Print
مدريد ـ أحمد عبد اللطيف

موضوعاته لفتت الانتباه.. إشادة إسبانية باختيار قرنح لنوبل الأدب

13 أكتوبر 2021
تغطيات

احتفت الصحف الإسبانية بفوز الروائي الأفريقي ذي الأصول اليمنية عبد الرزاق قرنح (غورناه) بجائزة نوبل هذا العام، وأشارت في العديد من المقالات إلى أعماله المترجمة إلى اللغة الإسبانية، كما أثنت على اختيار اللجنة للأدب الأفريقي المهمّش والموضوعات الحيوية التي اختار عبد الرزاق الكتابة عنها وكشف آلامها: الهجرة، اللجوء، أزمات المهاجرين في المملكة المتحدة. الموضوع هو ما لفت الانتباه، دون أن يتطرق أحد حتى الآن لتناول جماليات أدبه، ولعل ذلك يرجع لارتباط موضوعاته بقضايا راهنة، وأسئلة لا تزال مطروحة في أوروبا لم تُحسم بعد.

في مقال له بـ "الباييس"، كتب خوسيه نارانخو أن أسباب اختيار اللجنة لعبد الرزاق أسباب راهنة وساخنة: أثر الكولونيالية الأوروبية على أفريقيا ومصير اللجوء المُدان بالحياة بين عالمين. بعد 70 عامًا من استقلال دول أفريقيا، ظهرت مبادرات عديدة وحركات مدنية في القارة الأفريقية وفي المنافي لتذكرنا بأن الطريق لا يزال طويلًا لتجاوز الجروح مثل العبودية والعنصرية وتجريم الهجرة، وهي قضايا يعيشها الملايين يوميًا في العالم.

في رواية "ما بعد الحياة" (2020) يتناول قرنح الاحتلال الألماني لتنزانيا الحالية في بدايات القرن العشرين، تقول إحدى شخصياته: "قتل الألمان أناسًا كثيرين حتى صار البلد مترعًا بالجثث والعظام وصارت الأرض متخثرة بالدماء". بهذه العبارة يرصد قرنح تاريخ الجريمة في بلده ويسجّل أحداثًا لا تُنسى على الأقل من ذاكرته. لقد اعترفت ألمانيا في أيار/ مايو العام الماضي بأنها ارتكبت مذابح ضد إثنيات مثل الهيريرو والناما في ناميبيا، وقدمت اعتذارًا لأحفاد الضحايا. وفي 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وبعد الضغط المتزايد من حكومات أفريقية، أعلن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، في خطاب له ببوركينا فاسو، عن بداية عملية إعادة آلاف القطع التاريخية المسروقة من القارة خلال فترة الاستعمار. يشير نارانخو في مقاله إلى أن المبادرة لا تزال متواضعة، وأن الأشياء المستردة قليلة حتى الآن، فلا تزال هناك متاحف أفريقية في فرنسا.


إن الاستعمار وبصماته في العلاقات بين الدول الاستعمارية والقارة الأفريقية في طور المراجعة. وفي عام 2016 نشر البروفيسور السنغالي فيلوين سار كتابًا بعنوان "أفروتوبيا"، تناول فيه الحاجة إلى إعادة التفكير في أفريقيا بناء على "تحرير العقل من الاستعمار"، ليفتح أفقًا للبحث عن تفسير جديد للواقع، يتلاقى مع رؤية الفيلسوف الغيني الاستوائي إوخينيو نكوجو ويقتفي خطى المؤرخ الكاميروني أشيل مبمبي. ولقد لعب أبناء الأفارقة الموزعون في العالم دورًا رئيسيًا في هذه العملية. فبعد النضال من أجل الحقوق المدنية في الستينيات في الولايات المتحدة وما أعقبها من مطالب عالمية بإنهاء التمييز العنصري، وحركات قليلة مثل الـ Black Lives Matter التي ظهرت ضد العنف الشرطي الموجه للسود، تمكنت من إيقاظ الضمائر، خاصةً بعد التوترات التالية لاغتيال جورج فلويد والفيديو الشهير الذي يقول فيه "لا أستطيع أن أتنفس"، تحت ركبة الشرطي ديريك شاوفين. وفيما ينضم الرياضيون السود من كل العالم إلى هذه القضية، ويركعون على ركبهم فيما ينطلق النشيد الوطني ويرفعون قبضاتهم في إشارة للاعتراض، عشرات الأفلام والمسلسلات الناجحة تتناول موضوع العبودية وميراثها. ثمة ستارة تنفتح وتكشف المعاملة المخزية للسود والمنتشرة في العالم الصناعي اليوم. وفي خطاب نيكولا ساركوزي في داكار عام 2007، نفى رواية الشعوب الأفريقية، واستعباد المهاجرين في ليبيا في منتصف العقد الماضي، ما أثار موجة من الاستياء ساهمت في تعزيز خلق الضمير الجديد.

قرنح يتناول في أعماله حياة اللاجئين التنزانيين في أوروبا، "الهوة بين الثقافات والقارات"، التي أشارت إليها الأكاديمية السويدية. أوروبا المحصنة والعاجزة عن تقديم حلول للتحدي في حدودها الجنوبية، يموت فيها كل عام آلاف الشباب الأفارقة وهم يبحثون عن حياة أفضل، من هنا تأتي أهمية تقرير نوبل ودقته. ثمة إشارة مبطنة إلى الحواجز الحدودية في اليونان أمام النساء والأطفال الهاربين من الحرب، وطرد طالبي اللجوء لأوروبا في بلدان مثل تركيا وموريتانيا، أو فرض الرقابة على مد خطوط السيطرة على البلدان الأفريقية، كما في حالة النيجر وليبيا، كل ذلك يعمّق الهوة التي يشير إليها قرنح في أعماله. وينضم الكاتب التنزاني إلى قائمة الكتاب الأفارقة الفائزين بنوبل: النيجيري وول سوينكا، الجنوب أفريقية نادين جورديمر وابن بلدها كوتزي، والمصري نجيب محفوظ. الملفت أن الثلاثة الأوائل يكتبون بالإنكليزية، مثل قرنح، والأخير هو الوحيد الذي يكتب بالعربية، ما يعني أن الثقافة الفرانكو أفريقية لم تمثل حتى الآن بأي جائزة. في المقابل، سينتظر الكاتب نجوجي وا ثيونجو عامًا آخر، بعد أن اختار الكتابة بلغة الأقلية الجيكويو، ورفض الكولونيالية اللغوية.



في مقال له بنفس الجريدة، يشير رافا دي ميجيل إلى النضج الذي يتمتع به قرنح، ليس نضجًا مهنيًا فقط، وإنما نضج حياتي تكوّن عبر تجربة طويلة، فيقول: "يتمتع قرنح بقناعات ثابتة، لكن راديكاليته مغلفة بنبرة مهذبة ومتفاهمة"، ويستعير كلمات قرنح: "يبدو أحيانًا أن الجدل حول الهجرة تغير إلى الأفضل، لكننا نتقهقر من جديد. كل موجة جديدة من المهاجرين تصل إلى المملكة المتحدة - سواء كانوا أفارقة، كاريبيين، باكستانيين، هنود، رومان- يجب أن تمر بجو الكراهية نفسه والرد المتعسف من الحكومة". يقول قرنح إن الرد الأوروبي ينقصه الأخلاق والرأفة، لكن الأسوأ "أنه ليس منطقيًا. المهاجرون لا يأتون بأيد خاوية، إنما يحملون الشباب والقوة والحيوية، وفكرة أنهم يأتون لينتزعوا جزءًا من رفاهيتنا ينقصها الإنسانية".

يحمل عبد الرزاق الجنسية البريطانية، يدرّس الأدب الإنكليزي منذ عقود، يعيش في كانتربيري. لا يمكن أن يكون بريطانيًا أكثر من ذلك. ربما لهذا، بحسب دي ميجيل، يعكس رأيه حول الهجرة في السنوات الأخيرة إلى المملكة المتحدة التعب الذي يتعرض له أبناء وطنه. لكن ما يميز عبد الرزاق آراءه الحاسمة، مثل اعتراضه على البريكسيت واعتباره خطيئة "لكن الناس أرادوا ذلك".

يخبئ قرنح خلف صوته المنخفض والناعم وشبه الخجول، سخرية من السهل الاستسلام أمامها. يقول لأحد الصحافيين "هل تريد حضرتك أن أعيد الجائزة؟"، بعد أن طلب منه الصحافي أن يكون صوتًا ضد المؤسسات ذات النبرة العنصرية والكارهة للأجانب. الحقيقة أنه يتعاطف مع الناس ويتفهمهم، يقول رافا. مع ذلك يتهم المؤسسات بتواطؤها مع ما عارضه في رواياته. يحكي قرنح: "عندما وصلت إلى المملكة المتحدة، كان الناس يتوجهون إليك ويستخدمون كلمات محددة لا تحمل قلقًا ولا خوفًا، ولا حتى ينتبهون إلى أنها كلمات قد تجرحك أو تهينك. كان ذلك يحدث لقلة الوعي أكثر منه الشر المجاني. أعتقد أنه الآن، خاصةً في المدن، مع اختلاط الأطفال مع زملائهم في المدرسة أو اللعب معًا كرة القدم، هناك وعي أكبر بالخطأ والصحيح. مع ذلك، أعتقد أن المؤسسات لا تزال عمياء وسلطوية. وبالتالي لا يمكن الحديث عن تغييرات كبرى".