Print
ضفة ثالثة ـ خاص

بيري روسي تتسلم "جائزة ثيربانتس": أسباب الحروب تبدو نفسها

25 أبريل 2022
ترجمات

بعد عامين من التوقف نظرًا للظروف الصحية، عاد الاحتفال بجائزة ثيربانتس يوم السبت، 23 أبريل/ نيسان، لتتسلمها الفائزة بها عام 2021، الشاعرة الأوروغوانية، كريستينا بيري روسي، من يد ملك إسبانيا، فيليبي خوان كارلوس، وسط حضور كبير من المثقفين الإسبان والأميركيين اللاتينيين. الجائزة الكبرى التي حصدتها الشاعرة الأوروغوانية تعد نوبل الأدب الإسباني، وهي أكبر وسام يمكن أن يحصل عليه كاتب بهذه اللغة الأوروبية، وبالإضافة لقيمتها المعنوية، تبلغ قيمتها المادية 120 ألف يورو.
لم تستطع كريستينا بيري روسي الحضور بنفسها لاستلام الجائزة، وإلقاء الخطبة، لكنها كلّفت الممثلة الأرجنتينية، ثيثيليا روث، لتحل محلها، وتلقي الخطبة التي تحدثت فيها عن ذكريات بلدها، الأوروغواي، والأدب كأحد أشكال المقاومة، والحرب والكتب باعتبارهما أهم ما أثرا فيها، وكانا أهم محورين في نصوصها الشعرية.
هنا ترجمة لنص الخطبة:

                                                                                                                                                 (ترجمة: أحمد عبد اللطيف)

ثيثيليا روث ممثلة لكريستينا بيري روسي، الفائزة بجائزة ثيربانتس 2022، أمام الملك فيليبي السادس، ورئيسة إقليم مدريد إيزابيل دياز أيوسو في جامعة الكالا في مدريد (22/ 4/ 2022/ فرانس برس)


وُلدتُ في مونتيفيديو عاصمة الأوروغواي عام 1941، عندما كانت أوروبا لسوء الحظ في غمرة الحرب العالمية الثانية. على يسار بيتي، كان يسكن إسكافي عجوز يصلّح الأحذية، كان يهوديًا بولنديًا، هرب بمعجزة من المذبحة؛ وعلى اليمين، موسيقار ألماني متجهم، يضع قماشة سوداء على إحدى عينيه. حين سألت أمي، وكانت مدرّسة للتعليم الأساسي، وعلمانية، ومنفتحة، لماذا لا يتبادل اليهودي والألماني التحية، أجابتني: "لأن بينهما حرب في أوروبا". وأبي، المولود في الريف، لكنه هاجر إلى العاصمة منجذبًا كما يُسمى في التانغو إلى "أضواء المركز"، قال لي شيئًا شديد البساطة: "أوروبا لا وجود لها. هل رأيتِ في الخريطة أي مكان يُسمى أوروبا؟"، ولم يكن ثمة مكان هكذا. وحين سألت لماذا يسمونها الحرب العالمية الثانية، شرحوا لي أنه منذ عشرين عامًا تقريبًا وقعت الحرب الأولى. كان يسكن الحي نفسه منفيون إسبان كثيرون، لأنه بالإضافة لحرب لم أكن أعرف سببها، كانت إسبانيا تعاني ديكتاتورية قتلت الآلاف والآلاف من الأفراد، وأجبرت آلافًا آخرين على الهرب. كان العالم يبدو مكانًا شديد الخطورة خارج مونتيفيديو. لكن مكتبة عمي، وكان موظفًا عموميًا ومثقفًا وقارئًا كبيرًا وكارهًا للنساء بضراوة، سمحت لي بأن أعرف بأن الحياة كانت هكذا دائمًا. منذ البدء، أو منذ الأزمنة التوراتية، أو الإغريقية، أو الطروادية، كانت أسباب الحروب تبدو دائمًا هي نفسها: الرغبة في السلطة، والتطلع الاقتصادي. وهي صفات ذكورية عادةً.



ثمة كتب ثلاثة قرأتها في سن مبكرة أثرت في حياتي: "يوميات" للكاتبة آنا فرانك، "الأم" لمكسيم غوركي، و"دون كيخوته دي لا مانتشا". هذا الأخير، قرأته بقاموس إلى جانبي. كان أصعب قراءاتي، وأكثرها إثارة لمشاعر متناقضة. لم أكن قد قرأت كتابًا أبدًا يعلن فيه المؤلف أن بطله مجنون، لكن في الوقت نفسه أثار عاطفتي أن هدفه كان إقامة العدل، وتصحيح الأخطاء. شيء كان يبدو لي منطقيًا مع أحوال العالم. في الحيّ نفسه، تأتي الجارات لتحكي لجدتي، كان ثمة أرملة قد ربت سبع أخوات يتامى وثلاثة أبناء ـ يتامى أيضًا ـ وأن أزواجهن كانوا سكارى يضربونهن، أو يراهنون بالمال القليل على الخيول، أو يسيرون وراء القحاب، ويسيئون معاملة الأبناء. من جانب آخر، كانت جدتي تذكّرني بالـ آما، لأنها كانت تظن أن القراءة كثيرًا تذهب العقل، وتؤدي إلى الجنون، رغم أني لم أكن أعتقد أن أزواج أولئك النسوة المهانات قد قرأوا كثيرًا، وأن هذا سبب عنفهم.
أنا نفسي كنت أغضب كلما خلط دون كيخوته بين طواحين الهواء والعمالقة. توصلت للتفكير في أن ثيربانتس في الحقيقة كان يستهزئ بشخصيته ليبرهن لنا على أن المؤسسة المعنية بتغيير العالم، وإقامة العدل، هذيانية. حتى قابلت في الفصول الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، قصة مارثيلا. كانت مارثيلا مرمى لطمع الرجال ومحاصرتهم لجمالها وثرائها. اتهموها بأنها المذنبة في انتحار جريسوستومو، إذ رفضته، وبخطاب مدهش ترفض الرجال والزواج وعلاقات السلطة بين الجنسين: تطالب بحريتها، ومن أجل ذلك تنعزل عن المجتمع، وتلجأ إلى الريف، كراعية غنم إضافية "لقد ولدت حرة، ولأستطيع أن أعيش حرة اخترت عزلة الريف"، تقول مارثيلا. ومثل هيلين في الإلياذة، تلعن يوم مولدها، أو كما في يوريبيديس، تتمرد هيلين على المجتمع الذي يعد الجمال كفضيلة وحيدة للمرأة.
بهذه الطريقة، يجرّد ثيربانتس المرأة من الجمال كفضيلة وحيدة، ويصنع من مارثيلا بطلة تراجيدية: ومن أجل الحفاظ على حريتها في مواجهة رجال يريدون السيطرة عليها، والاستحواذ عليها، تعارض الحياة الاجتماعية، وتنعزل عن العالم، وتهرب من الرجال. وبالطبع، فهذه البطلة كانت تصنف بأنها هستيرية وباردة وعصبية، لأنها لم تقم بالدور المكلفة به من قبل المجتمع البطريركي. إن إدراك دون كيخوته الظاهر لشخصية نسائية واقعية جعلني أفكر أن الجنون يمكن أن يكون اتهامًا لإقصاء هؤلاء الذين يكشفون الحقيقة غير المريحة، وهو درس تعلمته بقوة، ودفعت ثمنه غاليًا جدًا، حتى اليوم، لكني لو ولدت من جديد، سأفعل نفس الشيء.




لم يحدّثني عمي الذي كان قارئًا جيدًا لثيربانتس عن هذا المقطع، وبالطريقة نفسها نبّهني أن النساء لا يكتبن، وحين يكتبن ينتحرن، مثل سافو، وفيرجينيا وولف، وألفونسينا ستورني، وأخريات.

كريستينا بيري روسي (26/ 4/ 2006/Getty)


كان واضحًا لي، مثل مارثيلا، أن كوني امرأة ومستقلة في مجتمع بطريركي هو أمر مثير للغرابة والشبهة. وحين ذكرت لجنة التحكيم (وأشكرها لتشريفي بهذه الجائزة) حيثيات فوزي، تحدثتْ عن موهبتي الأدبية الراسخة والكاملة، لكنها أيضًا اعترفت بنضالي من أجل القيم الإنسانية التي تنتهكها عادة السلطة السياسية، أو العسكرية. لقد اضطررت إلى العيش في المنفى بعيدًا عن الديكتاتورية الأوروغوانية، لأني، مثل كاساندرا، حذرت منها ورفضت مجيئها، وكعقاب لي منعوا كتبي، بل وحتى ذكر اسمي. لقد نجوت بحياتي بمعجزة، وجئت لأستقر في إسبانيا، حيث وجدت ديكتاتورية أخرى شرسة تقمع الحرية. لقد حوّلت المقاومة إلى أدب، كما فعل منفيون إسبان كثيرون. وبدلًا من التمرد على المجتمع، مثل مارثيلا، حاولت عبر كتبي وحياتي، كأني دونيا كيخوتية، أن أحارب الخطأ، وأناضل من أجل الحرية والعدالة، لكن بعيدًا عن طريقة الدعاية والواقعية، ولجأت للأليجورية والخيال. لسنا في حاجة لمضاعفة الواقع، وإنما للسخرية منه، أو إعادة تأويله، كما فعل جوناثان سويفت، على سبيل المثال. الأدب التزام كما قال جان بول سارتر، والالتزام هو كل شيء، بدايةً من مقال ضد بوتين، ومرورًا بتكريم للنساء المنتهكات والمعذبات في خواريث، ووصولًا لقصص خوليو كورتاثر. أليس التزامًا، مثلًا، السخرية من الإفراط في التقنية، ومرض بلاتوهات التلفزيون، أو الطقوس الاحتفالية لمتعصبي كرة القدم؟ التزامًا يشبه كتابة قصيدة شعرية تمجد الرغبة بين امرأتين، أو بين رجل وامرأة. الخيال أيضًا التزام حين لا يكون ترقبًا. لم أكن أبدًا مدوِّنة ليوميات الواقع، لقد شعرت في أحيان كثيرة بأني مثل كاساندرا، في الإنياذة، أتنبأ بالمستقبل، وبمخاطر يراها القليلون. لكني لا أكتب أدبًا ساميًا. قد تكون الحياة تراجيديا، دراما، لكن يمكن السخرية منها وتقويض عاداتها وتقاليدها، كما فعل بيسوا بقصيدته "كل جوابات الحب مضحكة". نعم، وبالإضافة لذلك، فهي عذبة، أو عنيفة، مغرمة، أو مؤذية.




لقد بدأ القرن العشرين تقريبًا بحرب عالمية، وانتهى بحرب أخرى محلية، حرب دول البلقان، وجعل بول فاليري يكتب تعريفًا واضحًا لها: "الحرب مذبحة بين أشخاص لا يعرف أحدهم الآخر لمصلحة أشخاص يعرفون بعضهم بعضًا، لكنهم لا يتقاتلون". أحيانًا يغمّني الخوف من أن يكون الشر والعنف واقعًا ثابتًا في الوجود الإنساني، وأن يكون الصراع بين الخير والشر أبديًا، أو مضحكًا، كما يحدث في كتاب ثيربانتس نفسه. لكني حين أسمع أغنية سانسون ودليلة Mon coeur s’ouvre à ta voix بصوت جيسي نورمان، أو أغنية Je suis malad بصوت لارا فابيان، أو Algo contigo بصوت سوسانا رينالدي، أستعيد جزءًا من إيماني بالخير.
وفيما يكرّس البعض حياته لتكوين ثروة، أو الاستحواذ على منابع السلطة، نكرس نحن حياتنا للتعبير عن المشاعر والخيالات، الأحلام والرغبات داخل الإنسان.
كتبت في إحدى قصائدي: "الفراعنة القدامى/ أمروا الكتبة:/ دوّنوا الحاضر/ تنبأوا بالمستقبل". أعتقد أن ذلك لا يزال التزام الكاتب، بدون أي تعالٍ، وبراتب زهيد، وبفكاهة، كما حدث حين كتبت هذه القصيدة القصيرة: "يمكنني أن أكتب الليلة أشد قصائدي حزنًا/ لو كانت القصائد تحل المسألة".
حس الفكاهة هو الحاسة السادسة في الأدب.
يمكنني أن أكتب هذه الليلة أكثر قصائدي امتنانًا، لأوفي بذلك واجبي ككاتبة، رغم أن الشعر لن ينقذ الذين يموتون بالقنابل والصواريخ في أوروبا المثقفة.
بقراءتي لكتب لويس ثيرنودا، أو ثيسر باييخو، تأكد ما كانت أمي تقوله: كلما عرفنا أكثر عرفنا أقل، لذلك فالفضيلة الكبرى هي التواضع. تأكدت أيضًا أن الأدب يرد على التعليم الإنجيلي: "أتكلم بالأمثال ليفهم من يريد أن يفهم". وأنا أيضًا أتكلم بالأمثال.
كما كتبت في قصيدة:
الكلمات أشباح حجارة أبراكادبرا
تطلق طوابع الذاكرة القديمة.
والشعراء يقيمون حفلة اللغة
تحت ثقل الاستدعاء.
الشعراء يشعلون المواقد
التي تضيء وجوه التماثيل القديمة الأبدية.
وحين تنطلق الطوابع يكتشف الإنسان
بصمة أجداده.
المستقبل ظل الماضي في شرارات النار الحمراء القادمة من بعيد،
لا أحد يعرف من أين.