Print
بيتر بروك

سلطة الخيال.. صفحات من سيرة ذاتية

10 يوليه 2022
ترجمات

غيّب الموت يوم 2 يوليو/ تموز الجاري المخرج والمنظّر المسرحي، بيتر بروك (1925 ـ 2022)، الروسي الأصل البريطاني الجنسية، عن سن ناهز 98 عامًا. بمناسبة هذا الغياب، الذي عدّه كل المسرحيين في العالم خسارة فادحة تستدعي حدادًا عالميًا، نقدم فصلًا من سيرته الذاتية الصادرة بالفرنسية عن دار غاليمار عام 2003 "Oublier le temps".

ترجمة: محمود عبد الغني.

إلى نتاشا
كان من الممكن أن أسمي هذا الكتاب "مذكرات خاطئة". وأنا لا أقصد بذلك الأكاذيب، لكن، وأنا أكتب، تبين لي أن الدماغ لا يتوفر على غرفة باردة نصون فيها ذكرياتنا سليمة. إنه بالأحرى، خزان للعلامات الشذرية التي تنتظر سلطة الخيال لتمنحها الحياة. وهذا بمعنى من المعاني نعمة.
في مكان ما من بلاد إسكندنافيا، كرس رجل يتمتع بذاكرة خارقة نفسه لكتابة حياته. تطلب منه ذلك سنة. وبما أنه شرع في ذلك متأخرًا، فقد تحتم عليه الاختصار، لكن حظه العاثر أثبت جيدًا أن هدف السيرة الذاتية ليس هو سرد كل شيء، بل مواجهة أحاسيس غامضة بشكل محير لم تكن أبدًا لتقوم بهذا الفعل، أو ذاك؛ ومحاولة تبيان ما إذا كان الشكل الواضح قادرًا على الظهور استعاديًا.
من المستحيل الولوج إلى داخل كل الزوايا المخبأة المظلمة بمحفزاتنا. هل توجد محرمات، نقاط وقوف، ومناطق من الظل لن أكشفها. لا أعتقد أن العلاقات الشخصية، وإفشاء الأسرار، والتجاوزات، وأسماء الأصدقاء المقربين، والانفعالات الخاصة، والمغامرات العائلية، وديون الامتنان ـ التي تملأ وحدها سجلًا كبيرًا ـ تستطيع أن تجد مكانها هنا، كما لا يلزم تضمين روائع وشقاوات "العروض الأولى".
لست متأثرًا بتلك التي ترى أنه إذا أضيفت كل التفاصيل الاجتماعية، التاريخية والنفسية، إلى بعضها، ستظهر صورة الحقيقية للحياة. أنا أتفق مع هاملت الذي اعترض ضد الذين يدعون معرفة النسق الكلي للكائن الإنساني، في حين أنهم غير قادرين على تشغيل الشبابة ـ ما أحاول نسجه، قدر المستطاع، هي الخيوط التي ساعدتني على بلورة فهم عملي للأشياء، على أمل أن يساعد هذا شخصًا آخر في تجربته.
تبذل الممرضة قصارى جهدها لتكون لطيفة مع الطفل الذي يبلغ الخامسة من عمره، والذي فاجأه أن يجد نفسه في سرير في المستشفى في منتصف الليل. "تحب البرتقال"؟ تسأل.. "لا"، أجيبها. من فشل مهارتها اليومية، تقول بلهجة قاسية: "رغم ذلك سنعطيك إياها"، وهي تدفعني نحو طاولة العمليات. "خذ، شم هذه البرتقالات"، تقول فيما الكمامة ملصقة فوق منخري. شممت بسرعة رائحة متدفقة ولاذعة، عطسة مجنونة وصعود صاخب. أحاول التمسك، لكن تزل بي القدم. ويمتزج الضجيج بالخوف، إنه الرعب المطلق الذي ينتهي بثقب. أول مرة أفقد فيه الأوهام.
تمر الأعوام، أرتدي لباس الحرب. هو عبارة عن تنكر. هذا الشخص المجهول لا يمكن أن يكون أنا. لكننا في حالة حرب، فطالب أوكسفورد يرغم، بخلاف مواهبه، على التمرن مرة في الأسبوع كي يصبح ضابطًا. كانت فكرة الحرب ترعبني منذ الطفولة. وبما أن هذا الاستحقاق كان يبدو لي بعيدًا، فقد كنت أعتقد دائمًا أنني في أول فرصة متاحة سأختبئ تحت سريري إلى أن تسود الهدنة. وهي أمنية ذهبت سدى. وها أنا ذا أسير بجزمتين ثقيلتين ولباس عسكري يحك جلدي.




اليوم هو الأول في "اجتياز الحواجز". ننطلق مع صوت الصفارة. الرقباء يصرخون مشجعين. وكل المتحمسين يهاجمون مثل المجانين، يتسلقون الحبال المعقودة، يقفزون على الموانع، ويبتلعون الصقالات.
أنا المتهرب الحاصل على شهادة مدرسية، أتراجع إلى الخلف، متجاهلًا استهزاءات الرقيب. أتسلق الحيطان العالية، عوض القفز، أنزلق وأنا أستند على يد واحدة، قبل أن أسقط مجددًا بحذر على الأرض.
عندما يأتي دور النهر الذي يجب اجتيازه فوق جذع شجرة، يكون الآخرون قد اجتازوه منذ زمن طويل واختفوا بصيحات السعادة. "ماذا تنتظر، سيدي؟"، يقول الرقيب مزمجرًا. إن النبرة مهنية، لكنها بالنسبة لي كضابط فـ"سيدي" لا بد منها. أضع جزمتي فوق الجذع، وأمسك غصن الشجرة من فوق. الآن رجلاي فوق الجذع. "إذن، ماذا تنتظر سيدي؟".
أتقدم. "أطلق الغصن". أطلقه. أتقدم خطوتين. أنهض لأحصل على التوازن فأمسك ورقة. الورقة تمدني بالشجاعة. أتقدم خطوة إلى الأمام، من أجل التوازن، هذا شيء جيد. أراقب الوضعية، الجذع يتقدم فوق الماء. يشجعني الرقيب وهو يقوم بحركات الرضى. خطوة أخرى، اليد التي تمسك الورقة هي مستوى كتفي. خطوة أخرى. إلا عندما أطلق الورقة، ولا أستطيع أن أطلقها. "أطلق الورقة"، يصرخ الرقيب "أطلق هذه الورقة الملعونة لوجه الله"، أتردد. يصرخ. أستدعي إرادتي لترغم أصابعي على التراخي، لكنها ترفض. أحاول أن أتقدم، ويداي وراء الورقة تمداني بالثقة، يدي ممدودة عن آخرها، تجرني إلى هذا الاتجاه، فيما رجلاي تذهبان في الاتجاه الآخر. وفي لحظة أميل مثل برج "بيزا"، ثم أنتهي بالتخلي عن الورقة، فأسقط في الماء البارد.

بيتر بروك يناقش مسرحية مهابهارتا مع كاتب السيناريو الفرنسي جان كلود كاريير في مسرح دي بوفيس دو نور في باريس (Getty)


أعود دائمًا إلى الصورة: الورقة والجذع يشكلان جزءًا مهمًا في أسطورتي الخاصة. فهما يعبران عن الصراع الرئيسي الذي قضيت كل حياتي في حله: متى يجب التمسك بيقين ما، ومتى يجب التحرر منه وإفلاته.

* * *

وأنا طفل، كنت أعبد شيئًا، لم يكن ذلك الشيء إلهًا حاميًا، بل آلة عرض سينمائية. لم يكن لي الحق، لمدة طويلة، في الاقتراب منها. وحدهما أبي وأخي يعرفان دواليبها المعقدة، فجاءت اللحظة التي رأت فيها العائلة أنني بلغت السن الذي يخولني القيام بتعبئة البطاريات الصغيرة لأفلام "باثي". كنت أضع شاشة من كرتون على خشبة مسرح عرائسي، وأعيد عرض الصور الرمادية والمرقنة بلا ملل وبالافتتان نفسه. ورغم حبي للصور التي تقدمها آلة العرض، فإنها ظلت في نظري آلة عرض خاصة بالأطفال، وهي لعبة بثمن رخيص مصنوعة من قصدير أحمر ومذهب. كنت أشتهيها. كان والدي وأخي يحاولان إقناعي عبثًا بأن موضوع أمنياتي لا مجال لمقارنته بالآلة الحقيقية التي نمتلكها في البيت. لكن إغواء ذلك الشيء الزهيد القيمة كان أقوى من كل إقناع يحاولان تقديمه. "ماذا تريد أفضل من ذلك ؟ بنس من ذهب لامع، أو قطعة وسخة وبلا قيمة بـ 6 بنسات؟"، أغضبني السؤال، أحسست أنه فخ. لكني كنت أنتهي دائمًا باختيار البنس اللامع.

* * *


اقتدت ذات ظهيرة إلى مكتبة في أكسفورد ستريت، حيث يوجد مسرح للأطفال يعود إلى القرن التاسع عشر. العرض الذي قدم داخل هذا النموذج المصغر كان أول تجربة مسرحية لي. وبقيت إلى هذا اليوم ليس فقط الأكثر حياة، بل الأكثر واقعية.




لم يكن هذا المسرح ـ اللعبة أكثر من تصميم شبيه بتلك التصاميم التي نستعملها اليوم لنهيئ مشهدًا مسرحيًا. كان الوجهاء الفيكتوريون ينحون بحرز من شرفاتهم المزينة بالرسوم، فوق خشبة المسرح الكرتوني. تحت صف الأنوار، في المكان السفلي المخصص للأوركسترا، يتدلى المايسترو لمدة طويلة، ممسكًا عصاه بيده، ومستعدًا لمباشرة النوتة الأولى. لا شيء يتحرك، وفجأة ترفع الصورة الحمراء والصفراء للستار المزين بخصلة خيوط عندئذ يبدأ عرض "صاحب المطحنة وخادمة".
رأيت بحيرة مصنوعة من شرائط كرتونية زرقاء متوازنة، بخطوط مرتعشة تمثل تموج الماء. يظهر في البعيد الشبح الصغير لرجل في قارب يهتز قليلًا، وهو يعبر الماء المرسوم بين ضفتين. وعندما يصل إلى الاتجاه المعاكس، يقترب أكثر، تعويضه، بطريقة غير مرئية، وبتمويل أكبر، إلى أن يصل الشبح نفسه، في الدخول النهائي، إلى نهاية العقدة. الآن هو خارج القارب، ويهدد بواسطة مسدس في يده، ثم ينزلق بطريقة عجيبة إلى وسط الخشبة.
يليق هذا المدخل الملكي بممثل من الدرجة الأولى، يمتلك الحقيقة المطلقة، مثلما يحدث في اللحظات التالية، عندما ينعت الأيادي الخفية فجأة طاحونة شراعية ـ كانت الأشرعة تدور حقًا ـ تحت سماء صيفية زرقاء مرصعة بغيوم بيضاء، وأنزلت جدلًا من ذلك صورة مفزعة لنفس الطاحونة وهي تتفجر، فيصدر عنها ضوء القيامة. وينفجر مركزها البرتقالي إلى أجزاء… كان هذا العالم أكثر إقناعًا من العالم الذي أعرفه في الخارج.
الطفولة هي نزهة دائمة في كل جهة من حدود الواقع. وبعد ذلك، عندما نكبر، نأتي إليها حذرين من الأوهام، أو على العكس من ذلك، لنبحث فيها عن ملجأ نلقي فيه باليومي… سأكتشف أن الخيال هو إيجابي وسلبي في الآن نفسه. يفتح أمامنا حقلًا مليئًا بالألغام يصعب فيه التمييز بين الحقائق والأوهام، حيث ترافق الظلال هذه وتلك. كان عليّ أن أتعلم أن ما نسميه العيش هو قراءة لهذه الظلال، يخون ما نحن لأننا ننخدع بسهولة بالواقع.
ممددًا في سريري بذلك النوع من الحمى الذي يحول الأجواخ إلى خشنة، في يوم لا ينتهي، كنت أستقبل الضجيج القليل الصادر عن الطابق السفلي، وأعتقد أنه ضجيج الآلة أسفل الأرض للشرائط المصورة التي أقرأها كل أسبوع. كنت مقتنعًا أن طريقًا ينحصر في الأرض، وأن القائد الذي له مظهر النذل سيدعوني إلى الالتحاق به في مغامرة جديدة محفوفة بالمخاطر. هيأت حوارنا بعناية، لكن القائد لم يأت… وعدت، إذًا، إلى شيئي المقدس: فيلمان صغيران ثمينان عثر عليهما في مجرى صخري. رفعتهما إلى الضوء، أمسكتهما بين الإبهام والسبابة، وأعدت إليهما الحياة بتحريكهما قليلًا بمفصل اليد. أحدهما، الملون بالأخضر، يظهر شبحين لرجلين فوق السطح، فيما الآخر، الأحمر القاني، يكشف عن شخص يفتح بابًا ببطء. في كل مرة تظهر من هذه الحركات الجزئية قصة جديدة، فاكتشفت بسعادة إمكانيات لا تنفد. يبدو أن السينما والمسرح قد وضعا لمساعدتنا على الهروب إلى "خارج" ما.
يتزاحم الجمهور في قاعة الراديو، أمام صورة رمادية وخشنة على شاشة صغيرة من الزجاج. فتحت طريقي في الزحام لأرى عن قرب هذا الاختراع العجيب الذي اسمه التلفزيون. تظهر الصورة الصغيرة رجلًا يصوب مسدسًا. الكل تلاشى، الجمهور وقاعة العرض. لم يعد لأي شيء أهمية. اندمجت في القصة. لم يبق سوى معرفة ماذا سيحصل. اختبرت للمرة الأولى كيف يمكن للوهم أن يستحوذ علينا، وكيف يمكننا بسهولة أن نختفي في اللاواقعي.
ذات مرة أخرى، في قاعة سينما صغيرة في أحد جبال سويسرا، غصت أنا وأمي في مقعدينا، فيما كانت تجري وقائع الفيلم والإعلان عن البرنامج التالي. هنا أيضًا، أظهرت الصورة رجلًا بمسدس، لكنه هذه المرة مصوب إلى رأس امرأة تظهر بصعوبة فوق مخدة.
تمتم الرجل: “wo ist der Schlussed der Garage”
ما زلت أسمع هذه الجملة، وأحس ببرد في الظهر "أين هو مفتاح المرآب؟". بعد مرور ربع قرن، أوضح لي بريشت كم كان مفيدًا له منع أي تماهٍ بين الجمهور وبين ما يجري فوق الخشبة. وقد أبدع من أجل ذلك كل أنواع الوسائل: الملصقات، الشعارات، أو الأضواء القوية جدًا، لكي يبقي الجمهور على مسافة كافية. كنت أستمع إليه باحترام، لكنني لم أقتنع. يبدو لي أن التماهي قضية ضرورية جدًا مهما اتهمناه. شاشة تلفاز لامع. ورغم أننا نعرف جيدًا أنه مجرد صندوق، وأننا نوجد في غرفتنا، فإننا لم نقتنع بذلك. المسدس، اليد التي تمسكه. الوهم كامل. أين هو مفتاح المرآب.



كانت الأفلام هي نوافذي على عالم مختلف. كنت نادرًا ما أشاهد مسرحية، وإذا ما فعلت فبتحفظ، منساقًا وراء والدتي وحبها للفنون، فيما والدي يشير بطرف عين: "أنت وأنا، لسنا مثقفين، نحن نحب السينما". أشعر وأنا داخل المسرح بأنني مفتون، لكن ليس الحبكة، ولا لعب الممثلين، هو ما أسر مخيلتي، بل الأبواب والكواليس: إلى أين تؤدي؟ أي سر تخبئه؟ ذات يوم، ارتفع الستار فلم يظهر الديكور، ظهرت الجدران الثلاثة للقاعة، بل قنطرة لعابرة محيطات حقيقية. لم يكن من المعقول أن هذه السفينة الفخمة يمكن أن تنهي جولتها بهذا الشكل المفاجئ في كواليس المسرح. كان عليّ أن أعرف أي الممرات انفتحت وراء هذه الأبواب الكبيرة. وماذا كان يختبئ وراء النوافذ إذا لم يكن البحر، فإنه بكل تأكيد المجهول.
كنت أستقل كل يوم الميترو للذهاب إلى المدرسة، وهو قطار أسطواني كما يدل على ذلك اسمه. يشق الطريق عبر الأنفاق. وفي كل محطة، على كل رصيف، توجد أبواب من الحديد الملتوي عليها تنبيه "ممنوع الدخول".
لم تكن لي الشجاعة لتحريك قبضة هذه الأبواب المصفحة، رغم إحساسي الحميمي بأن هنالك عالمًا غنيًا وغريبًا مليئًا بالمعجزات يختبئ وراء هذه الجدران، يقود إلى عالم آخر، وإلى آخر. تم إلى آخر… حتى اللامنظور.




في أيام العطل، كنت أذهب للنزهة راكبًا دراجتي، وكنت أنام فوق التراب محاولًا الإنصات إلى أنفاس الأرض. كنت أريد الغوص في الطبيعة، فكنت أضغط، إذًا، على الصخور، كما لو أنها جرس صغير في باب الدخول، على أمل أن يجيب مخلوق ما على ندائي، ذات يوم، أنا سعيد كنت ممددًا فوق العشب المرتفع، خرج سؤال من العدم واستقر في حنجرتي "ماذا لو كنت في هذه اللحظة قريبًا جدًا من الحقيقة أكثر من أي وقت؟ وماذا لو أن بقية حياتك لن تكون سوى ابتعاد تدريجي عما تحسه الآن؟".

* * *

فتيات فاتنات، فتيات قصيرات، سمينات، متعرقات مجردات من كل جاذبية، شبان بسراويل مقلمة وقبعات مستديرة ومنفوخة يقرأون الصفحات المالية في جرائدهم...
عيني المراهقة المنبهرة تتجول من صف إلى آخر في هذا القطار السفلي، وكلما ركزت على شخص مسن هائم النظرات في الفراغ، تعود الأسئلة نفسها: "لماذا الشيخوخة؟ أمحكوم على الكتفين بالتقوس مع الزمن، وهل الرغبة في الأشياء يجب أن تتناقص؟ هل هذا الانزلاق الطويل إلى القبر جزء من تصميم الطبيعة؟".
أسير في الشارع، أتأمل أشباهي باستغراب، وأتساءل: "من أين جاءت هذه المخلوقات؟ كم هي غريبة!".. أرى وجوها من دون أن أميزها، كما نتصور كائنات المريخ، كرات من اللحم بثقوب وحدبات، تمشي في كل الاتجاهات، محبوسة داخل علب بشعة ومصفحة.
كنت أقرأ أعمالًا علمية، ليس بهدف التثقيف والسمو، بل لأنني أسرت بالأفكار التي تثيرها. في تلك المرحلة، ترك شخص يدعى جيمس دين أثرًا عميقًا بواسطة كتبه حول الزمن، اعتقدت بالتهامها أن كل الأسئلة حول الوجود قد حلت أخيرًا. "الخلود، كتب، هو البيانو، والزمن هو اليد التي تضرب عليه"، بدا لي أن هذا التفسير لا عيب فيه، أنيق وكامل في الآن نفسه.
فيما كنت أمشي، ذات يوم، في شارع شارينغ كروس رواد، أثار انتباهي كتاب معروض في واجهة إحدى المكتبات. ينتشر عنوان Magik على الغلاف. في البداية أحسست بالخجل، فهدفي كان شيئًا آخر، فتظاهرت بالبحث في الرفوف، قبل أن أقف وراء مجلد كبير، وبدأت أقلب صفحاته خلسة. فجأة أثارت انتباهي الجملة الآتية:
"التلميذ الذي بلغ درجة “Magister Primus” يمكن أن يبلغ الثراء والنساء الجميلات، ويستطيع أيضًا أن يجند طوعًا رجالًا مسلحين". هذا شيء لا يقاوم! اشتريت الكتاب رغم سعره المرتفع، وانطلقت توًا أبحث عن الكاتب، اسمه وحده، آليستر كراولي، يبعث على الرعشة، لأنه منذ العشرينيات له سمعة الرجل الأقبح في العالم. مكنتني الرسالة التي أبعث بها إلى الناشر من الحصول على رقم الهاتف، الذي بدوره مكنني من الموعد. كان الساحر الكبير يرتدي بذلة من تويد (من الصوف الخشن). رجل مسن ولطيف. كان يبدو أنه متأثر بالاهتمام الذي أبديته حياله. وبقينا نلتقي مرات عديدة، نتجول في "بيكاديللي". والشيء الذي حيرني أنه وقف وسط مرور السيارات، وبدأ يلوح بعصاه المرصعة، ويوجه ابتهالاته إلى شمس منتصف النهار.




اصطحبني ذات يوم لتناول الغداء، وهنا مرة أخرى، بين ملعقتين من الحساء، بدأ يصرخ وهو يمارس إحدى صيغه السحرية أمام الزبناء المنذهلين. فترة قليلة بعد ذلك، أذن لي أن أخفيها في غرفتي بأكسفورد، حتى أتمكن من التأثير وأنا أعرضه خلال الحفلة المقامة بالثانوية. في اليوم التالي، احتد بعنف في وجه خادم الفندق الذي طلب منه رقم غرفته "666، رقم الشيطان الكبير، طبعًا!"، كان يصرخ.
قبِل أن يكون مستشارًا في السحر، في العرض الأول لـ"دكتور فاوست" الذي قدمته في مسرح صغير بلندن. وحضر لأحد التمرينات بعد أن واعدني بأن لا أحد سيعرف من هو، كان يريد فقط الجلوس في خلفية القاعة، من دون أن يلحظه أحد. والحال أن "فاوست" كان بالكاد قد شرع في استلهام الشيطان الذي كان شيئًا صعبًا عليه. نهض في وثبة وهو يصرخ: "لا! لا! ولا! إن ما يلزمك هو قدم مليء بدم الثور. إن ذلك يجلب الأرواح الحقيقية، أعدك بذلك!". وعاد إلى الجلوس وهو يشير لي بطرفة عين. ثم ثاب إلى رشده وضحكنا جميعًا.
غلبت على سنواتي الأولى شكوكيتي الطبيعية وميلي إلى السخرية، من جهة. وحاجتي إلى الإيمان من جهة أخرى. كنا ندرس التاريخ المقدس في المدرسة على يد المحترم هابرشون. كانت لديه عادة حك وجهه بيديه، إلى أن نراه أحمر ومحززًا. وكنا نحس كما لو أنه اقتطع طبقات من الجلد. عرفت في طفولتي أنني كنت يهوديًا وروسيًا، لكن هاتين الكلمتين بقيتا بالنسبة لي فكرتين مجردتين. وأحاسيسي كانت مشبعة بعمق بإنكلترا: البيت كان بيتًا إنكليزيًا. الشجرة، شجرة إنكليزية. النهر نهر إنكليزي. كانت تسود أيضًا حماسة مشعة وسرية. وعندما بلغنا جميعًا سن الصدق، ذهبت عند م. هابرشون، خجولًا شيئًا ما، راغبًا جدًا في أن يقبلني في هذا السفر الروحي! كنت متضايقًا لأنني فتحت قلبي لمن كان هزأة أمام سخرياتنا. كنت خائفًا أيضًا أن أتطرق لموضوع الله وسط أسرتي، البعيدة جدًا عن المناخ العقلاني السائد.
اقتعد م. هابرشون كرسيًا وأعلن وهو يحك وجهه: "هنالك لحظات في الحياة نتوصل فيها إلى المعرفة من دون أن نتمكن من اختيار أنفسنا بأن "هناك هي اللحظة، وإذا تركتها تمر، لن تعود أبدًا". لم أكن أعرف أن هذه هي اللحظة التي تحدث عنها، ولم أبارك وأريد كل شيء مرة واحدة. لم تكف الجملة التي قالها عن ملاحقتي. كيف نعرف "بأنها اللحظة"؟ واليوم أيضًا تخيفني فكرة أنني تركتها تضيع. ولأنني أيضًا سأتركها تضيع مرة أخرى.
كنت كل صباح في أكسفورد أعيش لحظة ثمينة، عندما أجتاز الباب المشبك الذي يؤدي إلى طريق خاص، على طول النهر كان النبات كثيفًا، لكن عندما تشرق الشمس تضيء أصغر الأغصان، وتظهر كل عش، وكل تشابك أفنان، وجذوع، وأوراق. كنت أشعر وأنا أمشي بسعادة كبرى أمام كل هذه الوجوه التي لا تغني، والتي تتغير عناصرها مع كل خطوة من خطواتي. كنت أحيانًا أتأرجح بطريقة أحرك بها تعاقب المشاعر هذا، وأوقظ أكثر الصور الهاربة. كنت إذًا واعيًا بأن تنفس جذر مجهول بدأ يولد داخلي، وأن معنى الجمال يبدو أنه لا يفترق عن شكل ما للحزن، كما لو أن التجربة الجمالية هي تذكير بفردوس مفقود، يخلق الطموح ـ نحو ماذا؟ هذا ما أستطيع الخوض فيه.
ابتلعت، سنوات بعد ذلك، قرصًا مهلوسًا مستخلصًا من فطر مكسيكي. وخاب ظني من كوني لم ألج عالمًا من الرؤيات العجيبة. ثم أحسست، وهذا ما فاجأني، بحساسية حادة في طرف إبهامي. كان إدراكي لكل تفصيل عن طريق اللمس، هذه المرة، غنيًا ونشيطًا، إلى درجة أني كنت مستعدًا للتخلي عن كل حواسي الأخرى. قبلت بأن أكون أبكم وأعمى في وقت واحد، شريطة الاحتفاظ باللمس، لأن هذه النقطة الصغيرة كانت عالمًا وحدها. هل ولجت قلب اللحظة الزائلة؟