Print
ميغيل برافو باديّو

خيرٌ لنا أن نتطلع إلى الأمام دومًا

28 يوليه 2021
ترجمات

 

 

 

وُلد ميغيل برافو باديّو عام 1971 في مقاطعة إكسترامادورا الإسبانية، وهو كاتب طوّع اللغة لتخدمه بقوّة في ما يصرّ على تسميته بالاكتشاف الفني، عمومًا، وليس بالإبداع الفني، كما هو متعارف عليه، فما يحدث هو أن كل كاتب وفنان يصل إلى هذا الاكتشاف من خلال طرق مختلفة، أصلية إلى حدّ ما، وكذلك فرديّة. إنه "حالة إثارة الاستغراب"، بمعنى "إزالة المألوف" في السرد؛ من خلال تحويل أشياء العالم اليومية إلى شيء يثير الاستغراب، ومنحها معنى جديدًا. في القصيدة، هذا الشيء الذي يجب أن "يثير استغرابنا" بتقديم معنى غير اعتيادي، وغير متوقع، هو الكلمة ذاتها، فللكاتب علاقة غامضة مع الكلمة. إنها صديقته، لكنها عدوته أيضًا. إذ إنها لا تساعده كي يقول شيئًا، إنما كي يوحي من خلالها بشيء ما. هو لا يستطيع من خلالها شرح أي شيء، لأنه لا يمكن تفسير الواقع، لكن بالتأكيد يمكنه من خلالها التعبير عن أي شيء، بما في ذلك ما يبدو غير قابل للتعبير. بهذه الطريقة فقط يمكنه أن يعزز قدرتها على إثارة العواطف لدينا كي تَشُقّ في روحنا دربًا قصيرًا من الوضوح والدهشة.

يعتقد باديّو أنه من أجل الوصول إلى الشعر، الشعر بالمعنى الحقيقي، لا بدّ من معرفة كيفية دمج غموض الصمت مع الميتا ـ كلمة. لا بدّ من التقاء الواقع مع الكلمة في روح واحدة هي روح الشاعر. وكيما يتحقق التقاءٌ كهذا، يستخدم الشاعر الأداة الوحيدة التي يمكن أن تضمن له النجاح إلى حدٍّ ما، ألا وهي اللغة الشعرية.

ميغيل باديّو من الكتّاب والشعراء التجريبيين الذين يتبنون مفهومًا في الكتابة يسمى بالنص الميتالغوي، وفيه تنتفي الحدود بين النثر والشعر، بالتالي يمكن أن تتجاور القصة القصيرة جدًا مع القصيدة في فضاء لغوي واحد.

إننا أمام كاتب وظف اللغة كي تخدمه بقوّة وتمنحَه حرية التعبير في أصناف أدبية متنوعة كالشعر والقصة. له عدة أعمال منها مجموعة شعرية "ومضات 2013"، ومجموعة قصصية "شَعْر قط"، اخترنا منهما هذه النصوص.

 

 (مها عطفة)

 

 
عازف البيانو

 

(عازف البيانو يرتجل)

لا سببَ كي يوقف عازف البيانو

عزفه، دعوه ينساب بأصابعه الرفيعة

على لوحة المفاتيح الملمّعة النقيّة.

 

لا تعكّروا وحدته الشجيّة الجديدة

إذا ما استحمّ قمرٌ رقيق ناصع البياض

عاريًا تحت ارتعاشة النجوم

في سكون الليل الألْيَل.

لا سبب كي تقاطعوا نحيبه،

دعوا ستارة المطر تحجبُ روحَه

ـ ما يزال فتيًّا جدًا مثل تحليق عصفور ـ.

وإن كان حزينًا

فذلك بسبب امرأة من ثلج

غفا عناقُها في مياه النسيان.

دعوا عازف البيانو يُنَفِّس عن لياليه

بحزن الوردة الذابلة المرير.

لا سبب كي توقظوه

من حلمه الأخير،

العميقِ الشفافِ كالغياب،

القصيّ سريعِ العطب…كالحياة.

 

عاشر (1) للهواء

 

لحضوركَ الحيّ نشيد،

يرافقك في كل دورة،

وإن عاش، يتنفسُك؛

ذلك أنك وبشفافية خالصة

تزنّر العالم بضمير حيّ.

آه أيها الهواء،

الذي من حركتك الغاضبة،

تولد الريح،

ومن الهادئة يأتي النسيم،

وبأنفاسكَ تلهمُ من يخطُّ هذه الأشعار.

 


قارئ هِرَقْليطُس

 

تتدفق مياه مختلفة

للذين يدخلون

الكتابَ نفسَه.

وحتى حين تعودُ أنتَ نفسَك

إلى صفحاته،

تكون مياهُه قد تغيّرت بالنسبة إليك.

 

فجر

 

ماذا يفيد أن تنظر بأسى نحو الميناء القديم

بينما السفينة تَبْتعدُ عنه من دون توقف؟

خير لك أن تُكَوِّن مبدأكَ في الأفق القصي،

هناك من حيث يطل الأملُ دائمًا دافئًا كالشمس.

ماذا يفيد أن تمعن فكركَ

في وديان الماضي الخضر،

على طرقات وطنك المُداسة،

في أماكن شبابك الأخاذة؟

خير لك أن تحرص ألا يخونَ مستقبلَك

رنينُ الذاكرة الفاتن،

وألا يسيطرَ الحنينُ ـ حلمٌ بلا غد ـ

على روحك الحازمة،

وألا يتربع الحزن ـ ملاذُ الظلال ـ

على قلبك النبيل.

خير لك ألا تغيب عن أنظارك المتحرّقة

ـ المتفحصةِ دومًا ـ نجمةُ الشرق.

الرحلة الطويلة حافلةٌ بالمغامرات،

وما تزال أقبيتُك مترعةً بألف حلم.

لذا ابسط شراعَك للرياح العكسية،

وبصدرك ـ العارم بالحماس ـ

لا تتخلَّ عن بلسم الفرح اللطيف؛

فأمامك يمتدّ العبقُ الأزرقُ للبحر

ـ متوّجًا بالوعود ـ.

لكنك ـ وكما تعلم ـ إذا ما هزّت رياحٌ جامحةٌ

وأعاصيرُ هوجاء السفينةَ الهالكةَ،

تمالك نفسك

وأمسك الدفة بعزم أشدّ،

إذ لن يستغرق وقتًا طويلًا حتى تضحك

البشائرُ الطيبة من جديد حول الصارية.

لا تنسَ أن السفر مهنتُك،

لأجله وُلِدْتَ ولا تعرف قدرًا آخر.

بلى، أيها الرجل الكادح المتمرد،

يا أخي المنكبّ على النشاط الأبدي،

قدري وقدرُك عُرضةٌ

لبطش الدهر المتقلب؛

لكن المُثُلَ التي تحفّز إرادتنا

عنيدة أيضًا،

وفي كافة الأوقات تأسرنا

الحريةُ المنشودة

بطبيعتها الجميلة الخلابة.

لماذا نفكر إذن في التخلي عن الرحلة الشاقة؟

خير لنا أن نتطلّع إلى الأمام دائمًا،

صوب حياة نعيشها.. ونحلم بها،

صوب الأفق العصي.

 

******

 

ملاحظة من المترجمة: يعالج ميغيل برافو باديّو في هذه القصص الأربع القصيرة جدًا موضوعًا متشابهًا، حيث يقوم أستاذ بالتحدّث عن تعقيدات اللغة مع طلابه. في النص الأول، هوية الأستاذ مجهولة، وفي الثلاث المتبقية اسمه خوان دِ مايثينا، الذي يُفترض أنه نسخة عن "خوان دِ مايرينا" في العمل الذي ألفه الكاتب أنطونيو ماتشادو، ونشر عام 1936، والذي حمل عنوانُه الاسمَ نفسه، يجمع فيه مقالات نشرها الكاتب عام 1934، يقوم من خلالها بتحليل المجتمع والأدب ومجالات المعرفة الأخرى مع طلابه.

 

القواعد وأخلاق المواطن

قال أستاذ تربية المواطن: أيها الطلاب الأعزاء، من الصحيح أن قواعد اللغة الإسبانية لم تفعل سوى القليل للفلسفة. كما لا يمكننا أن ننكر أن موطننا ـ هبة الله (2) ـ ما كان بارزًا أبدًا في تلبية الشروط اللازمة لتوالد فلاسفة عظام. إلا أن الأمر لا يثير الدهشة على الإطلاق، نظرًا إلى سوء استخدام اللغة في هذه الأرجاء. فقد قال فيتجنشتاين، وهو مفكر ألماني أنصحكم بقراءته حين تسنح لكم الفرصة، إن من لا يستخدم اللغة على نحو صحيح بالمطلق لا يمكنه أن يطور أفكارًا معقدةً، وإن كل شخص اعتاد أن يلعب على الكلمات، بمعنى أن يكون بهلوان أفعال، لن يصبح أبدًا فيلسوفًا جيدًا. ومع ذلك، فمن الإنصاف الاعتراف أن قواعد لغتنا ساهمت بحبة من رمالها في تحسين الأخلاق لدى المواطنين. ويمكن أن يكون هذا إلى حد كبير مثالًا من بين كثير من الأمثلة الأخرى التي يمكن أن توضح ما أحاول إخباركم به، بحيث لا يمكن لأحد أن يشكك بالحقيقة التي لا يمكن إنكارها، وهي، وفقًا لقواعد لغتنا، فإنه يمكن لشخص أن يكون سيّئًا، بل وسيّئًا جدًا، لكن لا يمكنه على الإطلاق، وبغض النظر عن مقدار آثامه، أن يكون سيئًا للغاية؛ الأمر الذي ما يزال مبعثًا للراحة.

فعلّق أحد الطلاب: بموجب مبدأ الثالث المرفوع (3) هذا يا أستاذ، فإنه كذلك لا يمكن لأحد أن يكون جيدًا للغاية.

بالطبع لا؛ لكني سأكون راضيًا بأن نكون جميعًا جيدين بما فيه الكفاية، من دون حاجة إلى المبالغة في الأمور.

 

في طبيعة القواعد

يتحدث خوان دِ مايثينا إلى طلابه:

الله كلي القدرة، لكن ليس لدرجة أن يتحدى قواعد لغتنا. في الواقع، ليس لدينا أدنى شك بأن العليّ شديد الكمال، لكن بصرف النظر عن مدى الجهد الذي يبذله (وبإمكانه بذل كثير منه) لن يستطيع أبدًا أن يكون شديد الكمال للغاية.

ـ لكن هذا كفر!

كلا يا عزيزي الطالب، هذه قواعد اللغة الإسبانية.

لذا يجب أن تتصدّر قواعد اللغة الإسبانية قائمة الكتب المحظورة.

أعلم أن كثيرين، ومن دون الحاجة إلى أن يكونوا كاثوليكيين من أتباع الكنيسة الرسولية، سيتقفون معك في هذا.

 

في طبيعة الأشياء

يتحدث خوان دِ مايثينا إلى طلابه:

لكل حدث طبيعي بالنسبة للمؤمنين تفسير إلهي. ولكل لغز بالنسبة لغير المؤمنين تفسير طبيعي. إلى أين يقودنا هذا؟ الأمر في غاية البساطة: بالنسبة للمؤمنين، فإن عدم اعتقادهم بأنه يمكن للرعد والبرق أن يكونا شيئًا آخر غير غضب الله؛ وبالنسبة لغير المؤمنين، فإن اعتقادهم بأن الإنسان يستطيع أن يفسر علّة الكون والحياة، هو كما لو أن إمكانية إدراك ما لا يمكن إدراكه أمرٌ في متناول اليد. بهذا أود فقط إخباركم بأن الإنسان قادر على حل الأحجيات، لأن الأحجية شيء قابل للحل؛ لكنه لن يحل اللغز أبدًا، لأن اللغز، بطبيعته غير قابل للحل.

مثل الزيت والماء يا أستاذ؟

نعم يا مانوليتو؛ مثل الزيت والماء.

 

الطريقة العلمية

يتحدث خوان دِ مايثينا إلى طلابه:

لقد توّه ما يسمى بـ مبدأ التناقض ـ الهبة الأرسطية ـ (والذي يقول بما يلي: "يستحيل أن يكون الشيء موجودًا وألا يكون موجودًا في الوقت ذاته") العلماءَ لقرون (في الماضي كان رجال العلم يعمّرون طويلًا)، إلى أن بيّن فيتجنشتاين الشاب أن الفلاسفة (وهنا قد جعل من بينهم أرسطو نفسه) استخدموا اللّغة بشكل سيّء، وهذا هو السبب في أن معظم فرضياتهم تفتقر إلى المنطق. ومنذ ذلك الحين، بدأ العلماء يقرأون للشعراء ـ واضعي اللغة الحقيقيين ـ أكثر مما يقرأون للفلاسفة ـ الذين استخدموها بشكل سيّء للغاية ـ وفي مرحلة معينة خلال هذه الهزيمة الجديدة، تجرّأوا على تصحيح مبدأ أرسطو، وأعادوا كتابته كما يلي: "كل شيء ممكن، بما في ذلك أن يكون الشيء موجودًا وألا يكون موجودًا في الوقت ذاته".

وهكذا، أيها الطلاب الأعزاء، ولدت فيزياء الكم.

 

هوامش:

  1.  العاشر عبارة عن قصيدة من عشر أبيات ذات قافية ثابتة بلغتها الأصل. للعاشر أشكال متنوعة تختلف وفقًا لبنائها وتركيب قافيتها.
  2. استخدم الكاتب العبارة اللاتينية deo gratia [sic] التي تعني هبة الله [كتبت هكذا].
  3. مبدأ فلسفي يقول: إذا صدقت قضية، أو صدقت نقيضتها، فلا مكان لقضية أخرى بينهما.