Print
آنا بلانديانا

الحبّ تمثال ملحٍ بين البشر

4 يوليه 2021
ترجمات


آنا بلانديانا هي بلا شك أبرز شاعرة معاصرة في رومانيا، وأعمالها الشعرية تحظى اليوم باهتمام كبير ومتزايد على المستوى العالمي. وُلدت آنا بلانديانا (واسمها الحقيقي أوتيليا فاليريا كومان) يوم 25 آذار/ مارس 1942، بالقرب من تيميشوارا، في رومانيا. عرفت بقصائدها ضد النظام الديكتاتوري لنيكولاي تشاوتشيسكو، ونضالها السياسي كامرأة ملتزمة ضمن قوى المجتمع المدني، وهي أيضًا كاتبة مقالات وصاحبة رواية متعددة الأصوات حول ظروف الإبداع الأدبي في مجتمع مغلق وشمولي. لديها عدد من الإصدارات، من بينها: "50 قصيدة"، "أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر" 1970، "مغامرات حديقتي" 1972، "ساعة الرمل" 1980، "مغامرات شارعي" 1984، "الكلُّ" 1984، "في صباح ما بعد الموت" 1988، "قطف الملائكة" 1996، "الكتاب الأبيض لسيبوليت" 1997، "الشمس من الخارج" 2000، "تدفق الحواس" 2004، "وطني" 2010. تُرجمت أعمالها إلى عدد من اللغات العالمية.
حين نشرت قصيدتها الأولى باسمها المستعار "آنا بلانديانا"، تعرضت لهجوم من السلطات الحاكمة باعتبارها "ابنة عدو الشعب" (أبوها كان عضوًا سابقًا في الحرس الحديدي الفاشي، وأمضى سنوات في السجون الشيوعية)، ومُنعت من الالتحاق بالكلية لمدة أربع سنوات متتالية. بعد هذا الحصار الذي فرضه عليها النظام الشيوعي في رومانيا، التحقت مجددًا في عام 1963 بكلية الفيلولوجيا في كلوج، ونشرت في عام 1964 أول مجموعة قصائد لها بعنوان دال على التزاماتها المستقبلية: "مفرد بصيغة الجمع". في عام 1967، استقرت في بوخارست، وصارت تعمل محررة صحافية، ثم أمينة مكتبة في معهد الفنون الجميلة بين عامي 1975 و1977، وشاركت عام 1978 في المهرجان الدولي الأول للشعر في باريس. وفي أواخر الثمانينيات، تحملت كثيرًا من مخاطر الانتقام من طرف النظام الشيوعي، بسبب ما كانت تكتبه من قصائد احتجاجية ضد الانتهاكات القاسية والمتزايدة للنظام. وبعد الثورة الرومانية عام 1989، دخلت الحياة السياسية، وقادت حملات للتخلص من الإرث الشيوعي في الدوائر الإدارية. وفي عام 1990، أنشأت "التحالف المدني"، الذي لعب أدوارًا مهمة في إعادة البناء بعد سقوط الديكتاتورية. كما أسست النصب التذكاري لضحايا الشيوعية والمقاومة في سيغيت (شمال رومانيا).
تتصوّر بلانديانا الأدب كشكل من أشكال الشهادة، ومقاومة إرهاب التاريخ. وتنطوي بساطة جملتها الشعرية، وأسلوبها الحميمي في التعبير على شحنة فلسفية كبيرة متأصلة في الشعور المأساوي بالوجود.
النص المترجم أدناه هو مقطع من بين أحد أعمالها الجديدة، يحمل عنوان "تنويعات على موضوع محدّد" (2018)، وهو قصيدة حب طويلة كتبتها الشاعرة بعد وفاة زوجها، في شكل مونولوج درامي شامل، حيث تصبح الخسارة الشخصية انتصارًا للحب على الموت. وفيه تجدد الشاعرة تقليد المراثي من خلال تتبع رحلة صوفية تحوّل غياب المحبوب إلى حضور حقيقي. إنها قصيدة تحتوي على إشارات كثيرة إلى دانتي والكتاب المقدس، وإلى أسطورة يوريديس وأورفيوس، التي أعادت بلانديانا إحياءها من جديد.

                                                          (ترجمة وتقديم: نجيب مبارك)


بين الجسد والروح،
بين المعنى والكلمة التي تُخفيه،
ثمّة غموض كبير،
كأنّ الأمر يتعلّق بمعجزة واحدة
لا فكاك منها،
عندما تكون المعجزة هي الفراق نفسه،
اللّحظة التي ينفصل فيها لحمُ الكلمة
عن عِظام المعنى البيضاء
والجافّة،
فنكتشف أنّ الروح
جمعتنا دائمًا
أكثر من الدّم.

***

تساءلتُ ماذا أردتُ أن أخبركَ
لو عدتَ
وتوصّلتُ إلى استنتاج
أنّني لن ألقّنك الكلمات
ولكن سأعلّمك الصُّور.
أردتُ أن تشاهد
من نافذتي
كيف تُقطَع رؤوسُ الأشجار
في السّماء قبل حلول الظّلام،

أو تلك الشُّجيرة ذات الزهور الحمراء الفاقعة
بين الأشواك،
الّتي وقَفتَ مُبتسمًا بقربها في الصورة؛

أو مشهد المروج المقصوصة
وأكوام التّبن الطويلة
الّتي رأيناها من القطار
في طريق عودتنا من "سيغيت"...

رسائلُ لا يمكن صياغتها،
رسائل سرّية لا توصف،
براهينُ الحقيقة الأسمى،
على حدّ سواء
الأحباب تكفيهم مجرّد نظرة.

***

هكذا، مثل الأفكار غير المكتوبة
التي تتركُ فقط أثرًا غامضًا
في الذّاكرة
مثل آثارِ بعض الخطوات
فوق الرّمال التي تستقبلُها،
يكون مرُورنا عبر الحروف
محفورًا
في أعماقِ
من سيأتُون قريبًا.
يا لهُم من ذريّة هشّة!
أتخيَّل أحيانًا
أنّهم مثل صفحاتِ المخطُوطات،
مثل الأوراق،
يتعفّنون ويتفتّتون
في هيئةِ سَماد.

***

لستُ متأكّدة من أنّك تسمع
حفيفَ الأوراق كأنّها همسٌ في الفكر،
إلّا إذا كان منبثقًا من الأرض
سَيرًا على آثارِ الخُطى المبتلَّة،

لستُ متأكّدة من أنك تهتمّ
بالطيور، والفروع، والفراشات
ولا من أنّك تفهَم
العودَ الأبديّ للبحر.

ربّما سيَجبرونك هناك على التخلّي
عن مقاليدِ النّور التي تربطُنا
حتّى لا أتشبَّثُ بك مثل حبلٍ
في عِشقنا العَبد.

ربّما الحبُّ ليس هو القوّة
التي تحرّكُ النجوم والكواكب
وإنّما مجرّد تمثال ملحٍ بين البشر
ينظرُ إلى الخلف...

***

كلُّ الأسئلة
الّتي طرحتُها بعد فوات الأوان،
طرحتُها على أولئكَ الّذين
لم تعُد لديهم القدرة على الإجابة.
لا أعرف لماذا أَجَّلتُها،
ولا لماذا هذه الأسئلة
لا تولد إلّا حين يغيب
مَن سيجيبُ عنها.