Print
أنطوان شلحت

هل الحرمان الديني اليهودي على سبينوزا ما زال نافذًا؟

3 أغسطس 2022
تغطيات

 

في خضم النقاش الدائر في إسرائيل، على الأقل خلال الأعوام الأربعة الأخيرة على خلفية أزمتها السياسية غير المسبوقة، بشأن أبرز التقاطبات الأيديولوجية القائمة فيها بين "يمين" و"يسار" و"وسط"، ارتفعت أكثر فأكثر نبرة الأصوات التي تعيب على من يوصفون بأنهم "يسار" نأيهم على نحو عامد عن الدفع قدمًا بأي قضية ليبرالية أو يسارية ضمن الائتلافات الحكومية التي انضووا تحت أكنافها، ولا سيما لدى تسلمهم وزارات مؤثرة كوزارة التربية والتعليم، المسؤولة عن تنشئة الأجيال الجديدة.

أحد هذه الأصوات تساءل أخيرًا: هل أدّى إشغال بعض رموز هذا "اليسار" وزارة التربية والتعليم إلى أن يتعرّف تلامذة إسرائيل على الكيفية التي اختفت بها قرية دير ياسين الفلسطينية عن وجه البسيطة، على سبيل المثال؟ وحتى لو نحينا جانبًا الموضوع الفلسطيني المشحون للغاية وتركزنا في الموضوعات التي تهم اليهود عمومًا وإسرائيل خصوصًا، فإن ما ينبغي أن نسأله هو: هل ساهم هؤلاء الرموز في أن يعرف التلامذة من هو فيلسوف التنوير اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا (1632- 1677)  الذي قد يكون الشخص اليهودي الأهم في كل تاريخهم البشري؟

ويأتي هذا التساؤل على خلفية تعزّز مساعي نخبة روحية وسياسية إسرائيلية يمينية دينية لإعادة تشكيل وتصميم الهوية القومية، الثقافية، الأخلاقية والمدنية، لمجمل الجمهور اليهودي في إسرائيل، بروح قيمها هي، وبهدي تلك القيم. ولتحقيق هذه الغاية، حدّدت تلك المجموعة جهاز التربية والتعليم الرسمي هدفًا مركزيًا لإحكام سيطرتها عليه بصورة منظمة، مستندةً إلى ادعاء فحواه أن المجموعة العلمانية، من اليهود الإسرائيليين، وقعت فريسة وضحية لسيرورة غامضة وخطرة من "اضطراب الهوية" وفقدان القيم. ويسود لدى هذه النخبة اعتقاد بأنه من غير الممكن صون الهوية اليهودية وترسيخ الالتزام القيميّ الإسرائيلي من دون الأسس الأيديولوجية التي تبناها اليمين المتدين.

بهذا الشأن لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُستعاد فيها أيضًا اسم سبينوزا في إطار الحديث عن "اضطراب الهوية" والانشقاق عن اليهودية، وربما في نطاق التذكير بواقع نبذه من طرف أبناء طائفته.
فقبل ذلك أعادت نية أستاذ الفلسفة في جامعة ييل الأميركية، البروفيسور يتسحاق ميلاميد، تصوير فيلم عن سبينوزا في خريف 2021 إلى مركز الاهتمام موضوع نبذ هذا الفيلسوف من طرف أبناء طائفته اليهودية في أمستردام، والذي تجسّد في فتوى حرمان دينيّ رسمية، وخلال ذلك جرى أيضًا تأكيد أن تلك الفتوى ما زالت سارية المفعول إلى الآن، وستظل كذلك إلى أبد الآبدين!

في هذه المقالة سنعيد إلى أذهان القراء كل ما يرتبط بهذا النبذ وخلفياته ومراحله، مستندين إلى ما ظهر حوله في الأدبيات الإسرائيلية.

 سبينوزا وفرض الحرمان الديني عليه من قبل رؤساء الجالية وحاخاميها، بريشة صموئيل هيرزينبيرغ، 1907



اليهود "المارانوس"

يروي بعض المؤرخين أن صامويل آل بالاتش (1550-1616)، الذي كان نبيلًا، وثريًّا، وتاجرًا دوليًا، وقرصانًا مُفوَّضًا من السلطان المغربي آنذاك، هو اليهودي الأول الذي حصل على تصريح من السلطنة بالعيش في العاصمة الهولندية، أمستردام، التي كانت، قبل أكثر من أربعمائة عام، خالية من اليهود. وقد حصل على هذا التصريح لقاء "الخدمات المميزة" التي قدمها إلى ملك هولندا، وشملت التجسس الدولي، والوساطة في صفقات ضخمة جدًا وغيرهما. وعلى أعتاب عام 1597، أسس في منزله "أولَ نِصابٍ" للصلاة في المدينة، لأفراد عائلته وضيوفه، ثم حصل على إذن بإنشاء الكنيس الأول الذي تجمع وتكتل من حوله اليهود السفاراديم الذين طُردوا من إسبانيا والبرتغال، وما زالوا يعيشون في مجتمعهم الخاص هناك حتى يومنا هذا.   

في تلك الفترة، بعد نحو مائة عام على طرد اليهود من إسبانيا، بدأ بالتوافد على أمستردام، التي كانت إحدى المدن الأكثر تحرّرًا وتميّزًا في أوروبا، كثيرون من اليهود المارانوس (*) من إسبانيا والبرتغال، بمن فيهم أيضًا عائلة سبينوزا، إحدى عائلات المارانوس التي عادت إلى يهوديتها علنًا. أحد أبناء هذه العائلة كان يُدعى "باروخ" (تعني بالعربية مبارك)، وكان طفلًا موهوبًا انتقل، بعد سنوات قليلة من الدراسة في مؤسسات تابعة للجالية اليهودية إياها، إلى الجامعة المحلية لدراسة علوم مختلفة، من ضمنها الفلسفة، ثم طوّر مع السنوات وجهات نظر فلسفية خاصة، تجديدية وإلحادية، نشرها على الملأ فيما بدأ، في المقابل، بإبداء الاستهتار والازدراء حيال الشعائر الدينية. وفي ضوء ذلك، وجّه إليه رؤساء الجالية تحذيرات متكررة، المرة تلو الأخرى، ولكن من دون جدوى، ما أدى إلى قرار رؤساء الجالية وحاخاميها بفرض الحرمان الدينيّ عليه، وكان لا يزال في الرابعة والعشرين من عمره، ثم وُضعت كتبه على قائمة الكتب التي يُحظَر على أبناء الجالية قراءتها، وتلا ذلك حظرها من جانب المؤسسة الكاثوليكية أيضًا. لكنّ سبينوزا حظي بأعداد كبيرة من المؤيدين والمُعجبين في مختلف أنحاء هولندا، وذاع صيته على نطاق واسع جدًا، فاشتهر بوصفه أحد مؤسسي العلمانية والحداثة.

وأدّى كثيرون من اليهود المشهورين صلواتهم في الكنيس في أمستردام حتى أصبح يُعتبر، على امتداد أجيال عديدة، أحد المراكز اليهودية الأكثر أهمية في أوروبا الغربية. وبعد الحرب العالمية الثانية، التي نجا خلالها الكنيس من الاحتلال النازي، عادت الجالية اليهودية إلى ممارسة شعائرها الدينية فيه، بالرغم من أنها لم تستطع استعادة مكانتها وأهميتها اللتين كانت تحظى بهما خلال أجيال سابقة.   

وفي السنوات الأخيرة، كما ذكرنا أعلاه، انكب أستاذ فلسفة يهودي من مدينة نيويورك يدعى يتسحاق ميلاميد، على درس النظريات الفلسفية التي وضعها سبينوزا وكتب عنه وعنها مقالات ودراسات، ثم قرّر، في مرحلة ما، تصوير فيلم (وثائقي) عن شخصيته وحياته. وكان يريد من خلال ذلك، ضمن أشياء أخرى، العودة إلى المكان الذي بدأ فيه ومنه كل شيء، وتصوير مشاهد من الفيلم في داخل الكنيس القديم في أمستردام. لكنه فوجئ برفض طلبه رفضًا شديدًا وقاطعًا. وأكد له رؤساء الجالية وحاخامها الأكبر أن سبينوزا طُرد من الكنيس بسبب أفكار الكفر التي كتبها في كتبه وتم إقصاؤه ونبذه إلى الأبد من الجالية اليهودية في أمستردام بسبب استهتاره بتأدية الشعائر الدينية، وعليه، من غير المعقول "التعاون مع جهات لا همّ لها ولا غاية سوى إحياء ذكرى هذا الملحد وتمجيد شخصيته".

انكب أستاذ فلسفة يهودي من مدينة نيويورك، يدعى يتسحاق ميلاميد، على درس النظريات الفلسفية التي وضعها سبينوزا وكتب عنه



وكان الحاخام يوسف بنيامين تسرفاتي، الحاخام الأكبر الحالي للجالية البرتغالية ـ الإسبانية في أمستردام، على رأس المُعارضين. وفي الرسالة التي وجهها إلى البروفيسور ميلاميد، كتب تسرفاتي أن الحرمان الدينيّ الذي فُرض على سبينوزا قبل أربعمائة عام ما زال قائمًا ونافذ المفعول. وقال: "حكماء الجالية ورؤساؤها قرروا فرض الحرمان المُشدّد على سبينوزا ومؤلفاته، وهو حظر يبقى ساري المفعول إلى الأبد ولا يمكن إلغاؤه". وكتب الحاخام إلى منتج الفيلم: "نذرتَ حياتك لدراسة كتابات سبينوزا المحظورة ولتطوير أفكاره. إن طلبك زيارة الكنيس والمدرسة الدينية الملحقة به، لغرض إعداد فيلم عنه، لا يتماشى مع الشريعة اليهودية ونحن نعتبره اعتداءً على هويتنا وتراثنا. وعليه، أنا أرفض طلبك وأعلن عنك شخصيةً غير مرغوب فيها في أي من المؤسسات أو المنشآت التابعة لجاليتنا".

وشاعت أنباء أن ميلاميد حاول الاستعاضة عن الكنيس في أمستردام بتصوير المشاهد المطلوبة قريبًا من المنطقة التي يقيم فيها هو ـ في أوساط جالية "شئيريت يسرائيل" السفارادية في نيويورك والتي بُني الكنيس التابع لها كأنه نسخة طبق الأصل عن الكنيس في أمستردام. ولكن مفاجأته كانت كبيرة حين اكتشف أن الحرمان هو نفسه في كل مكان، فقد قوبل طلبه هناك أيضًا، في أميركا المعاصرة الحرّة والليبرالية، بالرفض القاطع.

كذلك أكد حاخامون في إسرائيل نفسها أن الحرمان ضد سبينوزا ما زال قائمًا ونافذًا.

وأشير في عدة تقارير إعلامية جديدة إلى أن الحرمان الدينيّ هو أداة شرائعية تتيح لجالية ما إمكان إقصاء ونبذ أحد أعضائها إذا ما خرق قواعدها. وفي الجاليات اليهودية في الدياسبورا ("الشتات")، شكّل التهديد بإلقاء الحرمان إحدى الأدوات الأخيرة، وربما الوحيدة، التي كانت متوفرة لدى الجالية لإشهار سيف التهديد في وجه الفرد بغية "إعادته إلى جادة الصواب". وقد تميزت الجالية اليهودية في أمستردام بكثرة استخدام الحرمان في حالات مختلفة وبدوافع متنوعة ـ من عدم الالتزام بسداد الديون، مرورًا بالسلوكيات غير اللائقة وانتهاء بالكفر الجهريّ. ومع ذلك، في الغالبية الساحقة من الحالات، كان الشخص الذي يُلقى عليه الحرمان يُمنح فرصة أخرى للتراجع عن أخطائه والعودة لكي يكون عضوًا كامل الحقوق والواجبات في الجالية اليهودية.

ومن المهم تذكر أن فرض الحرمان الدينيّ في تلك الأيام كان يشكّل عقوبة تستتبعها أثمان باهظة جدًا، إذ ليس من الواضح أي حياة هي التي يمكن لليهودي أن يعيشها من دون الانتماء إلى الجالية ومن دون احتضانها ودعمها. ولعلّ أحد الأمثلة المتطرفة التي توضح معاني وأثمان فرض الحرمان في تلك الفترة هو حالة أورييل أكوستا (معروف أيضًا باسم أورييل دا كوستا 1585-1640، Uriel da Costa)، وهو فيلسوف يهودي آخر كان عضوًا في جالية أمستردام ذاتها وفُرض عليه الحرمان الدينيّ عدة مرات بسبب "مواقفه الملحدة". وحالات الحرمان المتكررة هذه ومراسم إلغائه التي كانت تتبعها، بما رافقها من معاملة مُذلّة (كان على أكوستا الاستلقاء على أرضية الكنيس بينما يدوس عليه جميع أعضاء الجالية في طريق مغادرتهم!) حطمت روحه، ودفعته إلى وضع حدّ لحياته في عام 1640.

أعلن المؤرخ والباحث في الأدب، يوسف كلوزنر، من على منصة "الجامعة العبرية" في القدس، عن إلغاء الحرمان عن سبينوزا..



لكن حتى بالمقارنة مع حالات الحرمان الأخرى التي فرضتها الجالية، كان نصّ الحرمان الذي فُرض على سبينوزا في عام 1656، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، الأكثر حدةً، وجاء فيه: "إن السادة من الطبقة الأعلى [الرؤساء] يحيطون حضرتكم علمًا بأنه ونظرًا لأنه تم الإبلاغ منذ فترة عن آراء باروخ دي سبينوزا وأفعاله السيئة، فقد حاولوا بطرق ووعود شتى ردّه عن طريقه السيئة، لكنهم لم ينجحوا في إصلاحه، بل العكس فقد بلغتهم كل يوم أنباء جديدة عن الكفر الفظيع الذي يمارسه ويعلّمه، وعن انتهاكات رهيبة ارتكبها، وثمة بين أيديهم شهادات كثيرة وجديرة بالتصديق قُدمت كلها بحضور السادة الحكماء [الحاخامات]. لذا، استقر رأي هؤلاء جميعًا على إلقاء الحرمان على سبينوزا المذكور ونبذه من طائفة إسرائيل وإنهم بهذا يفرضون عليه الحرمان التالي: ’نحكم بالحرمان والنبذ على باروخ دي سبينوزا، ببركة الرب وبموافقة هذا الحشد المقدس... لتحل عليه اللعنة في الصباح وفي المساء، اللعنة عليه في منامه ويقظته، اللعنة عليه في خروجه ودخوله، في مغادرته وقدومه... اللهم لا تغفر له أبدًا، اللهم صُبّ جام غضبك عليه وانزل به كل الشرور وليُمحَ اسمه من هذا العالم إلى الأبد’... ونحن نحذّر بأنه يُحرم على أي شخص إقامة أي علاقة به، كتابية أو شفوية، أو أن يقدم له خدمة أو أن يجالسه وأن يكون بصحبته تحت سقف واحد... أو أن يقرأ أيًّا من كتبه أو مقالاته" (ورد النص في: يرمياهو يوفيل، "سبينوزا وكفرة آخرون"، 1988).

هذا الحرمان الدينيّ لم يُلغَ في يوم من الأيام إطلاقًا. وكما نرى الآن، أيضًا، ثمة من يعتقدون بأنه ما زال نافذ المفعول حتى يومنا هذا.

ولكن ما الذي دفع الجالية اليهودية في أمستردام إلى مقاطعة سبينوزا وفرض الحرمان عليه بنصّ وخطوات على هذه الدرجة من الحدّة والتطرّف؟

ثمة من يعتقد أن الأمر ليس واضحًا.

وقد اقترح باحثون مقاربات مختلفة للتفسير، نعرض هنا بعض الأكثر مركزية من بينها. 

ورد في نص قرار الحرمان، بصورة صريحة وواضحة، أن سبب الحرمان هو مواقف سبينوزا وأفعاله الإلحادية. ومع ذلك، ليس واضحًا ما هي تلك "المواقف والأفعال الإلحادية الفظيعة"، إذ إن كتبه المركزية التي يعبر فيها عن آرائه ومواقفه الإلحادية، مثل القول إن الإله هو الطبيعة، وإنكار ألوهية الكتب المقدسة، كانت قد صدرت بعد فرض الحرمان عليه بأعوام عديدة. ومن المعروف أيضًا أن سبينوزا كان عضوًا في الجالية اليهودية وثمة شهادات على أنه كان مُقرّبًا من حاخام الجالية، بل وكان يتبرع للجالية من أمواله الخاصة حتى قبيل موعد فرض الحرمان عليه. وبالرغم من ذلك، من المحتمل بالتأكيد أن يكون سبينوزا قد عبر عن آرائه وتساؤلاته المعروفة في تلك الأعوام المبكرة. ولكن، حتى لو حدث هذا حقًا، لا يزال غير واضح وغير مفهوم لماذا قادت مثل هذه المواقف والأفعال إلى حرمان مشدّد وقاسٍ كهذا، مع العلم أن الجالية كانت قد فرضت الحرمان على ملحدين آخرين ولكن نصوص الحرمان في تلك الحالات كانت أخفّ بكثير، والعقوبات كانت أقل أيضًا.





يدّعي يوسف بن شلومو، الباحث في الفكر اليهودي والمتخصص في دراسة سبينوزا، بأنه إلى جانب أفعال سبينوزا، هناك سبب إضافي آخر لفرض الحرمان عليه تمثّل في قربه من أشخاص ومجموعات مسيحية. ويضيف آخرون أن علاقات كهذه كانت معروفة، غير أنه يمكن الافتراض أنه لم تكن لدى سبينوزا أي نية لاعتناق المسيحية، إذ أنه لم يفعل ذلك حتى بعد فرض الحرمان عليه.  فمن الجائز، إذًا، أن قرب سبينوزا من المسيحيين قد أثار حنق الجالية اليهودية، لكن ليس من الواضح ما إذا كان هذا حقًا السبب الذي قاد إلى فرض الحرمان عليه.

ويدّعي ستيفن ندلر، الباحث في حياة سبينوزا وفلسفته وكاتب سيرته الذاتية، مقتفيًا أثر مؤرخ آخر هو يوسف كابلان، أن ثمة سببًا محتملًا آخر لفرض الحرمان على سبينوزا هو رغبة الجالية اليهودية في أمستردام في المحافظة على علاقاتها الطيبة مع السُّلطة المسيحية. ذلك أن الإبقاء على عضوية سبينوزا في الجالية اليهودية وتعريفه كواحد من أبنائها كان من الممكن أن يثير شكوك السلطات وغضبها تجاه الجالية اليهودية التي يخرج من بين ظهرانيها أشخاص يطرحون مثل هذه الآراء الإلحادية فيشكلون، بذلك، خطرًا على سلامة الجمهور والنظام العام. ولذا، فقد اختارت الجالية التنديد بسبينوزا علنًا كي توضح أن مواقفه وأفعاله لا تمثلها ولا تعبر عنها.  

ثمة تفسير آخر هو أن سبينوزا تورّط في نزاع عائلي مع شقيقاته حول ميراث أبيه الذي كان رجل أعمال ثريًّا. وبدلًا من التوجه إلى المحكمة الدينية التابعة للجالية لفضّ هذا النزاع والحكم به، اختار سبينوزا "تجاوز الصلاحيات" والتوجه إلى المحكمة المدنية في أمستردام. هذا اللجوء إلى "هيئات غريبة" كان من الممكن، بالتأكيد، أن يثير غضب الجالية، إذ إن الحديث لا يجري هنا حول مخالفة لحظر/ تحريم شريعيّ وإنما حول استئناف على صلاحية الجالية بشأن النظر في القضايا التي تخصها.

في الحقيقة، هذه الأسباب لا تتناقض مع بعضها بعضًا ومن الممكن، بالتأكيد، أن تكون كلها مجتمعة هي التي دفعت بالجالية اليهودية في أمستردام إلى فرض الحرمان الدينيّ القاسي والمتشدد على سبينوزا.

طبقًا لما نُشر، تراوح رد سبينوزا على الحرمان بين اللامبالاة والاحتقار. فهو لم يحضر مراسم إعلان الحرمان، ويُروى أنه حين أبلغوه بأنهم ينوون فرض الحرمان عليه ومقاطعته، سأل عمّا إذا كان حاخام الجالية في حاجة إلى أي مساعدة في صياغة نص الحرمان (سبينوزا كان متمكنًا جدًا من اللغة العبرية). وفي يوم إعلان الحرمان نفسه، قال سبينوزا لرفاقه إن الحرمان الذي فُرض عليه لن يغيّر شيئًا، على الإطلاق، من أسلوب ومسار حياته، كما خطّط لهما مسبقًا. 

بعد فرض الحرمان عليه، عاش سبينوزا حياة هادئة، بل منعزلة إلى حدّ كبير. كان يكسب رزقه من تلميع العدسات، وهو المجال الذي كان يُعتبر في طليعة العلم في ذلك الوقت. وفي أوقات فراغه، كان سبينوزا يبحث ويكتب في الفلسفة. وبالرغم من وحدته، نُشرت كتاباته وأفكاره وهو على قيد الحياة فأصبح فيلسوفًا مرموقًا. وفي تاريخ الفلسفة، حقق لنفسه مجدًا كبيرًا، وما من شك في أنه في عداد أعظم الفلاسفة الذين ظهروا في الثقافة الغربية. لكن إضافة إلى الأثر الفلسفي، كان لسبينوزا تأثير كبير وعميق أيضًا في مجالات أخرى مختلفة. بنظرة إلى الوراء، يمكن القول إن سبينوزا كان الإنسان الملحد الأول، نظرًا لأنه كان الإنسان الأول الذي تجوّل في العالم من غير أي انتماء ديني ـ الجالية اليهودية نددت به وأقصته لكنه لم يختر الانتقال إلى أي دين آخر. ولهذا، يجري في كثير من الأحيان تصنيف سبينوزا باعتباره "المُبشّر بالعلمانية". وعلى الصعيد السياسي أيضًا، اكتسب سبينوزا أهمية كبيرة. فكتابه المركزي الذي نُشر في حياته، "رسالة في اللاهوت والسياسة"، قصد، من ضمن ما قصد، صياغة وتعزيز موقف ديمقراطي وليبرالي يرى أهمية قصوى لحرية الفكر والتعبير، وهو موقف استثنائي في ذاك الوقت. وبذا يشير البعض إلى أن سبينوزا هو أحد المفكرين الأوائل الذين وضعوا فكرة الدولة الليبرالية الحديثة.

أعلن ديفيد بن غوريون عن نفسه، غير مرة، أنه "سبينوزيّ"، واقتبس أكثر من مرة الفقرة التي تحمل ما يشبه النبوءة في كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة"



موقف الحركة الصهيونية

في إطار التغيّرات التي حاولت الحركة الصهيونية إحداثها في الثقافة والوعي اليهوديين، جرت محاولات حثيثة لبعث شخصيات من التاريخ اليهودي كان يمكنها التكيّف مع "روح الصهيونية". ولم يقفز هذا المنحى عن سبينوزا نفسه أيضًا.

وعلى سبيل المثال أعلن المؤسس الفعلي لإسرائيل ورئيس حكومتها الأول ديفيد بن غوريون عن نفسه، غير مرة، أنه "سبينوزيّ"، وأكثر من اقتباس الفقرة التي تحمل ما يشبه النبوءة في كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة"، والتي تنبأ فيها سبينوزا بانبعاث شعب إسرائيل في بلده: "في يوم من الأيام، حين تحين الفرصة... سيقيمون [اليهود] من جديد مملكتهم وسيختارهم الرب من جديد". وفي مقال بعنوان "سنصلح ما تشوه"، دعا بن غوريون إلى "إعادة مؤلفات المفكر الأصيل والفيلسوف الأعمق الذي ظهر لدى الشعب العبري خلال الألفيّ سنة الأخيرة إلى لغتنا وثقافتنا العبرية" (صحيفة "دفار"، 25 كانون الأول/ ديسمبر 1953).

أما المؤرخ والباحث في الأدب، يوسف كلوزنر، فقد أعلن من على منصة "الجامعة العبرية" في القدس، عن إلغاء الحرمان قائلًا: "إننا ننادي سبينوزا اليهودي... من فوق هذا الجبل، ومن قلب معبدنا الصغير ـ الجامعة العبرية في القدس ـ لكي نقول له: لقد ألغي الحرمان! انتهى غُبن اليهودية بحقك، وخطيئتك بحقها ستُغتفَر! أنت شقيق لنا، شقيقنا أنت، شقيقنا أنت" (من محاضرة بمناسبة ذكرى مرور 250 عامًا على الحرمان ضد سبينوزا، ضمن "من أفلاطون حتى سبينوزا ـ نصوص فلسفية"، 1955، ص 329).
بالإضافة إلى ذلك أقيمت عدة مراكز على اسمه ولا سيما في حيفا وفي معهد فان لير في القدس. وتأسس "معهد سبينوزا" في حيفا في خمسينيات القرن الماضي وحاول إضافة "يوم باروخ سبينوزا" إلى الرزنامة العبرية ـ الصهيونية احتفاءً بـ "عودته إلى حضن الشعب" ("معاريف"، 12/11/1954).  وحين وجّه مؤسس "معهد سبينوزا" في حيفا سؤالًا إلى الحاخام الرئيسي آنذاك، إسحاق هليفي هرتسوغ، حول ما إذا كان الحرمان ضد سبينوزا نافذًا اكتفى الحاخام بكتابة ما يلي: "يبدو لي أن الحرمان الدينيّ ضد من يقرأ كتبه ومؤلفاته لم يعد قائمًا".

كذلك تطرّق زعيم اليهودية الأرثوذكسية، الحاخام أبراهام كوك، إلى المسألة، فأكد أن قادة الجالية اليهودية في أمستردام أحسنوا صُنعًا حين ألقوا الحرمان الدينيّ على سبينوزا، إذ لولا هذا الحرمان على سبينوزا ونظريته لكان تم تقبلهما وكأنهما شرعيان، بل كان من المحتمل أيضًا اعتبارهما جزءًا من الثقافة اليهودية ـ الدينية، مثلما حصل مع كتاب "دلالة الحائرين" لموسى بن ميمون (رمبام)، و"كتاب الخزري" ليهودا اللاوي، بالرغم من أن نظرية سبينوزا منافية تمامًا لـ"ثقافة إسرائيل".

 

(*) المارانوس (بالإسبانية والبرتغالية) ـ هو مصطلح أطلق في الأصل على يهود شبه جزيرة إيبيريا الذين تحولوا إلى المسيحية، طوعًا أو قسرًا، وظل بعضهم يمارس الشعائر الدينية اليهودية سرًّا. وقد عُرف هؤلاء أيضًا باسم "المُتَنَصِّرون" ويُطلق عليهم بالعبرية اسم "الأنوسيم"، أي المُكرَهين، وهو المصطلح الذي يفضل استخدامه أحفاد هؤلاء اليهود وبعض الباحثين للدلالة على أنهم اُكرِهوا على اعتناق المسيحية الكاثوليكية في إسبانيا والبرتغال تحت وطأة محاكم التفتيش، من جهة، ومن جهة أخرى نظرًا للمعنى السلبي والمهين الذي تحمله كلمة "مارانو" (مفرد "مارانوس") في اللغة الإسبانية ("خنزير"!).