Print
ناصر ونوس

قصر تسيفنغر.. من أهم معالم عصر الباروك في ألمانيا

28 أبريل 2022
تغطيات


ما من أحد تقريبًا يزور مدينة دريسدن إلا وتكون وجهته الأولى زيارة قصر تسيفنغر، فهو تحفة معمارية بكل معنى الكلمة. بل ربما أجمل التحف المعمارية في دريسدن، وإحدى أجملها وأعظمها في ألمانيا وأوروبا.

بنى قصر تسيفنغر المهندس المعماري ماتايوس دانييل بوبلمان (1736-1662) وفق أسلوب عمارة الروكوكو الذي يعتبر امتدادًا لنمط الباروك، ولكن بمقاييس جمالية تتسم بالسلاسة والرقة.

يقع هذا القصر في الجهة الشمالية الغربية من "المدينة القديمة" التي تعتبر جزءًا من القلب التاريخي لمدينة دريسدن. ويقع في المنطقة المجاورة مباشرة للمعالم السياحية الشهيرة الأخرى، مثل دار الأوبرا "سيمبر أوبر" و"القصر الملكي" أو ما يسمى أيضًا "قلعة دريسدن" و"مسرح المدينة" وساحته، إلى جانب معالم تاريخية أخرى. كما أنه لا يبتعد أكثر من مئتي متر عن الضفة الجنوبية لنهر إلبي الذي يقطع المدينة من شرقها إلى غربها.

تعود تسمية تسفينغر إلى المصطلح الألماني من القرون الوسطى الذي يشير إلى التحصينات الواقعة بين الجدارين الدفاعيين الخارجي والداخلي. وتشير الأدلة الأثرية إلى أنه أول سور للمدينة تم إنشاؤه في الربع الأخير من القرن الثاني عشر الميلادي. وتشير إحدى الوثائق التاريخية التي تعود إلى عام 1216 إلى وجود "حصن دريسدن" في ذلك الوقت.

في عام 1427 وخلال حروب الهوسيين بدأ العمل على تعزيز دفاعات المدينة، حيث تم بناء جدار ثانٍ خارجي. بدأت هذه التحسينات بالقرب من البوابة المسماة "فيلدروفر تور". وتم طمر الخندق القديم. كان يشار إلى المنطقة الواقعة بين الجدارين باسم "تسيفنغر"، وكانت المنطقة القريبة من القلعة يستخدمها أفراد البلاط الملكي كبساتين. لكن موقع حديقة القصر "تسيفنغر غارتن" لم يكن معروفًا بالتحديد في تلك الفترة، إلا أنه كان يقع بين التحصينات على الجانب الغربي من المدينة.

في القرن الثامن عشر، لم تؤخذ الوظيفة الدفاعية بعين الاعتبار عندما تم العمل على القصر الحالي، إلا أن الاسم بقي كما هو، وانتقل إلى المبنى الجديد. تم بناء الأجزاء الجنوبية الغربية من المبنى الباروكي لتسيفنغر دريسدن، بما في ذلك بوابة كروننتور، على أجزاء من الجدار الخارجي التي لا تزال ظاهرة إلى يومنا هذا، ولكن لم يعد هناك أي أثر للجدار الداخلي.





التطور الأولي للمدينة في منطقة تسيفنغر

حتى أواسط القرن السادس عشر كانت منطقة تسيفنغر الحالية خارج تحصينات المدينة. كان جزء من نهر فايسريتز يمر بجوار التسيفنغر والذي كان يصب في نهر "إلبي" عند القلعة القديمة. في عام 1569 بدأت عمليات إعادة التطوير وتشييد المباني الجديدة عند التحصينات الغربية للقلعة بناء على المخططات التي وضعها المهندس المعماري الإيطالي روكس كويرين، كونت لينار، الذي جاء من فلورنسا. في ربيع 1570 تسبب فيضان نهر فايسريتز بضرر شديد في أحد السدود ما أدى إلى إعاقة بناء المشروع لفترة قصيرة. وفي عام 1572 توقفت أعمال بناء التحصينات مؤقتًا.

في عام 1689 عاد أمير ساكسونيا فريدريك أوغسطس الملقب بـ "أوغسطس القوي" إلى دريسدن من جولة قام بها عبر فرنسا وإيطاليا. في تلك الفترة كان الملك لويس الرابع عشر قد نقل عرشه إلى قصر فرساي. وعند عودة أوغسطس إلى دريسدن، وبعد أن أجرى التحضيرات ليتم انتخابه ملكًا لبولندا (عام 1697)، أراد أن يبني لنفسه قصرًا مماثلًا لقصر فرساي. فكلف المهندس المعماري ماتايوس دانييل بوبلمان بتصميم قصر تسيفنغر والإشراف على بنائه. فقام بتشييده على مراحل بين عامي 1710 و1728. وقام النحات بالتازار بيرموسر بتوفير منحوتاته. لكن دشن التسيفنغر رسميًا في عام 1719 بمناسبة زواج الأمير فريدريك أوغسطس من ابنة إمبراطور هابسبورغ، الأرشيدوقة ماريا جوزيفا. في ذلك الوقت كان الهيكل الخارجي من المباني قد تم تشييده مع الأجنحة والمعارض، فشكلت خلفية صادمة لهذا الحدث. لم ينته التصميم الداخلي قبل عام 1728، ومع ذلك كان يفي بالغرض من حيث الصالات وقاعات المكتبة ومكان للمعارض.

تسببت وفاة الملك أوغسطس في عام 1733 بتوقف البناء لأسباب مالية. وبقيت منطقة القصر مفتوحة باتجاه ساحة مبنى الأوبرا والنهر. فيما بعد، تم تقليص المخططات. وفي الفترة الواقعة ما بين عامي 1847 و1855 تم إغلاق المنطقة المتبقية ببناء جناح الغاليري الذي يفصل التسيفنغر عن ساحة الأوبرا. كان مهندس هذا المبنى والذي سمي في ما بعد "سيمبر غاليري" هو غوتفريد سيمبر، وهو نفسه الذي صمم دار الأوبرا التي سميت باسمه "سيمبر أوبر".

أثناء القصف الجوي العنيف والتدمير الشامل الذي تعرضت له مدينة دريسدن في الثالث والرابع والخامس عشر من شهر شباط/ فبراير عام 1945 على يد القوات البريطانية، تم تدمير المبنى بشكل شبه كامل. ولكن لحسن الحظ كانت المجموعات الفنية قد تم إخلاؤها قبل القصف.

بدأت عملية إعادة إعمار القصر بدعم من إدارة الجيش السوفياتي في عام 1945، وافتتحت أجزاء من المجمع المرمم للجمهور في عام 1951. وفي عام 1963 تم استعادة قصر تسيفنغر إلى الوضع الذي كان عليه قبل الحرب.

 


متاحف تسيفنغر

يضم القصر الآن ثلاثة متاحف هي: "معرض لوحات المعلمين القدماء"  (Gemäldegalerie Alte Meister) و"مجموعات البورسلان" (Porzellansammlung ) و"صالون الفيزياء والرياضيات"  (Mathematisch-Physikalischer Salon)

معرض لوحات المعلمين القدماء
: يتمتع "معرض لوحات المعلمين القدماء" بسمعة عالمية بضمه لوحات لفنانين معروفين على مستوى العالم مثل "سيستين مادونا" (Sistine Madonna)  للفنان الإيطالي رافائيل، و"فينوس النائمة" (Sleeping Venus) لجورجوني، و"الليلة المقدسة" لكوريجيو، و"مذبح القديسة كاترين" للوكاس كراناخ. ولوحات أخرى معروفة على نطاق واسع لفنانين مثل فان إيك ودورر وهولبين وروبنز ورامبرانت وبوسين وكلود لورين وموريللو وكاناليتو وتيبولو ورايبورن وغراف. وتعتبر مجموعة "معرض لوحات المعلمين القدماء" كنزًا نادرًا من نوعه.

في فترة شبابه زار الشاعر العظيم يوهان فولفغانغ غوته هذا المتحف، وكان مبتهجًا بزيارته هذه. وقد عبّر عن ذلك بقوله: "كانت دهشتي تفوق الكلمات!". الدهشة التي أصابت غوته ما زالت تصيب زائري المعرض حتى الآن؛ فسنة بعد أخرى يجذب هذا المعرض عشاق الفن من جميع أنحاء العالم.

مجموعات البورسلان: كان أوغسطس القوي (1670-1733) شغوفًا بالبورسلان. وتدين مدينة دريسدن بمجموعتها الفريدة من نوعها لما أسماه بنفسه "الذهب الأبيض" الذي كان مهووسًا به، وقد أصابه بما أسماه "مرض البورسلان". أجمل القطع من بين 20000 قطعة تم حفظها، معروضة الآن في الغرف المبهجة داخل تسيفنغر، مقابل الخلفية الباروكية لساحة القصر. يمتد طيف الأواني الخزفية المعروضة من العينات التي يرجع تاريخها إلى أسرة مينج في الصين والمقتنيات الوفيرة من عهد الإمبراطور كانغشي (1662-1722) إلى الأواني اليابانية إماري وكاكيمون من أوائل القرنين السابع عشر والثامن عشر. كما أن تطور خزف "مايسن" منذ اختراعه في عام 1708 حتى أواخر القرن الثامن عشر يتضح أيضًا من خلال الأعمال الحرفية الفائقة الجمال.

على مدى السنوات القليلة الماضية، وضع المهندس المعماري الشهير في نيويورك بيتر مارينو تصميمات للديكور الداخلي للمعارض والقاعات. على سبيل المثال، هناك ترتيب فخم للحائط مع الخزف الفيروزي أمام جدار بنفسجي أرجواني. تم التخطيط لهذه المجموعة في شكل أكبر لقصر البورسلان - القصر الياباني. تتميز قاعة الحيوانات بأغطية الجدران الجلدية على طراز أوائل القرن الثامن عشر. وفي منتصف القاعة هناك نوعان من المراجل على الطراز الصيني مع جناح يبلغ ارتفاعه خمسة أمتار بتصميم صيني يعلوه سقف باغودا وبه أجراس من الخزف. كما يضم المعرض طيورًا خزفية صممها مصمم الأزياء مايسن كايندلر في القرن الثامن عشر.

صالون الفيزياء والرياضيات: تأسس صالون الفيزياء والرياضيات في عهد أوغسطس القوي في عام 1728 ولا يزال حتى يومنا هذا أحد أهم المتاحف في العالم للأدوات العلمية التاريخية. إنه أقدم متحف في قصر تسيفنغر. أعيد تصميم صالة العرض بالكامل. وهي تعرض مجموعة من الأدوات والأجهزة المستخدمة على مدى القرون الماضية لقياس العالم. يمكن للزوار مشاهدة واكتشاف المرايا المصقولة، والساعات الراقية، والأدوات الميكانيكية، والتلسكوبات الضخمة، والنماذج الفلكية، والكرات الأرضية التي مثلت الأرض والسماوات، وحتى تلك التي مثلت القمر والمريخ عبر التاريخ. إن متعة مشاهدة هذه النماذج والتحف لا تتأتى فقط من وظيفتها، وإنما أيضًا من جمالها. إن هذه المجموعة الواسعة من الأعمال الفنية الهامة التي تعود إلى الفترة الممتدة بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، والتي صُممت جميعها تقريبًا لأسباب بحثية ومعرفية، تجعل من صالون الرياضيات والفيزياء متحفًا لا مثيل له. وبوصفه موقعًا للبحث، فقد لعب هذا الصالون دورًا في تعزيز سمعة تسيفنغر على المستوى العالمي طيلة ثلاثة قرون تقريبًا. في أواخر القرن الثامن عشر تم إنشاء مرصد فلكي داخل الصالون. وعلى مدى مئة وخمسين عامًا، تم تأسيس التوقيت المحلي لمدينة دريسدن هنا في هذا المكان - جاعلًا مؤسسة تسيفنغر من مدينة دريسدن أقرب ما تكون إلى "غرينتش ساكسونيا".

يسمح العرض التقديمي الجديد في صالون الرياضيات والفيزياء برؤية الأشياء المعروضة على مقربة شديدة. كما توفر الأفلام والرسوم المتحركة نظرة ثاقبة لطرائق عمل القطع المختارة ووظائفها. وهنا مثلًا يمكن للزوار استخدام أقدم آلة حاسبة ميكانيكية في ألمانيا، والمشاركة في عروض التجارب التاريخية باستخدام أدوات مكررة بدقة. وإلى جانب ورش العمل والجولات المصحوبة بمرشدين سياحيين، توفر هذه العروض التوضيحية رؤى مثيرة حول السياق التاريخي للرياضيات والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا، وفقًا لشعار "صالون الرياضيات والفيزياء مكانًا للتعلم للفضوليين من جميع الأعمار".

بهذا يشكل قصر تسيفنغر في مدينة دريسدن الألمانية مدرسة بحد ذاتها لفنون العمارة وإنشاء المتاحف، إضافة لوظيفته الجمالية والتاريخية والحضارية.

(الصور بعدسة الكاتب)