Print
جارِد مارسيل بولين

عن الكتابة الأدبية والكتابة الصحافية.. "كل شيء ينتهي بتغريدة!"

2 أغسطس 2022
ترجمات



ترجمة: دارين حوماني

في عام 1895، ومع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر، أدلى ستيفان مالارميه (1842-1898) بعبارته الشهيرة أن "كل شيء في الوجود ينتهي به المطاف في كتاب". لقد كان بيانًا جديرًا بذلك العصر - Fins de Siècle*- يشبه النبوءة. ومع ذلك، فإن هذا التصريح لم يظهر فعليًا في كتاب ولكن في دورية فرنسية La revue blanche، الوسيلة ذاتها التي اعتقد مالارميه أنها ستتجاوز الأدب يومًا ما، ولكنه لم يقصد أنه سيتم استبدال الأدب بها. لقد كان يعتقد أن حجم الصحافة وسرعتها من شأنه أن يفكك الكتب ويستوعبها في مخطط سردي أكبر. لم يكن رثائيًا أو يطلق العبارات من ذلك النوع المبتذل الذي يتحدث عن موت الأدب وموت محو الأمية وغير ذلك. بدلًا من هذا، رأى، بنشوة متناقضة، احتمالية أن يصبح الأدب أشبه بالأخبار، مُجزأ، متعدّد الأصوات، ووسيط ديمقراطي يمكن من خلاله تخطيط نوع من الوعي الفسيفسائي بدلًا من منظور الكاتب المفرد.

أمضى مالارميه سنواته المتبقية في محاولة لإيجاد نمط من شأنه أن يساعد في تحقيق هذه الرؤية، وقصيدته "رمية النرد لن تُبطل الفرصة أبدًا" Un coup de dés jamais n'abolira le hasard  - نُشرت عام 1897، أي قبل عام من وفاته - يمكن القول إنها أعظم ما لديه. أسلوب القصيدة المفكك وغير الخطي في أبيات من الخطوط البرمجية، والقصيدة نفسها كنص تشعبي، ونظام رائع لجمع البيانات. في السنوات القادمة، سيتم تعديل الخصائص المنهجية للصحافة من قبل الرمزيين والسرياليين الذين جعلوها أساسًا لنوع جديد من الشعر يأمل في الاستفادة من اللاوعي الجماعي الذي لم يتم استكشافه حتى الآن. كان مالارميه أيضًا يعمل على تعميد الحداثة ويمهّد الطريق لأعمال مثل "عوليس" Ulysses التي يشبه حجمها تحقيقًا صحافيًا عريضًا في صحيفة و"الأرض اليباب"  The Waste Land  التي تتقاطع أصواتها واقتباساتها العديدة في النص مثل تحديثات الأخبار. ولكن ربما يأتي أفضل مثال على ذلك من والتر بنجامين، الذي بدا أنه أخذ نبوءة مالارميه على محمل الجد في محاولته حشر كل ملاحظة واقتباس وانشغال فكري في مشروعه "الممرات" Arcades Project*.


قصيدة "رمية النرد لن تُبطل الفرصة أبدًا" في كتاب، وورقة بخط يد الشاعر خلال كتابته القصيدة



الأهم من ذلك، أن مالارميه حَدَس أن مسؤوليات المؤلف في سرد ​​القصص ستنتشر إلى بقية المجتمع، والذي سيتولى بشكل جماعي مهمة تجميع الروايات لنفسه، وهي عملية شاملة وصفها بأنها "تجمّع منظم من العلاقات العالمية تلتقي من أجل بعض المناسبات الرائعة والمتألقة"- سطر يمكن اقتباسه من تشخيص غي ديبور Guy Debord للثقافة الحديثة كمجموعة من الأطر الوسيطة. ما يعنيه هذا هو أن التأليف كما نعرفه من الناحية السردية كسلطة فردية، سيسقط مع الزمن. لن يموت الأدب أو يختفي، ولكن بمجرد اندماجه في خلية العقل الهائلة، آلة صنع السرد العظيمة، ستكون الصحافة هي البحر، والأدب يتدفق فيه كما يحلو له. كان الوقت الذي عاش فيه مالارميه وقتًا يتسم بتزايد التخصيص، وكان يتنبأ بمستقبل لن تتمكن فيه الحِرف اليدوية (ما أسماه ويليام بليك William Blake "عقل واحد") من مواكبة النقد لمجتمع بأكمله يشارك في الأحداث الثقافية في أثناء تطورها، والتي تصبح فيها هذه المشاركة جزءًا من الحدث - في الواقع، تصبح هي الحدث نفسه. كتب مالارميه: "إنه أمر يرعبني أن أفكر في الصفات - من بينها العبقرية بالتأكيد - التي يجب أن يمتلكها مؤلف مثل هذا العمل".

دعونا نتخيل في الوقت الحاضر، كما يقول، أن المؤلف ليس له اسم. أو دعونا نتخيل بدلًا من ذلك أن اسمه هو "جميعنا" إذا كان هذا يبدو غامضًا أو ملتبسًا، ففكر في التشابك الراسخ لوسائل الإعلام الإخبارية مع وسائل التواصل الاجتماعي (حيث أن التمييز بينهما ضبابي)، مما يولد إنتاجًا واستهلاكًا وتكرارًا للأحداث في وقت واحد. تعتمد الوسائط الرقمية (ونموذج أعمالها الرئيسي) على المشاركة والتفاعل المستمر، ومن المتوقع أن نساهم في الأحداث، في الوقت الحالي، كمراجعين ومشاركين وموزعين. ما يعنيه هذا هو أنه في اللحظة التي يقع فيها حدث ما - لحظة تحميله حرفيًا في الثقافة - تبدأ العملية الجماعية للسرد ونصبح جميعًا مؤلفين لسرد كلي دائم التطور. هذه المجموعة هي القوة الوحيدة ذات النطاق التردّدي الكافي لاستيعاب الحجم الهائل للأشياء التي تخيّلها مالارميه (الذي كان يعيش عميقًا في ما أسماه مارشال ماكلوهان "مجرّة غوتنبرغ") ويمكن احتواؤها في كتاب عظيم. يجب أن يكون واضحًا بما فيه الكفاية أن هذا "الكتاب الرائع" قد وصل إلينا بالفعل، وهو الشيء نفسه الذي من المحتمل أنك تستخدمه في هذه اللحظة للقراءة، وربما المشاركة والتعليق، على هذا المقال.

مهّد ستيفان مالارميه الطريق لأعمال مثل "عوليس" و"الأرض اليباب" وأفضل مثال على ذلك مشروع "الممرات" لوالتر بنجامين



شملت "مجرة ​​غوتنبرغ"، والأنماط النفسية المتماثلة معها، حقبة من النص الخطي المطبوع، حيث شكّلت الأعمال المقيّدة والمتحفظة وحدة السرد الأعلى والنهائية. هذا هو جوهر المخطوطة، الكتاب الذي يحتوي على "كل ما تريد معرفته"، (الكتاب المقدس، الذي له بالتأكيد العديد من المؤلفين، ولكنه يُعامل على أنه "الكلمة"، هو المثال الأسمى على ذلك). قراءة الكتاب هي عملية تشاركية، بالتأكيد، لكنها في الأساس شأن خاص، وبالتالي فهي تستند إلى توقّع حدوث بعض الاكتشافات المشتركة بين القارئ والكاتب. ويل سِلف Will Self الذي كتب عن تراجع الطباعة وصعود ما يسميه "الوسائط الرقمية ثنائية الاتجاه"، يشير إلى أن تفاعل القارئ / الكاتب بشكل أساسي "يتمثل في إنشاء تجليات فردية" وأن الوسائط الرقمية بشكل أساسي تفصل العلاقة التي تجعل هذه التجربة ممكنة، من خلال "حلقات التغذية الراجعة اللحظية بين الكثيرين والقليل"، والتي يتبين أنها "معادية لفن الرواية".

سِلف هو واحد من الكتاب القلائل الذين تحدثوا وكتبوا عن هذا التحوّل والأخبار غير المرغوبة التي يقدّمها هذا التحول للمؤلفين. آخر هو توم مكارثي Tom McCarthy، الذي صُنفت روايته "جزيرة ساتين" Satin Island ، لعام 2015، من بين أفضل الكتب في العقد الماضي. الراوي في هذه الرواية واسمه" يو" هو عالم أنثروبولوجيا تتمثل وظيفته في البحث عن الهياكل والتكوينات الشبيهة بالشبكة في المعنى، والتي يمكن بعد ذلك إدخالها في قاعدة البيانات الضخمة لشركته "ليفي- ستراوس" Lévi-Strauss ، إذا كانت هذه الشركة تعمل لصالح غوغل فهي تبحث في ظواهر عشوائية: الانسكابات النفطية، وحوادث القفز بالمظلات، والتحف، والطقوس، في محاولة لإدراك اتجاه أو نمط رئيسي بينهم على أمل إنتاج "تقرير رائع"، نوع من نظرية واحدة عن كل شيء - مشروع بطبيعة الحال لن يؤتي ثماره أبدًا. من أجل التصويب على فشل ذلك، يقول يو:  

"لم تكن الفكرة المرعبة أن التقرير العظيم قد يكون غير قابل للكتابة، ولكن - على العكس تمامًا - أنه قد تمت كتابته بالفعل. ليس من قبل شخص، ولا حتى من قبل عصابة شائنة، ولكن ببساطة من خلال نظام ثنائي محايد وغير مبال أدى إلى ظهور نفسه، وتحرّك من تلقاء نفسه وسيديم نفسه. [...] وإننا، بعيدًا عن كوننا مؤلفيه، أو مشغّليه، أو حتى عبيده [...] لم نكن أكثر من أفعال وأوامر داخل سلاسل مفاتيحه".

بصفته متخصصًا في البحث عن رواية نهائية، فإن يو قد تجاوز ذلك بشكل ميؤوس منه قبل أن يتمكن حتى من البدء، لأن العالم الذي يحتله قد فصله عن التفكير المنفرد الذي يجعل مثل هذه الاكتشافات، وحتى البحث عنها، ممكنة. مثل لعبة "الممرات" لبنجامين أو قصيدة مالارميه المذكورة أعلاه، يكاد يكون من المستحيل تخيّل اكتمال مشروع يو؛ لا يمكن اعتباره إلا عملًا قيد التقدّم. لا يمكن أبدًا تحقيق طموح يو لأنه في عالم تكون فيه كل نقطة بيانات هي اتصال محتمل، وفي حالة تغيّر مستمر، وحيث لا يوجد مصدر للانطلاق، وبالتالي، لا توجد نهاية.

مارشال ماكلوهان وكتابه "مجرّة غوتنبرغ"



قد تكون هناك طريقة أخرى للتفكير في هذا الأمر وهي أن مهمة المؤلف العريقة في تحديد موقع المسلّمات في التفاصيل أصبحت غير ذات صلة لأن كل شيء أصبح الآن جاهزًا على نطاق واسع، وبالتالي لم يعد خاصًا. ضع في اعتبارك ببساطة الطريقة التي يتم بها استقراء أي حدث منفرد أو "حادثة منعزلة"، يوميًا، لخدمة اتجاه سردي. بينما أكتب هذه السطور - بعد أقل من 24 ساعة من صفع ويل سميث لكريس روك في حفل توزيع جوائز الأوسكار - اضطررت إلى البحث عن مأوى من وابل من الأخبار عن هذا الحدث التافه تمامًا ضمن السرد الكلي عن "الرجولة السامة"، "تطبيع العنف"، "لماذا لم يعد الكوميديون آمنين"، "لماذا تحتاج النساء السود للحماية"، وما إلى ذلك. وإذا كنت لا تزال بحاجة إلى مزيد من الإقناع، فما عليك سوى التحقق من الأخبار في أي يوم وأنت ستجد قطعًا تحمل عناوين مثل "ما يقوله X عن  Y" أو "لماذا يعتبر X مثالًا على ثقافة Y"، كل هذا يشهد على ميلنا المستمر نحو السرد. نحن ببساطة لا نستطيع مساعدة أنفسنا. لا يُسمح لأي شيء أن يقف بمفرده: يصبح كل حدث اتصالًا محتملًا ينتظر أن يتم إدراجه في إطار أكبر.

في اكتشاف هذه الروابط الرنانة وترتيبها في أنماط ذات مغزى، تؤدي الثقافة بشكل جماعي الواجبات التي كان يُفهم من قبل أنها تدخل في صُلب مجال الروائي. هذا جزئيًا نتيجة للعيش في عالم لا هوادة فيه يحرّكه المحتوى. جادل ماكلوهان بأن سرد كل الأحداث هو شكل من أشكال "التعرّف على الأنماط" وهو في المقام الأول استجابة لشعور بالعجز تجاه الحجم الهائل للأشياء التي يتعيّن علينا فحصها من يوم لآخر. إنها نوع من آلية التكيّف التي نلجأ إليها عندما نواجه "تدفق المعلومات". إنها أيضًا الطريقة الوحيدة لشركات التكنولوجيا لإنشاء موضوعات شائعة خارج طوفان البيانات الذي يغمر خوادمهم. "تصنيف البيانات يؤدي إلى التعرّف على الأنماط"، يقول ماكلوهان. في الواقع، يعتبر التعرّف على الأنماط هو المبدأ المنظّم لاقتصاد المعلومات بأكمله، والذي بدونه سينتقل إلى الفوضى. مرة أخرى، نرى أن هذه العملية تشاركية ومتبادلة أساسًا: خوارزميات السرد الفوقي التي تُستخدم للمساعدة في تحديد الأشياء التي نرغب في التفكير فيها، والتي نتعامل معها ونغذيها مرة أخرى في النظام، مما يؤدي إلى استمرار الدورة، وبالتالي إكمال "التجمّع المنظّم للعلاقات العالمية" (اللغة التي يمكن للمرء أن يتخيلها بسهولة كجزء من لغة ميتا Meta أو المصطلحات الداخلية لغوغل).

كتوضيح لكيفية عمل هذه العملية، يستشهد ماكلوهان بقصة إدغار آلان بو "الانزلاق إلى الدوامة": انزلق بحار في دوامة، فتغلبت عليه في البداية مشاعر الخوف، إلى أن تعلّم مراقبة طريقة عمل العاصفة فتمكّن من الهرب عبر التعاون معها". يخبرنا الراوي: "لا بد أنني كنت في حالة هذيان، لقد بحثت عن الاستمتاع في التكهن بسرعة الهبوط نحو الزبد الموجود بالأسفل". هذه العملية تصف تمامًا كيف يفسر القارئ النص، كما لو أنه يصف بشكل مثالي كيف يتصرف المرء عبر الإنترنت. القصة عبارة عن إطار سرد نستمع فيه إلى راوٍ يستمع إلى راوٍ آخر - إنه تقرير، نوع من المشاركة. على الرغم من هروبه، يعترف راوي إدغار آلان بو بحيرته، فلا هو ولا أي شخص آخر يفهم سبب تكوّن الدوامة في المقام الأول. وبالتالي فإن القصة تدور حول فشلنا في تأمين نماذج مستقرة للواقع، مما يجبرنا على اللجوء إلى التعرّف على الأنماط من أجل الإبحار بأمان. يوضح ماكلوهان أن هذه الاستجابة هي في الأساس غريزة البقاء: "إن التعرف على الأنماط وسط قوة هائلة ومدمرة هو السبيل للخروج من العاصفة".

من المؤكد أن الروايات الصحافية تعمل غالبًا كآلية للتكيّف مع عدم قدرتنا على استيعاب الأحداث (خاصة الأحداث المؤلمة) في تجربتنا. خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، على سبيل المثال، رأينا انتشار الروايات التي سعت إلى تفسير ظاهرة ترامب نفسها والانشغال المزعج والمحيّر بمحاولة إدارة "أعراض متلازمة ترامب". بدأت هذه المحاولات في النهاية تشبه نوعًا من الاضطراب العصبي لأمة من الضحايا الذين يحاولون عبثًا تشخيص أنفسهم من خلال العودة مرارًا وتكرارًا إلى مصدر صدماتهم.

 صُنفت رواية توم مكارثي "جزيرة ساتين" Satin Island ، لعام 2015، من بين أفضل الكتب في العقد الماضي..


بالتأكيد، فإن أسطول المعلومات الذي يتم إطلاقه علينا يوميًا له تأثير صادم قليلًا، والسرد هو الوسيلة الوحيدة الذي يتعين علينا أن نفكر به. يشير ماكلوهان بذكاء إلى أن نهج مِيل (جون ستيوارت ميل John Stuart Mill) للحقيقة، وهو نهج كمي (أي منح الناس الوصول إلى أقصى عدد من الآراء وجعلهم يفرزون ما هو صواب) ينتج نوعًا من "الكرب الذهني". يرى المرء بسهولة أن تخصيص الأحداث العشوائية في روايات مرتبة مسبقًا هو بالنسبة لمعظم الناس مسألة نظام فكري، وغالبًا ما يحمل في طياته السمات المميزة للتثبيت المهووس، حيث إننا نبحث باستمرار عن مزيد من التأكيد على النمط. يجب ألا نتفاجأ أيضًا من أن نظريات المؤامرة (التي تتعرّف على الأنماط) منتشرة في العصر الرقمي. ليس لدى عقولنا المعرّضة للسرد أي ملاذ آخر للتعامل مع قدر الحياة عبر الإنترنت. وما نظريات المؤامرة على أي حال سوى تنفس وعيش الأعمال الخيالية..

هنا نقترب من نقطة مهمة أخرى أعتقد أنها تمثّل تحدّيًا وجوديًا لمفهوم التأليف ذاته. ليس الأمر مجرد أن وسائل الإعلام قد تجاوزت الأدب في المشاركة؛ لقد استعمرت إلى حد ما كل خيالنا. كتب فيليب روث Philip Roth  أن عدم واقعية الأخبار الأميركية يهدّد بإخراج الخيال الأميركي من العمل: "الكاتب الأميركي في منتصف القرن العشرين يداه مشغولتان بمحاولة فهم الكثير من الواقع الأميركي ووصفه ومن ثم جعله ذا مصداقية". سواء أكان يعرف ذلك أم لا، كان روث يتصارع مع الشيء ذاته الذي تنبأ به مالارميه - ثقافة تتفوق قدراتها السردية باستمرار على قدرات المؤلف.

هذه المشاكل ليست جديدة، بالتأكيد. أود أن أفترض أن الجديد هو المقياس الذي نعمل به والسرعة التي يجب أن نتعامل معها الآن. العلاقة بين اقتصاد المعلومات واقتصاد الانتباه هي في الأساس علاقة زمنية: يجب أن تنتقل المعلومات بسرعات أعلى وأعلى من أجل أن تظل قادرة على المنافسة، وكلما ارتفعت السرعة، زاد الطلب على صنع المعنى السردي. في اللحظة التي يتم فيها تحميل الحدث، هناك مليون "وجهة نظر" مختلفة قبل أن يتمكن الروائي حتى من رفع قلمه. لقد ولّد الاتصال الفوري الطلب على الفهم الفوري. لم يعد لدى بومة مينيرفا وقت لتنتظر وقت الغسق.

هذه المسؤولية مشتركة بين الروائيين والصحافيين، وإن كان ذلك بسرعات مختلفة. لدى الروائي ما بين سنتين إلى خمس سنوات في المتوسط ​​للتفكير في حدث ما، بينما أمام الصحافي حتى شروق الشمس. وهنا نجد انهيارًا آخر للفجوة بين الحدث وانعكاساته. في كتابه عن حرفة الكتابة، "الفن المرعب" The Spooky Art ، يدّعي نورمان ميلر Norman Kingsley Mailer أن على الروائي اكتساب الخبرة "دون تزويرها بفعل الملاحظة". يكتب: "من الأسهل أن تستوعب هذه المعرفة عندما تكون جزءًا من حدث أكبر بكثير منك". إذًا، في ثقافة تهيمن عليها الأطر الوسيطة (التي نشارك فيها جميعًا)، هناك إغراء للكتًاب أن يسيروا جميعًا في الاتجاه نفسه. كما كتب كريستيان لورنتزن Christian Lorentzen  في مجلة Harper's: "التوق إلى الروايات التي تجعل الحاضر دائمًا معنا، خاصة في أوقات الأزمات"، ويبدو أننا الآن محكوم علينا بتحمّل ما لا يقلّ عن عقد من روايات ترامب وغيرها من حالات تشريح الجثث، العصر الذي لم تتألق فيه بومة مينيرفا بعد. في العام الماضي وحده، قرأت ثلاث روايات (وأنا متأكد من وجود المزيد) التي افتتحت ليلة 8 نوفمبر 2016، مساء انتخاب ترامب. احتوت هذه الروايات أيضًا على أحداث مثل مسيرة المرأة 2017 ومظاهرات "حياة السود مهمة"  Black Lives Matter في صيف 2020. يبدو الآن أن الروايات قد انتزعت مباشرة من العناوين الرئيسية، حيث يتسابق الكتّاب لمواكبة الأحداث، وعزموا على تخيّل الأحداث لتتناسب مع وتيرة السرد للثقافة نفسها.

لقد عانيت أيضًا من هذا التدهور مباشرة عند كتابة روايتي الخاصة. رواية عن "الأحداث الجارية" حيث يكافح بطل الرواية، وهو صحافي، لكتابة المسودة الأولى للتاريخ بينما يترنح العالم من أزمة إلى أخرى، وحتى قبل أن يتمكن من استيعاب الأزمات الأخيرة. من خلال القيام بذلك، وجدت نفسي (ما قبل السرد) منخرطًا في نفس الصراع مع بطلي، أستيقظ كل يوم وأضع القصة، مدركًا أن أحداث اليوم التالي يمكن أن تتجاوز أو تجعل ما كتبته عفا عليه الزمن. ستحتاج الرواية بعد ذلك إلى "تحديث" قبل أن يتم الانتهاء منها (وبالفعل تم تحديثها عدة مرات). وأنا بالتأكيد لست الشخص الوحيد الذي يواجه هذا التحدي. لقد رأينا بالفعل وصول أولى روايات الوباء، "صيف" علي سميث Ali Smith و"عالم جميل" و"أين أنت" لسالي روني Sally Rooney، وسنرى بالتأكيد المزيد. أي شخص على دراية بالمدة التي تستغرقها لكتابة رواية ومراجعتها وتحريرها وتنسيقها وطباعتها، سيعرف أن أي كتاب نُشر في خريف 2021 يحتوي على أحداث لم تبدأ حتى ربيع 2020 كان إما يكتب في نفس وتيرة الصحافة أو سيتم تحديثها حتى لحظة إرسالها للطباعة.

على الأرجح، سيتم ببساطة توصيلها ببقية الخطوط البرمجية، حيث تبدو الرواية نفسها الآن مجرد نقطة بيانات واحدة في عملية شاملة ومتسارعة باستمرار من التحديثات وعمليات الدمج - النمط الرئيسي الذي يتم تكوينه وإعادة تكوينه بواسطتنا جميعًا، في كل الأوقات، كل دقيقة من كل يوم.

وأين، في هذا "التجمع المنظّم للعلاقات العالمية"، هو المكان المناسب للرواية؟ وأين هو المؤلف؟ إذا كان مالارميه على قيد الحياة اليوم، فلن ينشر "رمية النرد" في كتاب. لا. كان سيدرك أن المكان الصحيح هو الإنترنت، لأن كل شيء في العالم ينتهي به المطاف في تغريدة.

 

جارِد مارسيل بولين: ولد في كندا ويعيش حاليًا في براغ. ظهرت أعماله في عدد من المجلات، وهي: Quillette, 3:AM, The Smart Set, Areo, and The Millions، وهو مؤلف كتاب "المجال الموحّد للوحدة"  The Unified Field of Loneliness (2019)  ورواية "فينوس ووثيقة" Venus & Document التي ستصدر قريبًا. وقد نُشر هذا المقال في 18 تموز/ يوليو 2022 في مجلة Los Angeles Review of Books واسترجع من العنوان الإلكتروني التالي:

 https://lareviewofbooks.org/article/into-the-maelstrom/

 

هوامش:

* Fins de Siècle: مصطلح فرنسي يعني "نهاية القرن" وكان يتم تطبيقه على الفن والفنانين الفرنسيين، ويشير إلى اختتام حقبة وبداية حقبة أخرى. واستخدم المصطلح للإشارة إلى نهاية القرن التاسع عشر حيث كان يُعتقد وعلى نطاق واسع أن الفترة هي فترة انحطاط اجتماعي، ولكنها في نفس الوقت فترة أمل لبداية جديدة.

* Arcades Project: عبارة عن مجموعة هائلة من المقالات عن مدينة باريس وحياتها في القرن التاسع عشر كتبها والتر بنجامين بين عامي 1927 و 1940، لكن كتابته لم تتخذ شكل سرد متواصل بل كانت على شكل قصاصات ورقية وبطاقات رتبها ترتيبًا أبجديًا. كان بنجامين يعشق باريس وقد رآها تتبدّل بحيث لم تعد الممرات الضيقة في العاصمة ذات بعد روحي شاعري بل أصبحت ذات طابع عمراني تجاري، وظهرت المقالات على شكل هجومات فكرية ضد طوبوغرافية باريس. يقول الكاتب عن هدف مشروعه: "تحرير البشرية من المعاناة الأسطورية التي تسبّبها لها الرأسمالية وتقديسها صنمية البضاعة الاستهلاكية". لم يُكمل بنجامين مشروع "الممرات" فقد انتحر عند هجوم الألمان على العاصمة الفرنسية. ويعتبر هذا المشروع أحد أبرز النصوص في النقد الثقافي في القرن العشرين.