Print
بوعلام رمضاني

جان بول بلموندو ("بيبال").. عليكم بالابتسام

14 سبتمبر 2021
تغطيات

كما كان مُتوقَّعًا وكما يتم مع الشخصياتِ الاستثنائية، أحدثَ رحيلُ الممثِّلِ الشهير جان بول بلموندو في باريس عن عمر يناهز الثامنة والثمانين، إجماعًا في صُفوف كلِّ الفئاتِ الشعبية والنُّخبِ السياسية بشكلٍ قلَّما تَعرفه الأُمَم والشعوب.

بيبال BébeL ـ كما يُطلِق عليه الأصدقاءُ والمُقرَّبُونَ ـ صاحبُ سِتَّةِ عقودٍ من التمثيلِ السينمائي والمسرحي، ومُخْتَرِقَ الأجيالِ، لم يَشقّ قلب النجمِ ألان دُولون، رفيقَ دربِهِ وغريمِه منذُ سِتين عامًا، وكلَّ الممثلين الذينَ خرجُوا من مِعطَفِه فحسب، بل أيضًا قُلوبَ ملايينَ المُواطنين العاديين الذين شبَّوا وشابوا على مَوهِبَتِه الفنية الفذة، وعلى شخصيَّتِه المَرِحَة والطَّيِّبة وابتسامَتِه الخُرافية، كما كَتَب أمين شوقي مراسل قناة "العربي" في باريس نَاشرًا صُورتَه مع ابن النحَّات الجزائري المولد. وَيجدُر بالذكر أنَّ بلموندو يُعَدُّ الثالثَ بعدَ الكاتبِ الكبيرِ جان دورميسون والمُغَنِّي العالمي شارل أزنافور الذِّي حَظِيَ بِتكرِيمٍ وَطنٍّي في السّاحَةِ المُخَصَّصَةِ لأبطالِ الحرب أو المُقاوَمَةِ.

شمس سَتَبْقى تُشرِقُ عَلينَا 

الابتسامةِ العريضةِ لفنَّانِ الشعبِ ملَأَتْ الشَّاشَةِ الضَّخمة التي ثُبِّتَتْ في ساحةِ "الأنفاليد" بشكلٍ سينُوغرافي مَدرُوسٍ بِدِقَّةٍ مُتَنَاهية سَاعدت مُخْرِجَ الـتَّأْبِينِ على إبرازِ عَلاقَةِ هذهِ الابتسامةِ بالكلمةِ المُؤَثِّرَةِ التي ألقاهَا الرئيس ماكرون، والأُخرى التي خصَّها الحفيدُ فيكتور لجَدِّهِ بحضورِ عشرةِ أحفادٍ وحفيداتٍ وابْنَتِه الأخيرة وأفرادَ عَائلةٍ تُؤَكِّد إيمانَ الراحلِ الإيطاليَّ الدَّمِ بِرَمْزِيَّتِها الوُجودية.

أثناءَ عرضٍ تُهزَمُ أمَامَهُ النُّفُوسُ وتَضْعُفُ الأجسادُ وتَدمَعُ العيون وتكْفهرُّ الملامُح على أقلِّ تَقديرٍ، انتصرت في الوقت نَفسِه الابتسامةُ المحتشمة عملاً بوصيَّةِ المُبتسِم الأزَليِّ الذي قال قبلَ أن يَلفظَ أنفاسَهُ الأخيرةِ: "عليكُم بالابتسام وبتفادِي البُكاءِ، لأنَّنِي أَرحَلُ سعيدًا بعدَ أنْ عِشْتُ حياةً جميلةً، وسَيَتَكلّمُونَ عنِّي خلالَ أيَّامٍ وسَتستمرُّ الحياةُ في مَجْراها الطبيعي".

بلموندو يُعتبَر شمسًا ستبقى مُشرِقَة فيِ حياةِ عامة وخاصة الفرنسيين، على حد تعبير حفيده فيكتور، "والنموذجَ الأفضلَ منَّا بقليلٍ والشخصَ الذِّي يُشبِهُنَا جميعًا والفنَّان الذي اخترق كل أعمارنا"، حسب تعبير الرئيس الفرنسي.

الرئيس الفرنسي ماكرون خلال تشييع جثمان جان بول بلموندو (Reuters, 9/9/2021) 


تكريمَ فنَّانِ الشعب والاحتفاء به رسميًّا بشكلٍ غيرِ واقعيٍ كما رأى البعضُ، أحدَثَ شرخًا في صُفوفِ العائلةِ الصّحافية، ولم يُحْدِثَ الإجماعَ كَما تمَّ حولَ شَخصيَّتِه الفنية الفريدَة من نَوعِها بسببِ استياءِ عددٍ غيرَ قليلٍ من الإعلاميين المُعارِضين للرئيسِ الفرنسيِّ إيمانويل ماكرون بوجه خاص. وحدَث ذلك، نتيجَةَ رفضِهم التوظيفَ السيَّاسي لرحيلِ مُمثِّلٍ كانَ أقربَ إلى الشَّعْبِ منهُ إلى السُّلطة، وأبعدَ ما يكونَ عن عَظَمَةٍ أضْحَت شامخةَ وغيرَ مسبوقةٍ على لسان الذِّينَ اعتبروا الراحلَ بطلاً قوميًّا يَستَحِقُّ دُخولَ مقبرة العظماءِ بعدَ نعيِهِ في ساحةِ الأنفاليد ـPlace des invalidesـ فضلاً عن تأخُّرِ حصولِه على التَّكرِيمِ الفنِّي الذِّي يَرقى إلى مستوى مَوهِبَتِه وتاريِخه وهو حيُّ يُرزق.


التوظيف السياسي

الإعلامي اليميني المعروف إيفان ريوفول، صاحبَ اللسانِ السليطِ والمُعلِّق في قناة "سي نيوز" والصّحافي القديم والقدير في جريدة "لوفيغارو"، كانَ أوَّلَ من ندَّدَ بالتوظيفِ السيَّاسي للرئيس ماكرون "المولع بالظهور والذي يعرفُ كيفَ يستغِلُّ مثلَ هذه المُناسباتِ مسرحيًّا وسياسيًّا"، على حد تعبيره وتعبير الصحفي اليساري جان لوي بورغا. أيدته في ذلكَ دونَ تردُّدٍ، وبكثيرٍ من السَّخطِ الصّحافية إليزابيت ليفي، المُعلِّقة الدائمة على قناة "سي نيوز" التي يُطلِقُ فيها الكاتب إريك زمُّور العِنانَ لسُمُومِه ضدَّ كلِّ ما هو مُتعلِّقٌ بالهجرةِ وبالإسلامِ والمسلمين.

ولكن روزلين باشلو، وزيرةَ الثَّقافة اليمينية، وجاك لانغ اليساري وأشهَرِ وُزراء الثَّقافَة إلى جَانِبِ أندريه مالْرو، وَزيرَ الثَّقَافة في عهد الجنرال ديغول، وكلود لولوش، أقربَ المُخْرجين السينمائيين إلى الراحل، رَفضُوا الاصطيادِ في الماءِ العَكرِ في الوَقْتِ بَدَلَ الضَّائِعِ بِشَكلٍ سَخِيفٍ كمَا فَهمنا من تَلمِيحَاتِهِم، واكتفوا بِنَعي فقيدٍ خُرافيٍّ تجاوزَت سُمْعَتَه حدودَ وطنِ فُولتير، كمَا يَعتقِدُ المُمَثِّل الصَّاعِد الشهير جان ديجاردان، الذِّي قَمَع دُمُوعَه وهو يَتحدَّثُ لإحدى القنوات الفرنسية لحظَةَ مُغادَرَتِه ساحة الأنفاليد.

النجم ألان دولون، الصَّديق العدوَّ للراحل، والذي لمِ يحضُر التَّكريمَ الرسمي "لأنَّهُ لم يَكُنْ باستطاعته تحمُّلَ ألمَ اللَّحظةِ الصَّعبة"، حسب بعضِ الذِّين راحوا يُبرِّرُون غيابه، كانَ مِنْ بينِ الحاضِرينَ يومَ الُجمعة في كنيسةِ "سان جرمان دي بري" مِثلَهُ مثلَ كلود لولوش الذي لم يَحضُر التَّكريمَ الوَطنَّي بسببِ ارتباطٍ فنّي، وطبَّقَ دولون وصيَّة الصّديق والعدو الراحل مُبتَسِمًا بعدَ أنْ خلعَ الكمامة أمامَ مُصوِّرين راحُوا يُطاردُون بطلَ فيلم "بورسالينو" الشهيرَ الذِّي تقَاسَم بُطولَتَه مع "بيبال" الرائع كما يُطلَقُ عليهِ أيضًا.

تشييع جثمان جان بول بلموندو (Reuters, 9/9/2021) 



رمز الموجة الجديدة

لم يُحدِث الفقيدَ بلموندو إجماعًا إعلاميًّا في فرنسا مَسقَطَ رأسَهُ فقط، بل تَجَاوزه إلى أشْهَرِ الصُّحُفِ العالميَّةِ ومنْ بينها "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" ومجلة "فاريتي" وصُحُف أجنبيَّةٍ شَهيرةٍ أُخرى مثل "غارديان" البريطانية و"الباييس" الإسبانية و"لوسوار" البلجيكية و"لابريس" الكندية (كيبيك) و"لوطان" السويسرية و"أفتوبلاديت" السويدية و"دي فيلت" الألمانية، وصحفٍ أوروبية وعالمية كثيرة أُخرى لا يَسمَحُ المَقام بذِكرها كلها. وكتبت "نيويورك تايمز" تقول: "بلموندو مثّلَ الجمالِ الخام والازدراء والسخرية، وجسَّد المَوجَةِ الَجديدة في السينما الفرنسية التي أطْلَقَهَا سينمائِيُّونَ كبارَ من أمثالِ فرانسوا تريفو وجان لوك غودار، وهو لا يَختلفُ في خُصوصيته الفنيَّةِ وفي مَسارِه التمثيلي عن مارلون براندو وجيمس دين بِتَقَمُّصِه شَخصيَّاتٍ خَشِنَةٍ فَاقِدَةٍ للَمشَاعِرِ وَفِي قَطيعَةٍ معَ المُجتمَعِ البُرْجوازي، وقامَ بأدوارٍ شَعْبيَّةٍ لاحقًا دُونَ الانسلاخِ عنْ جُرأتِه المِغناطِيسيَّة". كمَا أنَّه صاحبَ ستةِ عُقُودٍ من التَّمْثِيلِ في أكثرِ من ثَمَانِينَ فِيلمًا، وصاحبَ الظهورِ الصَّادِقِ وأدوارِ الصعاليكِ والمُغرَمِينَ المُتمرِّدِين، حسب صحيفة "واشنطن بوست".

في نظر الصحيفة البريطانية الشهيرة كان بيبال أيقونة سينمائية حتى النخاع، وفي تقدير الإسبانية الشهيرة "شخصية قوية وساحرة لا تقاوم"، وكما قال غودار ـ أضافت تقول- "الجمال هو روعة الحقيقة وبلموندو جسَّد هذه المَقُولةِ في فيلم (إلى آخر نفس)". صحيفة "لوسوار" البلجيكية أكَّدَت أنَّه المُمثِّل الذّي وفَّقَ بينَ سينما المَوجَةٍ الجَديدَةِ أو سينما المؤلف والسينما الشعبية، في حين ألَحَّت صحيفة "لابريس" الكنَدية على تمثيله الجسماني الخارق والعجيب: "من يستطيعُ أنْ يَجْري مِثْلَه على سطحِ مِيترو يَسيرُ كما فعل في فيلم (خوف على المدينة)"؟ أخيرًا وليس آخرًا، كتَبَتْ صحيفة "أفتوبلاديت" السويدية تقول باختصار: "بلموندو ساهم في كتابَةِ تاريِخ السينما الفرنسية".

جان بول بلموندو شابًا وبعد إصابته بجلطة دماغية 



رَفضَ جائزة سيزار أحسن ممثل

الممثل جان بول بلموندو الذي وُلد في نويي سير سين ـ Neuilly sur seine ـ قريبًا من باريس العاصمة عام 1933، وعَمِلَ مُنتِجًا تِلفزيونيًا ومُدير مسرح، تَركَ مُبَكِّرًا الدِّراسَةِ في ثانوية لوييه لوغران، والتحق بالمعهد الوطني العالي للفن المسرحي تجسيدًا لميلٍ نَحو التمثيل الذي عاشَ من أجلِهِ وحوّلَه إلى واحدٍ من أشهر الممثلين الفرنسيين والأوروبيين. بدأ التمثيلَ عام 1953 أدوارًا في أفلامٍ شعبية وتجريبية، ولم تمر سنواتٍ قليلةٍ حتى أصبح نجمًا مِثله مثل الرَّاحِلِ الكوميدي فرننديل، وتمكَّن خلال نِصفَ قرنٍ من التَّمثيل أن يفتكَّ إعجابَ 160 مليون متفرجٍ أقبلوا على أفلامه أبرزَ من خِلالِها مَوهبته الكاشفة عن تنقُّلٍ سهلٍ من الكوميديا إلى التراجيديا، وعن تجسيدِ شخصيَّاتٍ خارجةٍ من رحِمِ مُجتَمَعه ومن أشهرها نَذكر "ليون موران راهب" (1961)، "قرد في الشتاء" (1962)، "مئة ألف دولار في الشمس "(1964)، "بورسالينو" (1970)، "التوقف" (1971)، "الرائع" (1973)، "المخ" (1969) و"خوف على المدينة" (1975)، والحيوان" (1977)، و"L’as des as" (1982)، ولم يتفوق عليه في شباك التذاكر إلا الممثل الكوميدي الآخر الأشهرَ لوي دو فوناس. في منتصف الثمانينيات، فضَّل صُعودَ خشبةِ المسرحِ بعد تراجُع أدوارِه السينمائية التي لمْ تُعجب نُقّاد السينما، وأحدَثَ عام 1989 ضجَّةً تَليقُ بشخصيته المُتَمرِّدَة بِرَفضِه جائِزةَ سيزار لأحسن ممثل. رغم تَدهوُرِ صحته، ظهَرَ في فيلم أخير عام 2009 قبل أن يحصُلَ على سُعفَةِ الشَّرف في مهرجان كان عام 2011. كان آخر ظهور له عام 2017 مُتأثِّرًا بالجلطة الدماغية بمناسبة حفل جوائز لي سيزار (القياصرة)، ووَقَف يومَها الُحضُور مُصفِّقًا له بقوّة لعدَّة دقائق، لكن أقلَّ بكثيرٍ نوعيًّا من التَّصفيقِ الشَّعبي الذِّي حَظِيَ به يَومي الخميس والجمعة قبل أسبوعين؛ حيث ظَفِرَ في المرَّةِ الأولى بتكريمٍ وَطَني حَضرَه صُنَّاعُ القَرارِ السِّياسي والثقافي القُدامى والجُدد وألْفَ مُواطن من الشَّعب العادي والبَسيطِ وتَابعه الملايينَ عبر التلفزيون، وفي المرة الثانية حينما خرج ميِّتًا من كنيسة "سان جيرمان دي بري" على إيقاعِ تَصفِيقٍ جَديدٍ ليَدْخُلَ للأبدِ حيّا ذاكرة كلِّ الفرنسيِّين المَدِينِينَ لصنَّاع السَّعادة والأصَالَة الفنية عبر الشاشة وعلى الخشبة.