Print
سمير رمان

المئوية الثانية لويليام ويلكي كولينز: رائد الأدب البوليسي

27 يناير 2024
تغطيات
ولد الكاتب الإنكليزي ويليام ويلكي كولينز/ William Wilkie Collins في الثامن من يناير/ كانون الثاني عام 1824، وتوفي في سبتمبر/ أيلول عام 1889. وعلى الرغم من حياته القصيرة نسبيًا، ترك كولينز عددًا كبيرًا من القصص والروايات والمسرحيات.
يرى بعض النقاد أن رواية "حجر القمر" أوّل رواية بوليسية باللغة الإنكليزية، ليكون الكاتب بذلك رائد هذا النوع في بريطانيا. تميزت الرواية بدقة التحليل النفسي، وبالتوليف بين تفكير مفتشي الشرطة المنطقي، وبين الدوافع النفسية. كان مصير ويلكنز مليئًا بالتناقضات، من ضمنها أنّه كان يسعى إلى تطبيق كثير من الأشياء على نفسه. كولينز ابن فنانٍ يجيد رسم المناظر الطبيعية أراد لابنه أن يسلك الطريق نفسها، ولكنّ الابن لم ينجح تمامًا كمحترفٍ على الرغم من تمتّعه بشيءٍ من الموهبة، فاكتفى بممارسة الرسم كهواية مسلية.
عمل كولينز أولًا في شركة للشاي، ولكن العمل لم يعجبه، فتوجه إلى دراسة المحاماة في كلية الحقوق. ورغم حصوله على ترخيصٍ يخوله مزاولة المهنة، فإنّه لم يمارسها قط. لكنه أثناء فترة التدريب كمحامٍ مبتدئ كان يتردد على قاعات المحاكم، ما أتاح له فرصةً فريدة للاطلاع على قضايا جنائية مثيرة. كولينز راوٍ بارع بالفطرة تعامل مع القضايا التي شهدها في المحاكم كقصصٍ وحكاياتٍ في المقام الأول. كان يستمع إلى الشهود باهتمامٍ شديد، موليًا التفاصيل الصغيرة اهتمامه. وخلال تلك الفترة، توصل المحامي الشابّ إلى قناعةٍ مفادها أنّ أيّ قصةٍ من قصص القضاء يمكن أن تتألق بكلّ ألوانها لو سُردت بأسلوب أبطالها الحقيقيين: ففي المحكمة، يروي كلّ واحد القصة بطريقته الخاصةّ، ومن الزاوية التي ينظر منها إلى موضوع القضية. ومن هذه القناعة، اتبع كولينز الطريقة نفسها بالضبط في أعماله الأدبية، فجاء سرد قصصه دائمًا من زوايا مختلفة، واستطاع في نهاية كلّ قصّةٍ أن يقود القارئ إلى الحقيقة، وبالتالي حلّ أكثر الألغاز غموضًا.
قبل أن تنشر، في ستينيات القرن التاسع عشر، رواياته الأشهر: "المرأة ذات الرداء الأبيض"، و"حجر القمر"، كتب كولينز عددًا من القصص البوليسية. ومنذ صغره، اكتشف في نفسه الرغبة في الكتابة، وربما لهذا السبب لم ينجح في المجالات الأُخرى التي عمل فيها. في المدرسة، كانت مواهب كولينز الصغير تتحدث عن نفسها، من خلال سرده لرفاق صفّه قصصًا رائعة كانت تطرد الملل من نفوس التلاميذ.




اقتحم كولينز ساحة الأدب بقوة بفضل ميزتين اثنتين كان يتمتع بهما: أولاهما، البصيرة، والإرادة القوية التي مكّنته أن يخطّ لنفسه أسلوبًا فريدًا كاملًا يرضي أذواق شريحةٍ واسعة من القراء من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى، يمنح الحرية الكاملة للكاتب ليكون من ضمن قلّةٍ من الأدباء تجرأوا على السير في الطليعة. وبهذا، لم يجانب ت. س. إليوت الصواب بمنحه كولينز، وليس إدغار آلان بو، قصب السبق في ابتكار شخصية المحقق البارع بالمفهوم الحديث. وبالفعل، كان آلان بو يصوّر عملية التحقيق في القضايا الغامضة كلعبة ذكاءٍ خارق، وكنموذج للذكاء البشري القادر على حلّ أيّ لغزٍ. أمّا كولينز، فوضع في مركز أسلوبه ليس اللغز المحيّر للعقول، بل النماذج البشرية المختلفة، وجعل القيمة الأساسية ليس أداء الفرد العبقري، بل أداء مجموعة من الشخصيات العادية الفريدة. وبذلك، يكون كولينز قد قدم شخصياتٍ فريدة رائعة، مثل العجوز الماكر بيتريدج، والآنسة كلارك، البلهاء التي تثير الشفقة، والسيد فرانكلين الذي مزقته "الكيانات الأجنبية"، والكونت فوسكو، الذي لا يمكن نسيانه مع زريبة حيواناته. هذا التنوع في شخصيات القصص البوليسية هو الذي ستعمل أغاثا كريستي على تطويره في رواياتها في ما بعد.
مفتاح النجاح الثاني كان بالتأكيد تعرّفه على الكاتب الإنكليزي الشهير تشارلز ديكنز. لم يقتصر الأمر على تولي ديكنز نشر مؤلفات كولينز على صفحات المجلات التي يمتلكها، بل في الصداقة التي نشأت بين الرجلين، إذ وجد كولينز في ديكنز صديقًا يتحاور معه حول الأدب، ويساعده في النمو الإبداعي، وفي التحرر ككاتبٍ، صديقًا لم يشعر بالملل قط في صحبته. سافرا معًا، وقدما مسرحياتٍ في الهواء الطلق كتباها وحرراها يدًا بيد، ولتتوطد في نهاية الأمر علاقتهما أكثر بزواج تشارلز، شقيق كولينز الأصغر، بابنة تشارلز ديكنز. بطبيعة الحال، لم تكن العلاقة بين الكاتبين علاقةً بسيطة، حيث يكفي أن يلقي المرء نظرةً سريعة على الهوامش التي دوّنها كولينز على صفحات روايات ديكنز، والتي كانت أقرب إلى الملاحظات السميّة منها إلى الحماسية، ليدرك أنّ العلاقة لم تكن بسيطة وسلسة دائمًا. ومع ذلك، بقي الكاتبان شخصين مقربين من بعضهما بعضًا طوال حياتهما. عندما توفي تشارلز ديكنز، وجد كولينز صعوبةٍ بالغة في التعامل مع المصاب الجلل، فأصابه الحزن والاكتئاب طويلًا. منذ شبابه، عانى كولينز من مرض النقرس، ومثل كثير من معاصريه لجأ الشاب إلى الأفيون للتخلص من آلامه، الأمر الذي تطور إلى إدمانٍ شديد بعد وفاة صديقه.
من الواضح تمامًا أنّ أكثر نقاط ضعف كولينز كان رفضه المبدئي التدخّلات والإملاءات من الآخرين. عندما كان طفلًا، قاوم قواعد التنشئة الكنسية التي حاول والداه المتدينان فرضها عليه، وعلى بقية إخوته. وفي وقتٍ لاحق، لم يستمع إلى والده الذي أراد أن يجعل منه فنانًا، ولم يستمع إليه أيضًا عندما أراد أن يصبح محاميًا، فقد كانت روحه تتوق إلى الأدب: في الإبداع كان طليعيًا، وفي الحبّ لم يأخذ بعين الاعتبار أيّة قيود أو شروط، حيث عاش في عائلتين من دون أن يتزوج أيًّا من صديقاته.
كان لقدرة كولينز على التفكير خارج الأطر السائدة الفضل الكبير في التقاطه رأس الخيط الذهبي (وبمناسبة الحديث عن الذهب، فقد كان مهمًّا بالنسبة له. ولأنّه عاش حياة تقشّف مستمر منذ الطفولة، فقد جعل كولينز أحد أهداف عمله على الساحة الأدبية الحصول على دخلٍ محترم).
رواية "المرأة ذات الرداء الأبيض" دفعت الجميع إلى الجنون، ودرّت مبالغ طائلة على كولينز والناشر. ومن جهةٍ أُخرى، جعلت الرواية كثيرًا من الكتاب يكتبون نصوصًا مقلِّدة مستقاةٍ منها، وظهرت ملابس وعطورٍ تحمل اسمها، وسُمي أطفال بأسماء شخصياتها. يمكننا اليوم أن نقارن نجاح كتب كولينز في عصرها بالنجاح الذي لاقته كتب هاري بوتر الآن. بعد صدور رواية "المرأة ذات الرداء الأبيض"، بيع منها في السنة الأولى وحدها 35 ألف نسخة، وهو رقم لم يكن من الممكن تصوره حينها. في الستينيات، بدا أنّ اسم كولينز أكثر تألقًا من اسم ديكنز الذي كان نجمًا حقيقيًا خلال حياته.
في بحثه عن الأفكار، كان كولينز يتجوّل في الشوارع لفترات طويلة، ويركب وسائل النقل العام، وكان يستمع إلى أحاديث المارة والركاب. تقول الإشاعات إنّ كولينز تعرّف على محبوبته كارولينا غريفث في الشارع، وفي الظروف نفسها التي تعرّف فيها بطل رواية "المرأة ذات الرداء الأبيض" وولتر هارترايت، على محبوبته آنّا كاتيريك: يبدو أن الكاتب بنى، فور تعرّفه على محبوبته كارولينا، فكرةً عن كتابه المستقبلي الذي سيكون الأكثر مبيعًا، وعن المرأة التي سيحبّها.



هذه القصة في واقع الأمر ليست سوى حكاية مختلقة. ولكنّ الاهتمام الكبير الذي أولاه مؤلف الروايات المثيرة في الحياة اليومية للناس الذين عاشوا في عصره لم يكن اهتمامًا مختلقًا، بل حقيقيًا تمامًا. لقد كان كولينز كاتبًا جادًّا، عميق التفكير أكثر بكثير مما يعتقد عمومًا. هو ذلك الرجل الضئيل المرح، نجم مسرح الهواة، والرحّالة المتحمّس. إنّه الرجل الوديع الملتحي الذي ينظر من خلف نظارات مضحكة، إنّه الكاتب الفريد الذي أمتعت أعماله، ولا تزال، طيفًا واسعًا من عشاق الأدب.


أهم أعمال ويليام ويلكي كولينز:
ــ ملكة القلوب/ The Queen of Hearts).
ــ المرأة ذات الرداء الأبيض/ The Women in White (1860).
ــ حجر القمر/ The Moonstone (1866).
ــ مسرحية "المأزق" (1867).
ــ القانون والمرأة/ The Law and the Lady (1875).