Print
مارك رينبو

النكبة الفلسطينية.. تاريخ طويل لم تنته مأساته بعد!

20 مايو 2021
ترجمات
"عندما تأسّست إسرائيل في عام 1948، فقد ثلاثة أرباع مليون فلسطيني أراضيهم وبيوتهم وكلّ ما يملكونه، تلك "الكارثة"، النّكبة، لم تتمّ معالجتها أبدًا"- هذا ما تؤكده المقالة التالية التي كتبها المؤرّخ البلجيكي اللامع مارك رينبو Marc Reynebeau (1956)، وتصدّرت مؤخرًا صحيفة "ده ستاندارد" الفلمنكية العريقة. ويرى رينبو، من ضمن أمور أخرى، أنّ "عنف إسرائيل يتفجّر اليوم في وجهها".

 

 (ترجمة: عماد فؤاد)

 

لم يجد الفلسطينيون، في الأيام الماضية، ما يكفي من الوقت كي يتذكّروا الموعد السنوي لخسارتهم التّاريخية، 15 أيار/ مايو يوم حدادهم، والذي يحيون فيه ذكرى النّكبة، "كارثة" 1948، عندما فقد ما يقرب من 750 ألف فلسطيني أراضيهم وبيوتهم وتقاليدهم، وكلّ ما كانوا يملكونه ضاع في سبيل تأسيس دولة إسرائيل. ليس من قبيل المصادفة إذًا، أن أحد أهمّ أسباب اندلاع العنف من جديد، هو حقيقة أن القدس الشّرقية لا تزال تشهد طرد فلسطينيين من منازلهم، لإفساح المجال أمام مستوطنين جدد، ما أعاد إلى أذهان ملايين الفلسطينيين والعرب، الكارثة التي بدأت عام 1948، ولا تزال مستمرة.

وكيف لا يحتفل الفلسطينيون هذا العام بـ"يوم النكبة"؛ هذه المناسبة التي يتمّ إحياؤها بشكل منهجي منذ عشرات الأعوام، على الرّغم من أنّ القانون الإسرائيلي الصادر عام 2011 لم يعد يشجع على ذلك. أرادت إسرائيل حظر الاحتفال من دون شك. فسرديات النكبة الفلسطينية لا تزال تتمسّك بإظهار الجانب المخفيّ والمسكوت عنه في رواية تأسيس إسرائيل يوم 14 أيار/ مايو 1948. لم تستطع إسرائيل إظهار أن فلسطين، البلد الذي كان تحت السيطرة العثمانية بعد انتهاء الانتداب البريطاني عليه عام 1918، بلد بلا شعب، لذلك كان كلّ الطموح الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين وقتها ينطوي على تقسيم واضح للأراضي.


 

التّطهير العرقي

دأب الصهاينة منذ أواخر القرن التّاسع عشر على جمع الأموال لشراء أراض فلسطينية استعدادًا للهجرة اليهودية، ما أثار توتّرات واحتجاجات فلسطينية شرسة في وقت مبكّر من ثلاثينيّات القرن الماضي. وأدّى تدفّق المهاجرين إلى فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية، والذين تشكلوا غالبًا من جماعات وأفراد من اليهود الذين نجوا من الهولوكوست، إلى تصاعد العنف من قبل العصابات اليهودية في فلسطين ضد السكان العرب، إضافة إلى انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، كل هذا أدّى إلى وصول الصراع العربي/ الصهيوني إلى ذروته، ومع عدم وجود مجال عادل لتقسيم الأرض تحت إشراف الأمم المتحدة، بقيت هناك حقيقة لا يمكن لأحد إنكارها، وهي أنه مع تأسيس إسرائيل عام 1948، فرّ ما يقرب من ثلاثة أرباع مليون فلسطيني إلى الضفّة الغربية (التي كانت تحت السيطرة الأردنية آنذاك)، أو إلى غزّة (التي كانت تحت السيطرة المصرية)، أو إلى البلدان المجاورة: لبنان وسورية والأردن. كما لا تستطيع إسرائيل نفسها اليوم أن تنفي رغباتها التوسعية، خاصة مع الحروب التي دخلتها ضد جيرانها العرب.


لكن يبقى السؤال: لماذا لا نزال نجمّل العبارات ونقول بشكل مُلطّف "النّزوح الفلسطيني". هل كان ذلك "النّزوح" بسبب ظروف الحرب فقط، أم أنّه أمر تمّ التّخطيط له، وتطبيقه على النحو الذي تمّ عليه؟ على أيّة حال، لم تعد وجهة النّظر الإسرائيلية التي حاولوا ترويجها من قبل، والقائلة بأنّ القادة العرب تركوا الفلسطينيين يغادرون أراضيهم، لتمهيد الطريق أمام تقدّم عسكري عربي ضد إسرائيل، تقنع أحدًا. إذًا هل كان النزوح الجماعي الفلسطيني نتيجة خطّة إسرائيلية لما بتنا نعرفه اليوم باسم "التطهير العرقي"؟

ولم لا؟ فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقعت حالات مشابهة، حدث ذلك على نطاق واسع في وسط وشرق أوروبا، وخاصة في ما كان يعرف آنذاك بتشيكوسلوفاكيا وبولندا، حيث تم طرد الملايين من "الألمان الشعبيين" إلى ألمانيا. 



إعادة رسم الخرائط

لطالما كانت النظرة الفلسطينية إلى النكبة قصّة طرد واحتلال عسكري، قوامها الاستيلاء على الأراضي وتدمير المجتمعات الفلسطينية. ولم تسلم قرى البدو في صحراء النقب، ولاقت المصير ذاته، وبالطبع كان هناك ما يبرّر ذلك لدى إسرائيل: أصبح فلسطينيو هذه القرى لاجئين وبلا جنسية، وبالتالي لا يمكنهم المطالبة بأيّ حق في العودة أو التعويض. هذه الرؤية النقدية للسياسات العنصرية الإسرائيلية حظيت بتأييد كبير لدى مؤرّخي إسرائيل الجدد في نهاية القرن الماضي، والذين بدأوا يفكّرون بشكل أكثر انتقادًا في الادعاءات التاريخية التي يتم تداولها حول نشأة بلدهم.

أحد هؤلاء المؤرّخين الجدد هو إيلان بابه Ilan Pappé، الذي يصيغ وجهة نظره الانتقادية في كتاب صدر له عام 2006، بقوله: "ما يجري في فلسطين هو تطهير عرقي ممنهج، فمن بين أمور أخرى، هناك تدمير لمئات القرى الفلسطينية، و"إفراغ" كامل لإحدى عشرة منطقة حضرية من سكّانها، ومحو الوثائق التاريخية التي تثبت ذلك". تمّ ذلك ضمن ما يسمّى بخطة داليت Dalet-plan، والتي تمّ العمل عليها لمدة عام كامل. ويستطرد بابه في كتابه فيقول: "في ظهيرة يوم أربعاء بارد، وافق العاشر من آذار/ مارس عام 1948، كانت مجموعة من 11 قياديًا صهيونيًا وعسكريًا يضعون اللمسات الأخيرة على خطّة للتطهير العرقي في فلسطين". وهي الخطّة التي نفذّتها ميليشيات الهاغناه المسلّحة، سلف الجيش الإسرائيلي.

 


تبع ذلك ما أسماه المؤرّخ الإسرائيلي أوري رام Uri Ram "نظام النّسيان": "حيث التّقليل من حجم أخطاء ما حدث عام 1948 في الخطاب السياسي للدولة الإسرائيلية، وتسارع نهب وتدمير البقايا المادية والثقافية والطبيعية التي يمكن أن تشهد على الواقع التاريخي للوجود الفلسطيني في هذه القرى والأماكن، وإعادة رسم الخرائط بأسماء جديدة للأحياء والقرى والشوارع". كلّ هذا أدّى إلى محو ذاكرة التّاريخ الفلسطيني، حتى أنه بات من الصعب اليوم الوصول إلى الأرشيفات الرسمية لهذه الحلقة، ولذلك يحاول المؤرّخون الفلسطينيون والإسرائيليون الآن إعادة سرد ذلك الماضي، من خلال المقابلات مع شهود العيان، والخرائط التي أعيد بناؤها من مراحل تاريخية مختلفة.

كل هذه الأمور، تجعل الوضع اليوم أكثر اشتعالًا، خاصّة وأن أيّ رفض أو انتقاد لأفعال إسرائيل في الغرب صار اليوم مساويًا لمعاداة للسامية.
حاولت إسرائيل أن تمنع الاحتفال بيوم النكبة من خلال قانونها لعام 2011، لكنّها نسيت أن يوم النكبة لدى الفلسطيني لا يحكمه قانون على ورق، الأمر أعمق من ذلك بكثير، لأنه تاريخ طويل لم تنته مأساته بعد.