داخله أسئلة بلا نهاية. إنه كتاب متنوع وغني، يُقرأ كما لو أنه اعتراف بالإيمان، مثلما يمكن أن يقرأ باعتباره سقوطًا للفكر الإيثاري والمسيحي.