Print
نجيب مبارك

"جزيرة الغروب".. أضواء على المولى إسماعيل

19 يونيو 2021
تغطيات
بعد 32 رواية تاريخية، تناولت جلها المشرق العربي، ومنطقة الشرق الأوسط، اختار الروائي وكاتب السيناريو الفرنسي، جلبرت سينويه، أن يكرس أعماله الأخيرة لإضاءة جوانب من تاريخ المغرب. ففي روايته الأخيرة، "جزيرة الغروب"، أو "جزيرة المغرب"، التي صدرت رسميًا يوم 4 حزيران/ يونيو الجاري، عن دار "غاليمار" في باريس، نكتشف أضواء جديدة على شخصية السلطان المغربي، مولاي إسماعيل، وهي ليست سوى الجزء الأول فقط من ثلاثية في الطريق، مكرسة لانعطافات حاسمة في تاريخ المغرب.



صيغة مغربية من "الحرب والسلام"
كشف جلبرت سينويه، مؤخرًا، في حوار مع موقع فرانكفوني، أنه أراد لهذه الرواية أن تكون الجزء الأول من لوحة جدارية ضخمة عن المغرب، قد تمتد ربما عبر جزأين، أو تشكل ثلاثية روائية مطولة، بحيث يمكن مقارنتها برواية "الحرب والسلام" لتولستوي (حسب قوله)، لكن في صيغة مغربية، إذ تحكي قصص العديد من العائلات المغربية على مر التاريخ، وتدور أحداثها من بدايات تشكل بلاد المغرب في العصر القديم إلى العصر الأمازيغي، ومن الفتح العربي والإسلامي، مرورًا بالغزو الأوروبي، وحتى استقلال البلاد سنة 1956. لكنه في هذا الجزء الأول، اختار التركيز على فترة حكم أحد السلاطين العظام في تاريخ المغرب، وهو السلطان مولاي إسماعيل، الذي غالبًا ما تتم مقارنته بالملك الفرنسي لويس الرابع عشر، إلى درجة أنه لقب بـ"الملك - الشمس" المغربي، كما تعد فترة حكمه الأطول في تاريخ المغرب على الإطلاق، إذ بلغت 54 سنة، و11 شهرًا و8 أيام، من عام 1672 إلى عام 1727. ويتوقع أن يصدر الجزء الثاني من هذه الملحمة العام المقبل بعنوان مؤقت هو "منقار البطة"، في إشارة إلى صفقة فرنسا وألمانيا حول المغرب، حيث تنازلت فرنسا لألمانيا عن منطقة في أفريقيا على شكل منقار بطة، مقابل استفرادها بالمغرب، عبر إقرار نظام الحماية في عام 1912.




يلمح عنوان الرواية إلى المغرب طبعًا، ذلك أن كلمة "المغرب" في اللغة العربية تضمر معنى الغروب، باعتبار "المغرب" هو "المكان الذي تغرب منه الشمس"، وقد سميت المنطقة "بلاد المغرب"، أو "بلد المغرب"، بسبب الوضع الغربي لهذه المنطقة بالنسبة للخلافة الإسلامية. ومن المعروف أن المسلمين في بلدان المشرق استخدموا أولًا اسم "جزيرة المغرب"، لتسليط الضوء على حالة المنطقة التي تبدو في الخرائط معزولة بين البحر والصحراء. وكانت تشير في كثير من المصادر إلى منطقة "المغرب العربي" حاليًا، أو "المغرب الكبير"، التي تمتد من ليبيا إلى تخوم المحيط الأطلسي. لكن يبدو أن جلبرت سينويه اعتمد المعنى اللغوي أولًا، ثم المعنى الحديث لكلمة "مغرب" (رغم أن الكلمة في العنوان الفرنسي تعني "غروب" حرفيًا) الذي يشير إلى المملكة المغربية فقط، أي المغرب الأقصى ضمن المنطقة المغاربية بلغة المؤرخين القدامى، وفي مقدمتهم ابن خلدون.



اكتشاف متأخر لتاريخ المغرب



يحمل غلاف رواية "جزيرة الغروب" اللوحة الشهيرة للرسام الفرنسي الاستشراقي يوجين دولاكروا، التي تحمل عنوان "مولاي عبد الرحمن سلطان المغرب، يغادر قصره في مكناس، محاطًا بحرسه وكبار ضباطه"، المعروضة ضمن مجموعة "متحف ديزيغوستان" في مدينة تولوز الفرنسية، وهي رواية تستعيد ملحمة السلطان مولاي إسماعيل، أحد البناة العظام للدولة العلوية، التي ما زالت تحكم البلاد إلى اليوم، بعد أن تولى المنصب من شقيقه الأكبر، مولاي الرشيد بن الشريف، وامتد حكمه من مجرد إمارة صغيرة إلى ما وراء منطقته الأصلية بتافيلالت، بينما كان المغرب في ذلك الوقت مقسمًا بين ست مناطق ضعيفة، تولدت بعد تفكك سلالة الملوك السعديين. ولعل من أهم أبطال هذه الرواية ذلك المواطن الفرنسي المدعو كازيمير جيوردانو، الذي يتمتع بميزة أنه كان على اتصال مباشر ودائم مع مولاي إسماعيل، باعتباره كان يشغل منصب طبيبه الشخصي.




يعترف جلبرت سينويه في أحد الحوارات بأن اهتمامه بتاريخ المغرب، وشمال أفريقيا، عمومًا، جاء متأخرًا بعض الشيء. وهو في هذه الرواية التاريخية الأولى لا ينفي أنه تأثر برحلاته الكثيرة إلى المغرب، كسائح أولًا، ثم من خلال أصدقائه المغاربة، في ما بعد، الذين تعلم منهم كثيرًا عن البلد. ورغم افتتانه الكبير بتاريخ المغرب، لاحظ أن هذا التاريخ للأسف مازال مجهولًا، وليس معروفًا بشكل جيد، سواء من طرف المغاربة أنفسهم، أو من طرف الغربيين، لكنه من خلال القراءة والبحث المعمقين اكتشف أن المغرب كان بالفعل جزيرة منفصلة تمامًا عن المحيط الذي تنتمي إليه (هذه الفكرة أيضًا قالها الأستاذ عبدالله العروي)، ولا يمكن مقارنته بالبلدان المجاورة، من الناحية التاريخية على الأقل. وفي رغبته لتكريس رواية تاريخية لهذا البلد، قام ببحث توثيقي مطول لأكثر من عام، حيث قرأ عشرات الكتب والأبحاث في المكتبة الوطنية في فرنسا، كما أنه مدين كثيرًا لمساعدة واستشارة صديقه المؤرخ، مصطفى القادري، الذي اطلع على مخطوطة الرواية قبل نشرها، ودوّن ملاحظات في خصوصها، وهو ما أخذه الروائي بعين الاعتبار من أجل تدقيق الوقائع التاريخية.



رواية عن المولى إسماعيل
لم يرغب سينويه في تأليف كتاب تاريخي جديد عن المغرب، لأن هناك عددًا كبيرًا من البحوث والأدبيات التاريخية عن البلد، وخاصة عن عهد مولاي إسماعيل. وإنما أراد تناول التاريخ المغربي من جانب آخر، أي من خلال السرد الروائي الذي يتقنه ويبدع فيه أفضل من غيره. ومع ذلك، فإنه يعتقد أن اختيار كتابة الأحداث التاريخية في رواية هو اختيار شكل من أشكال الجسور نحو المعرفة، أي جسر يسمح لأي قارئ بالانغماس في أحداث التاريخ الحقيقية. لقد سبق له أن كتب روايات كثيرة عن المشرق العربي والشرق الأوسط، من بينها ثلاثية روائية أيضًا، هي "إن شاء الله"، لكنه لم يكتب عن المغرب مطلقًا حتى اليوم. وسبب اختياره الكتابة في هذا التوقيت راجع في الخصوص إلى اكتشافه لشخصية السلطان مولاي إسماعيل. لقد كتب المؤرخون كثيرًا عن هذا السلطان المتفرد، وكثيرون وصفوه بأنه كان عنيفًا للغاية. لكن سينويه يعترف أيضًا أنه لا يمكن فصل حياة هذا السلطان عن السياق التاريخي للقرون الماضية، بما فيها من حروب من أجل السيطرة والدفاع عن الأرض. لقد عرفت أوروبا أيضًا، مثل غيرها من المناطق في العالم، خلال الفترة نفسها، ملوكًا وحكامًا طغاة، كانوا عنيفين للغاية في الدفاع عن مناطق حكمهم ونفوذهم.




يرى سينويه أيضًا أن ما أثاره في شخصية السلطان ليست القسوة، أو هذه النسخة المعروفة والمستهلكة عن المولى إسماعيل، ولم يكن هدفه تسليط الضوء على العدد الهائل من زوجاته وجواريه وأطفاله، أو كيف كان يقطع رؤوس الناس على سبيل المثال، وإنما ما أثار اهتمامه في هذه الرواية التاريخية هو بالأحرى ما أنجزه هذا السلطان خلال فترة حكمه الطويلة، أي رغبته في توحيد أجزاء المغرب، الذي ظل ممزقًا حتى ذلك الحين، مقسمًا في ما يشبه فسيفساء، كل جزء منها يريد أن يفرض استقلاله عن الكل. وفي مثل هذا السياق المعقد، من الواضح أن السلطان كان عليه أن يتصرف بصرامة شديدة لردع كل أولئك الذين أرادوا أن تبقى الدولة مفتتة إلى الأبد. وبعيدًا عن هذه الصراعات الداخلية، واجه مولاي إسماعيل أيضًا هيمنة الدول الأوروبية التي أرادت الاستيلاء على أراضي هذه "الجزيرة" القريبة. كان عليه أن يواجه إسبانيا والبرتغال وإنكلترا، والعديد من القادة الأوروبيين الذين ادعوا أن لديهم حقوقًا في أراضي شمال أفريقيا. لقد حارب المولى إسماعيل الجميع من أجل إعادة توحيد البلاد، داخليًا وخارجيًا على السواء.



جلبرت سينويه
ولد جلبرت سينويه (واسمه الحقيقي "سمير جلبرت كسّاب") في القاهرة، في 18 شباط/ فبراير 1947، من أب مسيحي ترجع أصوله إلى لبنان، وأم فرنسية. خلال مقامه في مصر، عاش سنوات على متن يخت سياحي كان قد اشتراه أبوه من الملك فاروق، وفيه تعرف على بعض الشخصيات المهمة، واكتشف لأول مرة عالم الموسيقى الساحر، وحضر مرة حفلًا للمغني الشهير، جاك بريل. وفي الثامنة عشرة، هاجرت العائلة إلى بيروت، حيث نال شهادة البكالوريا، ثم انتقل لاستكمال دراسته الجامعية في باريس عام 1968، والتحق بالمدرسة العليا للموسيقى. وبعد تخرجه، حاول الغناء باسم الشهرة "جيل بير"، خلال الستينيات، ولاقت أغانيه نجاحًا بين الجمهور، لكنه في بداية السبعينيات سيبتعد عن الغناء، ويكتفي بتأليف كلمات الأغاني، حيث كتب لبعض المشاهير، مثل داليدا، وكلود فرانسواز.




بدأ جلبرت سينويه مسيرته الأدبية عند بلوغه الأربعين، بإصدار رواية "الأرجوان والزيتون" سنة 1987، وحينها قام بتغيير اسمه إلى "جلبرت سينويه"، مستلهمًا حكاية "سنوحي المصري"، أو البكار الغريق. وخلال الـ35 عامًا الماضية، كتب سينويه العديد من الروايات التاريخية الناجحة، استلهم أغلبها من تاريخ المشرق العربي القديم والحديث، ومعظمها ترجم إلى العربية خلال السنوات الماضية.