Print
ثيودورا فيلكوكس

المغسلة في الردهة.. كيف تغيّر الأوبئة العمارة

23 سبتمبر 2021
ترجمات

 

عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى مباشرة، غيّرَ وباءٌ العمارة. ففي حين كان رد فعل بعض المصممين على الدمار والتجربة المؤلمة متمثلًا بديكورات باذخة، اتخذ الحداثويون مسارًا مختلفًا تمامًا، جاعلين تصاميم العديد من المساحات الداخلية شبيهةً بردهة مستشفى. ما يثير الغرابة هنا أن الإنفلونزا الإسبانية (1918) التي سبّبت الهلاك في أرجاء العالم، لم تُذكر إلا لمامًا بعد أن أرخت قبضتها الخانقة في آخر الأمر، إلا أن إرثها بقي ماثلًا في استخدام الإسمنت والزجاج. كما أن الرعب المكبوت الناجم عن حوالي 50 مليون حالة وفاة سبّبها عدو غير مرئي وجدَ نافذة للتعبير في انشغال المصمّمين بالنظافة؛ ذلك الانشغال الذي اكتسب زخمًا مع اندماجه بالتطورات التكنولوجية للقرن الجديد.

كذلك، شهدت عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين فورة في مسألة الاهتمام بالصحة واللياقة البدنية؛ إذ أصبحت الحمّامات سمات عصرية للمنازل، وأعيد تشكيلها باستخدام الخزف اللمّاع سهل التنظيف، والمطلي بالمينا والكروم. كما ظهرت رغبة واضحة بتقوية الجسد أخلاقيًا وبدنيًا: رجلٌ جديد (امرأةٌ جديدة) للعصر الجديد. وفي عام 1911، أقيم "معرض العادات الصحية الدولي" في دريسدن، ألمانيا. ولقي شعبية كبيرة حدّ أن متحفًا ابتُكِر، افتُتِح، وبقي قائمًا حتى اليوم في موقع المعرض الدائم، ثم احتُفي به بتنظيم معرض دولي ثانٍ بذات النجاح عام 1930. لقد كان مؤسس المعرض، صاحب مصنع غسولات فموية، يريد له أن يكون منشأة تعليمية تعرّف عامة الناس على علم التشريح، النظافة، والحياة الصحية.

غرفة ضيوف في مصحّة بايميو


ومع الوقت عزّزت العمارة وتخطيط المدن الحداثويّين هذا الهوس الجديد متخلّصين مما رأى فيه المعماريون مراكزَ مدن كالحة، قذرة، وموبوءة، ليجري استبدالها بساحات مفتوحة ومبانٍ (عامة وخاصة) بيضاء زاهية، ومغمورة بالضوء. كما أزيلت من التصاميم الداخلية سجاجيد القرن التاسع عشر المليئة بالغبار، والستائر الثقيلة، والأثاث المنحوت على نحو كثير التعقيد، لتُستبدَل بأرضيات لينوليوم سهلة التنظيف ولا تحتاج إلى الكثير من الصيانة، مع أثاث عمليّ ونحتيّ.

ومع أوائل عشرينيات القرن العشرين، كانت اللغة البصرية والمكتوبة للعمارة تعكس على نحو مباشر الممارسات الطبية السائدة في آنها. فمن دون وجود مضادات حيوية، ومع كون الفيروسات غير مفهومة كثيرًا، لم يكن أمام الملايين من المصابين بالسل والإنفلونزا إلا أن يعلّقوا آمالهم على الاعتقاد المعاصر بأن التعرّض لأشعة الشمس والهواء النقي من شأنه أن ينقذهم. هكذا، راحت جدرانٌ ناصعة البياض، عاكسة للضوء، ومعقمة على نحو ظاهر، وشرفاتٌ مغمورة بأشعة الشمس، ونوافذ كبيرة وشرفات نوم، تحلّ محلّ العنابر المغلقة الكامدة للمحاجر الفيكتورية؛ حتى إن تسمية "مصحّات" انطوت على وعد بالصحة والتعافي. ثم انعكست سمات التصميم تلك على المساكن والمنتجعات.

داخل مصحّة بايميو 


إن مصحّة بايميو في فنلندا من تصميم ألفار آلتو (1933)، على سبيل المثال، لا تختلف كثيرًا في تصميمها أو بيئتها عن بناء "منزل في الألب" قرب شتوتغارت، ألمانيا، من تصميم أدولف شنيك؛ ذلك الذي بني عام 1930، وقدّم للعمال النزلاء ملاذًا من شأنه أن يعامل المرضى على نحو مريح. غرفٌ مفردة فيها القليل من الأثاث، مغسلة ضرورية قرب الباب، وشرفة لكل غرفة تطلّ على وادٍ أخضر، مع نظام علاجي يشتمل على التمارين الرياضية والطعام الصحي، ساهمت كلّها في ربط "المستجمّين" بالطبيعة، وتغذية الجسد والروح. لقد قدّم هذا المكان الجودة والكفاءة، وألمح إلى أن عيشَ حياة صحية هو واجبٌ أخلاقي. إلا أننا نرى اليوم، بإدراك متأخر بالطبع، أن ذلك، في ألمانيا على الأقل، كان يدفع المجتمع في الاتجاه المعاكس للاتجاه المراد. على أية حال، من الجدير بالملاحظة أن المعماريين، على الرغم من وضع الصحة في مقدمة مفاهيمهم، لم يشيروا إلى الإنفلونزا الإسبانية على وجه التحديد باعتبارها الدافع الذي ساعد بالتأكيد في صياغة تلك المفاهيم.

أما اليوم، وبينما نراقب أثر الوباء الحالي وهو يتكشّف تدريجيًا، فنلاحظ أن الرابط بين صعود الحداثة والتخريب الذي يسبّبه مرض ضرب العالم بدرجة كارثية يتّضح أكثر فأكثر. بالنسبة إليّ، وإذا ما وضعنا السياسة جانبًا، فقد أعجبتني على الدوام العديد من أفكار المعماري الحداثوي الفرنسي- السويسري لو كوربوزييه، على الرغم من أن تنيّقه كان يحيّرني. إذ لطالما تساءلت: لماذا كل هذه المغاسل والمشاطف (البيديهات) موضوعة في أماكن بارزة؟ وافترضتُ أن ذلك كان هوسًا شخصيًا؛ هوسًا تسامحت معه زوجةٌ طويلة الأناة حاكت غطاءً صوفيًا للبيديه الذي ركّبه زوجها لو كوربوزييه في غرفة النوم الزوجية. إلا أن واحدة من أفكاره ذات الخصوصية، المغسلة التي وضعها في ردهة فيللا سافوي في ضواحي باريس (1928-1931)، راحت تتلاعب بعقلي. ولم يعد الأمر يبدو كثير الغرابة. لقد أردتُ واحدة مثلها! كان الأمر منطقيًا تمامًا.

متحف العادات  الصحية 1927-2015 


لا يأتي لو كوربوزييه على ذكر الإنفلونزا الإسبانية، لكنْ، مع انشغاله بالعادات الصحية، وسكنه في فرنسا التي مات فيها 200 ألف شخص على الأقل بسبب فيروس إنفلونزا 1918، لا يمكن أن يكون هذا الأمر قد فاته. كما أننا نستطيع أن نسمع صدى التجربة المؤلمة يتردّد لا شعوريًا في اختياره للكلمات في كتابه "نحو عمارة جديدة" (1923). لا ريب بالطبع أن كلماته تعكس فظائع الحرب، إلا أن ميلًا طبيًّا يظهر عندما يتحدث عن "العمليات الجراحية"، "التشخيص"، و"قبو الموتى". لقد كانت مبادئ التصميم عند لو كوربوزييه بمثابة ترياق للخراب الذي سبّبه المرض، ولا تزال تقدم حلولًا فعالة للعيش في ظل الأوبئة، حتى لو لم تكن قد بنيت آنذاك بشكل مقصودٍ لتحقيق تلك الغاية.

لقد جعلتنا حالات الإغلاق والحجر الصحي الأخيرة نعيد التفكير في حاجاتنا البيتية، ويمكن لنا في هذا الصدد أن نتعلم من منهج لو كوربوزييه. إن "وحدة السكن" في مارسيليا التي صممها لو كوربوزييه (1947-1952)، وعلى الرغم من ذم البعض لها، هي اليوم واحدة من مواقع التراث العالمي في قائمة اليونسكو، ويحبها كثيرًا أولئك الذين يعيشون ضمن شققها الـ337. يفصل هذا البناء نفسه عن التلوث القادم من الأرض بكونه معلّقًا فوق أعمدة صلبة، رغم أن ذلك ليس بأناقة "فيللا سافوي" التي يبدو كما لو أنها تطفو فوق ركائزها الحمائية، إلى جانب ما تحتويه "وحدة السكن" هذه من "شوارع في السماء" متباعدة اجتماعيًا، لكلّ مسكن فيها فتحة وصول خاصة لتلقي الطعام وتوصيلات الحليب، بالإضافة إلى شرفة مشمسة مستقلّة تطلّ على البحر المتوسط. وفي امتدادات البناء العليا، ثمة متاجر، فندق (كان في البداية نزلًا)، مطعم، حيّز تعليمي ومدرسة فنون للأطفال، ثم مصطبة مفتوحة السقف مع مضمار للركض وبركة قليلة العمق. كانت غاية لو كوربوزييه، وفق قوله، أن "يزوّد بالهدوء والعزلة قبالة الشمس، مع امتداد ومساحات خضراء، مسكنًا يكون الاحتواء المثالي للعائلة". كم سينفع هذا البناء كــ"فندقِ" حجْرٍ، أو كحيّزٍ آمن صحيًا يعيش الناس فيه ضمن "فقاعة" كبيرة، مع مساحات مخصصة للتمارين والتنزه، ولتعلم الأطفال ولعبهم. إن فيه كل ما تحتاجه الأسرة في حالة الإغلاق والحظر، وهو يتمتع باكتفاء ذاتي تام.

وحدة السكن في مرسيليا، من الخارج والداخل



لقد جعلنا الوباء جميعًا نعيد التفكير بكيفية عيشنا واستخدامنا للمساحات المتوفرة لدينا، سواء أكانت تلك المساحات خاصة أم عامة. ووجدنا أنفسنا مضطرين لإعادة تهيئتها إلى خليطٍ من أماكن عمل، حجرات للدرس، صالات رياضية، غرف للتلفاز، ومراكز تعقيم. غير أن المساحات العتبية، غير المحبوبة غالبًا، هي التي اكتسبت أهمية جديدة. إذ باتت المداخل المسقوفة والعتبات مطلوبة لإجراء محادثات نفيسة، وتفاعلات متكلّفة مع مَن يوصلون لنا الطرود والطعام. وجدير بالذكر هنا أن هذه المساحات الصغيرة في بريطانيا لا تقارن بمثيلتها من المداخل الرائعة المعمولة على طراز شرفات في الولايات المتحدة وأستراليا؛ تلك التي وصفها المعماري الأميركي ستيف موزون بشكل شعري على أنها "مناطق سحرية وسطى" يستطيع الناس أن يتوقفوا فيها قليلًا ليدردشوا مع الجيران بسلامة وأمان. أما في بريطانيا فلعلّ الأبواب الخلفية هي ما شهدت ارتفاعًا في المكانة باعتبارها الطريق المفضي إلى ما يُسمى بــِ"لقاءات الحديقة". كذلك، قد يكون المرحاض الخارجي البسيط - ظاهرة أخرى كانت مذمومة سابقًا- في طريقه ليشهد نهضة من جديد، على الرغم من أن ذلك قد يبدو رجعيًا للأكثرية.

لكن، وعلى الرغم من هذه الاختلافات، تبقى عتبات بيوتنا، بالنسبة إلينا جميعًا، معقلَ التعقيم الحصين. فهنالك يعلن سائقو التوصيل عن وصولهم، ثم يرجعون خطوات للوراء بينما يُفتح المشبك الحديدي، موْدِعين هناك شحنة البضاعة التي بحوزتهم كما لو كانت ذات إشعاع نووي. كم سيكون مفيدًا اليوم أن يكون لدينا واحدة من فتحات التسليم التي صمّمها لو كوربوزييه! لقد وجد اليابانيون بدورهم حلًا أنيقًا للمداخل من خلال تراث الـ"غينيكان": نقطة عبورٍ حسنة المظهر، نظيفة ومرتبة، تربط بين الخارج والمسكن الداخلي. في هذه المنطقة، التي تُعتبر كذلك مساحة "عامة"، يرحّب الناس بزوّارهم الذين ينزعون أحذيتهم بعد ذلك من أجل يوقفوا تتبّع الأوساخ لهم إلى غرف المسكن إذا ما دخلوا. إن تلك المساحة توّفر فرصة نافعة لإزالة التلوث عن كل ما كان على تماس مع العالم الخارجي، لا سيما إن كان فيها مغسلٌ أيضًا.

إن مصحّة بايميو في فنلندا من تصميم ألفار آلتو (1933)، على سبيل المثال، لا تختلف كثيرًا في تصميمها أو بيئتها عن بناء "منزل في الألب" قرب شتوتغارت، ألمانيا 


علاوة على ذلك، راحت بعض الأبنية العامة، كالمطاعم ودور العرض، تجرّب مؤخرًا رشّ رذاذٍ معقّمٍ على الناس أثناء دخولهم إليها. لكن ثمة طرق أفضل لتدبر هذا الأمر، على نطاق منزلي أو صناعي. نحن نعلم أن الأشعة فوق البنفسجية تستطيع أن تزعزع استقرار الفيروس: لقد كان أولئك الأطباء في المصحّات سابقين لعصرهم من دون أن يعلموا. إن الأشعة فوق البنفسجية مستخدمة بالفعل في المشافي كوسيلة تعقيم، كما أن الحافلات في الصين كانت خلال السنة الماضية تصطف ليلًا في محطات مضاءة بالأشعة فوق البنفسجية. صحيح أن الأشعة فوق البنفسجية العادية، الطويلة منها والمتوسطة (UVA, UVB)، يمكن أن تؤذي الجلد والعينين، ولهذا لا يمكن أن تُستخدم في حضور الناس، إلا أن الأطوال الموجية القصيرة جدًا (far-UVC) التي تتراوح بين 207-222 نانومتر آمنة للأنسجة البشرية، ولا تزال قادرة على إبطال فاعلية مجموعة من الفيروسات بما فيها الإنفلونزا وفيروس كورونا. كذلك، إن العديد من الشركات اليوم هي بصدد تطوير أجهزة صغيرة يمكن تركيبها في الإنارة المنزلية وأدوات منزلية أخرى لكي تنقّي الجو خلال دقائق. ركّبْ واحدة من هذه في نسختك من مدخل الغينيكان، وستحصل على معادلٍ عالي التقنية لمغسلة لو كوربوزييه في الردهة.

لقد علّمنا الوباء أشياء كثيرة، إلا أن عالم ما بعد الوباء الجديد والجسور يستطيع أن يكسب المزيد من خلال البناءِ على دروسِ ماضينا الحداثوي بعيد النظر.

مصحّة بايميو 

فيلا سافوي

السطح والبركة في وحدة السكن، مارسيليا



ثيودورا فيلكوكس: مشرفة هيئة تدريسية ومُحاضرة في كلية الهندسة والتصميم الإبداعي في الجامعة المفتوحة. من كتبها: "الرسم الإبداعي: لا تزال هنالك حياة في الألوان الزيتية". تقطن اليوم في وارويكشاير، المملكة المتحدة.

 

النص الأصلي:

https://psyche.co/ideas/the-sink-in-the-hall-how-pandemics-transform-architecture

ترجمة: سارة حبيب.