Print
بوعلام رمضاني

في تكريم إدغار موران.. إنسان قبل أي شيء

20 يوليه 2021
تغطيات

لاَ يستمِرُّ في الكِتابةِ والتفكيرِ في قضايا عالَمٍ "غيرَ مدركٍ أنَّهُ سائرٌ نحو الهاوية" على حد قولِه فحسب، بل يَرقُصُ على أنغامِ مُوسيقى وطنِ زوجته المغربية السيدة صباح أبو سلام، التي يَعيشُ معهَا كطفلٍ سعيدٍ يَتباهَى بالنقودِ وبالهندامِ الجديدِ صبيحةَ يومِ عيدٍ. إنَّهُ الفيلسوفُ وعالمُ الاجتماعِ إدغار موران- "رجل القرن" على حدِّ تَعبيرِ الرئيسِ الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذِّي استضافَهُ في قصرِ الإليزيه يوم الثالثِ عشرَ من الشَّهر الجاري للاحتفال بعيد ميلاده المائة، ولتكريمه بحضور جاك لانغ، أشهرِ وزراءِ الثقافةِ فرنسيًّا وأوروبيًّا ورئيسَ معهدِ العالمِ العربي، ومائة شخصيةٍ ثقافيةٍ وعلمية وسياسية بارزة.

"رجل القرن"، لم ينتظر تكريمَ الرئيسِ الفرنسي لِكيْ يَتصَدَّرَ واجهةَ الحدثِ الثَّقافي والسِّياسي، وتمكَّنَ منْ صُنعِ حَدَثٍ سابقٍ وأهمٍّ، تمثَّلَ في صُدَورِ كتابِه الجديد "إدغار موران.. دروس حياة قرن" عن دار دونوال، والذِّي صَاغَهُ في شكلِ وصيَّةٍ تَنضَحُ بِعِبَرٍ لا تُقدَّرُ بثمنٍ، لما تَكتَسيه من رمزيَّةٍ خارقةٍ على الأصعدةِ السِّياسيةِ والفكرية والشخصية والعائلية الحميمية.

بعد حلُولِه ضيفًا على أكثَر من قناةٍ تِلفزيونيَّةٍ وإذاعيّة لتمريرِ دروسِه لعامَّةِ النَّاس وليس بحثًا عن شُهرةٍ جديدة، دخلَ المفَكِّرُ الكبير مقر اليونسكو يوم الثاني من الشهر الجاري مُبتسمًا ومُتوقِّدَ العَقلِ والوجدان كعادته غير عابئ بسنِّه المُتقدِّم ليصنعَ فصلًا غيرَ مسبوقٍ من وجوده الفكري والشخصي الخارق، وكان موران يومَهَا ضيفَ اليونسكو وضيفَ نفسه - إن صح التعبير- لأنَّ المؤسسة التي تحمل اسمه شَاركَت بدورها في التنظيم إلى جانب اللجنة الوطنية الفرنسية لليونسكو. في مقرِّ المنظمة الدولية للثقافة والعلوم، أبهرَ مُوران ضيوفَ الحدثِ الثَّقافي الاستثنائي بمُحاضرة دامت حوالي أربعين دقيقة، ودارت أساسًا حولَ مضمونِ "كتابِه الوصية" الجديد كما أشرنا سَلَفًا، وهيَ المحاضرة التِّي أضحَتْ حدَثًا داخلَ حدثٍ بكلِّ المعاييرِ، قبلَ أن يَصْنَعَ حدثًا ثانيًّا كضيفٍ على قاضي بلده الأول الرئيس إيمانويل ماكرون. هنا إطلالة على تكريم "رجل القرن" الذي استطاع أن يُنافس صناَّع خُطَّةِ التحضير لتلقيحٍ إجباري إعلاميًا، وأنْ يَدخُل الذاكرة الفكرية حيًّا يُرزق ليحتلَّ مساحةً كبيرةً تحتَ شمسهَا للأبد ودون استئذان أحد، رغمَ أنفِ محارِبِيه الكُثر.

موران اليهودي الذي أغضبَ اللوبي الصهيوني بسببِ إدانَتِه الظُّلمَ الإسرائيلي الذي يَتَعرَّضُ لهُ شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة، واحد من الذين حُوربوا بأسلوبٍ نازيٍّ كما أشارَ إلى ذلكَ الكاتب سلام الكواكبي في مقاله الذي صدر أخيرًا في صحيفة "العربي الجديد".

إدغار موران لدى دخوله مقر اليونسكو (تصوير: كريستال أليكس)



كتاب وصية ومحاضرة استثنائية

تحدث إدغار موران لإذاعة "فرانس أنفو" الأسبوع الماضي ردًا على سؤال حول الموت بعد رحيل أكسل كان، الذي لم يكتب كتَابه الواحد والثلاثين ويحقق مشاريع أخرَى تُعمِّقَ فرادَةَ شخصيَّته الفكرية والعلمية. وقال موران مشيرًا إلى رحيله الممكن في أي لحظة بقوله "يمكن أن أموتَ بحكم سني وأنا نائم، رغم أنني لست مصابًا بمرض خطير كما حدث لأكسل"، لكنه لم يُشر إلى كتابه الوصية "دروس حياة قرن" رابطًا بين الموت ووصيته. لم يفعل ذلك موران في تقديرنا، لأنَّ الرجلَ متفائلٌ ليس بطبعه فحسب، بل لأنَّه تعلَّمَ من القرنِ الذي عاشَهُ دَرْسَ خروجِ السعادة من رحِم المآسي أو خروج الحظ من رحم اللاحظ على حد قوله في كتابه الجديد الذي زاوج فيه بين سيرته الذاتية والفكرية، كما سَنرى ذلك بالتفصيل في عرضنا لكتابه الأسبوع القادم.

تضمن برنامج تكريم إدغار موران الذي غطَّى ظهيرةً كاملةً، ندوتين تحت عنواني "المسار الفكري لإدغار موران" و"من الفكر المركب والتربية إلى العقل النقدي والبناء"، وأخيرًا التكريم الذي خُصصَ له شخصيًا بحضور زوجته صباح أبو سلام التي غيرت مجرى حياته بعد أكثرِ من طلاقٍ، على حد قوله في كتابه المذكور. وحضر حفل تكريم موران من المسؤولين الرسميين والمعنيين المباشرين بالحفل، كل من آن إيدالغو، عُمدة مدينة باريس الاشتراكية التي قامت بتكريم موران في مقر البلدية لاحقًا، وأودري أزولاي، المديرة العامة لليونسكو، وفيرونيك روجيه لاكان، السفيرة والممثلة الدائمة في اليونسكو، وإيف سان جيورس، رئيسُ اللجنة الوطنية الفرنسية لليونسكو، علاوة على برنار كازناف، وزير الداخلية السابق وجان ميشال بلانكيه، وزير التربية الحالي وشخصيات فكرية وأدبيةٍ كثيرةٍ احترمت التباعد الجسدي وارتدت الكمامات في إطارِ تطبيقِ الإجراءات الصحية المعمول بها.

صورة من الحفل (كريستال أليكس)


ابن اليونسكو

افتتح حفل تكريم موران، جورج حداد، مرحبًا بإدغار موران وواصفًا إياه بالمفكر الإنساني والعالمي الكبير الذي اشتهر بقدرته على تفكيك العالم المعقد والمركب بعيدًا عن كل تبسيط واختزال قاتلين، وتمنى حداد - متوجهًا نحو موران بتأثر كبير- أن يعيش عِشرين سنة أخرى محتفظا بابتسامته الخرافية والسرمدية، ومُعمِّقًا عطاءاتِه الفكرية التي ألهمت أجيالًا عدة من عامة وخاصة الناس فرنسيًا وعالميًا. جلس المفكر الذي نجا عام 1921 من الموت بأعجوبة مُختنقًا بالحبل السري لحظة ولادته أمام شاشة عملاقة تُظهره مُبتسمًا، وقُبالة الشخصيات التي كرمته بشهادات امتزجت من خلالها أبرز محطات ومواقفَ وأعمالِ ومسارِ حياته الفكرية والسياسية بالصفات النفسية والأخلاقية والمزاجية التي زادت من خصوصية وفَرادة شخصيته الآسرة. بعد كلمة الترحيب التي ألقاها جورج حداد، اعتلت منصة التكريم أودري أزولاي، التي لم تتردد في الانحناء لموران قبل أن تخصه بشهادة أكدت من خلالها خدمته المبكرة والتاريخية لليونسكو.

وقالت أزولاي عن موران الذي وصفته بـ"المنير وبمعبِّدَ الطريق الصلب الذي يُجنِّبُ الوقوع في الحفر الكثيرة"، وبابن اليونسكو التي اختارها للاحتفال بذكرى ميلاده المائة، أنه كتب انطلاقًا من عام 1993 في مجلة اليونسكو "بريد اليونسكو" عن أُفُقِ أزمةِ المستقبل، وعن مفهومِ "الأرض الوطن" (1995)، وعن الحوار الحقيقي من خلال الاعتراف بكرامةِ الآخر المختلفِ في عزِّ حديثِ صمويل هنتغتون عن صدام الحضارات (2004). موران مُلهمُنا جميعًا - على حد تعبيرها- هو أيضًا مؤلف كتاب "المعارف السبع لتربية المستقبل" الذي أنجزه بطلبٍ مستعجلٍ من اليونسكو، وهو أيضًا المُبادِر لفتحِ أوَّلِ كرسي جامعي متنقل عن الفكر المركب في المكسيك وفي الأرجنتين لاحقًا تحت إشراف اليونسكو، وصاحب الشهرة المطبقة في أميركا اللاتينية وصديق البروفيسور الراحل راوول دومنغو موتا، المسؤول عن الكرسي الجامعي المذكور. موران ابن اليونسكو، أشرف أيضًا على يوم عالمي حول الفكر المركب عام 2016، وعلى يوم عالمي حول الفلسفة في ظل كورونا العام الماضي.


إدغار موران خلال إلقاء كلمته في الحفل (كريستال أليكس)


لم تَكُن الكلمةُ الأخيرة لمديرة اليونسكو عادية، واضطرت في نهايتها، أن تَلتَفتَ أكثرَ نحو موران الصديق الذي رافق اليونسكو منذ ولادتها. الشيخَ الوقور والطاعن في السِّن الذي عاشَ أهوالَ قرنٍ مأساوي بكل المعايير، ويعيش مآسي قرنٍ جديدٍ يبعثُ على القنوط واليأسِ، لم يقع في فخِّ التشاؤُم المطلقِ والمحبط، ولم يَفقد إيمانه "بثغرات" الأمل الممكن دائمًا بفضل صراع الإنسان الخير ضد الشر، واستمر في تعميق نظرته الشابة - على حد تعبير أزولاي- للقضايا وللبشر، وفي تكريس تفاؤله الخارج من رحم تجربة إنسانية مكنته من إبداع نظرية الفكر المركب المنافي لكل أشكال المقاربات الفكرية الأحادية الجانب والضيقة الرؤية والأفق. بعد أن قالت له متوجهة بحنية وإكبار وإجلال كما تتوجه الإبنة للأب أو الجد "شكرًا موران على هذا الدرس الأخلاقي والإنساني والعاطفي والعقلاني الفريد من نوعه"، راحت أزولاي تشكر زوجته صباح مُنوِّهةٍ بالدور الكبير الذي قامت به مُنسقَةً مع اللجنة الوطنية لليونسكو لتنظيم حفل تكريم زوجها. لحظتها، زاد وجهُ زَوجِها وعاشِقِها إشراقًا كمراهق سرمدي ما زال واقعًا في حب خرافي جديد في سنِّ مائة عام، وموران نَفْسه - وكما سنرى- لم يتردد في بداية محاضرته في تكريم زوجته التي وصفها بالنملة التي لا تتعب، والذي قبَّل يدها وضمَّها إلى يده لصنع مشهد سريالي نادر وهو يُحيِّي الحضور رافعًا يديها ويديه مُصفِّقًا ردًا على تصفيق دام حوالي عشر دقائق.

ضد الحرب في الجزائر

نافسَتْ إيدالغو، عُمدة بلدية باريس، مديرةَ اليونسكو بمداخلةٍ عَكَسَت مَعرِفَةً أدبيَّةً لصيقة بمسارِ وأخلاقِ مَثَلِهَا الأعلى إدغار كما نادته، مُتوجِّهَةً نحوَهُ بٍرأسهَا الذي فشلت في طأطأته بصفة منتظمة احترامًا وتبجيلًا لرجلٍ ليسَ ككُلِّ الرجالِ في عيد ميلادٍ ليسَ ككُلِّ أعيادِ الميلادِ على حد قولها.

موران الذي سبق الجميع للتصفيق رافعًا يَديهِ مُجدَّدا مُتوجهًا إلى مديرة اليونسكو، حظي مرة ثالثة بتكريمٍ مُؤثِّر يرقَى إلى مُستوى خِدمَتِه الفكرية للإنسانية جمعاء وليس لفرنسا فقط. نشاهد في الفيديو الثقافي التاريخي -الذي تحصلت عليه "ضفة ثالثة" بعد أن استعصى على مراسلها حضور الحدث-، آن إيدالغو العمدة الاشتراكية لمدينة باريس، وهي تُعمِّقُ اللحظة التاريخية متجاوزة تكريم مديرة اليونسكو لإدغار بقولهَا عَنه في كلماتها الأولى: "العزيز إدغار، يا  له من درس خارق، ويا له من حظ نادر. اسمح لي أن أغبطكم على حظٍّ تاريخي سَمَحَ لكم ولي ولنا جميعًا، أن نَسعَدَ بِكُم عاجزين عن كيفية تجسيد احترامنا لكم وإعجابنا بكم. أنتم الرجل الذي تعلَّمنا مِنه كيفَ نرى الجوانب الإيجابية من القضايا والتحديات، وكيف يُصنَع الفارق لحظةَ تجاوزِ المِحن والتقاط هامش الأمل مهما ضاقت مساحته" (يبدو أن إيدالغو لا تعرف مثلنا "ما أضيق الدنيا لولا فسحة الأمل").





انتقلت المرأة السياسية السمراء - التي يُعوِّلُ عليهَا البعض لتمثيل الاشتراكيين في الانتخابات الرئاسية القادمة أو لعب دور أول حاسم على الأقل لمواجهة الشقراء فاليري بيكريس ممثلة يمين الجمهوريين-، إلى سردِ محطَّاتِ مسار موران في نقاطٍ تمثلت في معايشته تحرير باريس من النازية التي عاش أهوالها كمقاوم في مرحلة أولى، وتكريسه حياة فكرية استثنائية لاحقًا خدمة للإنسانية جمعاء وليس لوطنه فحسب كونه صاحب فكر عالمي يعكس شعار مونتاني "كل إنسان هو رفيق دربي".

توقفت إيدالغو لاحقًا عند محطة إدغار - كما نادته طيلة الكلمة التي ألقتها- عند مساره الفكري ككاتبٍ يعتبرُ نفسهُ إنسانًا قبلَ كلِّ شيء مُدافعًا عن قِيَمِ الحريَّةِ والكرامة والعدل متجاوزًا الانتماء الوطني والعرقي والديني والإيديولوجي وفق منظور هوياتي وسياسي ضيق، واعتمدت في قولها ذلك على قراءتها كتابه الجديد "دروس حياة قرن".

كما كان منتظرًا، حطَّت عُمدة مدينة باريس رحالها متجولة عبر مسار إدغار عند تحوله التاريخي إلى منظر منهج الفكر المركب غير متناسية في الوقت نفسه مناهضته لحرب الجزائر مثل سارتر، ونوهت في سياق تناولها مسيرته باختصار بالأجزاء الستة التي ألفها بين أعوام 1977 و2006 عن نظرية الفكر المركب التي تنصُّ على الربط وتلفظ التجزئة والتجزئة والتبسيط والتناول الميكانيكي لأمور معقدة ومتشابكة وجدلية بامتياز، ويضحي فيها التناقض والنقد الذاتي والمراجعة دورًا حاسمًا في تطوير المعرفة.

موران المدافع الشرس عن البيئة منذ بدايات مساره الفكري كما أشارت إلى ذلك مديرة اليونسكو، هو أيضا صاحب شعار "العيش يعني أيضًا انتظار وقبول المصادفة"، باعتبارها جزءًا من الحياة المركبة على الصعيدين الفكري والشخصي تمامًا كما بيّن ذلك في كتابه الذي سنعود إليه الأسبوع المقبل في علاقته المباشرة بمحاضرته من منظور التشويق الممنهج، والإسهام الواعي والمخطط أيضًا في تكريم رجل ليس ككل الرجال، على حد تعبير إيدالغو.