في منتصف تسعينيّات القرن الماضي كان اسم سوزان روبين سليمان (SUSAN RUBIN SULEIMAN) الناقدة المجريّة الأميركيّة يتردّد بقوة في النّقدين العربي والمغربي، ولا سيّما كتابها رواية الأطروحة أو سلطة التخييل (1983) الذي شكّل أحد المؤلّفات المرجعيّة في نقد الرواية في تلك الفترة، وبالتحديد بالنّسبة للنقاد الذين اهتمّوا بدراسة الأدب والأيديولوجيا، والكيفيّة التي تنقل بها الأعمال الرّوائية حقائق تاريخيّة أو سياسيّة إلى القرّاء. نظر النقاد إلى هذا الكتاب على أساس أنّه عمل يكتسي أهمية قصوى بحكم التصور الذي بسطته مؤلّفته بخصوص رواية الأطروحة بوصفها نوعًا أدبيًّا، وكذلك شكلها الفني ومستقبلها الذي استكشفته في أعمال كتاب من طراز مالرو، ومورياك، وسارتر، وأراغون، مرتكزة في ذلك على كشوفات كبار منظّري الأدب أمثال باختين وغريماس وبارت وجونيت. وعندما ننظر اليوم إلى تجدّد الاهتمام بسياسات الأدب في ميدان نقدي أشدّ تأثيرًا في النقد العربي مثل النظريّة الأدبيّة الفرنسيّة، والمقاربات المتعدّدة التي تتولّد من رحم هذا الاهتمام لدى نقاد معاصرين أمثال جاك رانسيير، وأنطوان كومبانيون، وألكسندر جيفين، وجيزيل سابيرو وآخرين، ندرك، بالتأكيد، مدى ريادة سوزان روبين سليمان في تناول سياسات الأدب بالانطلاق من نوع أدبي مثل رواية الأطروحة التي، بوصفها رواية تعليميّة، هي أقدر على تمثيل قضايا متعدّدة ومباشرة يشترك فيها طيف ثقافي واسع. لكنّ ما يلاحظ في السنوات الأخيرة، هو الصّمت الذي بات مضروبًا على عمل هذه الناقدة، إلى حدّ الغياب من مشهد النقد المغربي والعربي. فإذا أخذنا في الاعتبار أن مؤلّفها "رواية الأطروحة" الذي حظي بالاستحسان من قبل الناقد العربي في سياق الفورة السياسيّة والأيديولوجيّة في العالم العربي لم يترجم لحدّ الساعة إلى العربية، وإذا استثنينا الترجمة العربيّة لكتاب "نقد استجابة القارئ: مقالات في الجمهور والتأويل"، والذي صدر عن دار الكتاب الجديد المتحدة في بيروت (2007) في ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، والذي حرّرته سوزان روبين سليمان بالاشتراك مع الناقدة إنجي كروسمان، فإنّا لا نكاد نرى، في حقل النقد العربي، أيّ دليل على العناية بالعمل النّقدي والفكري لهذه الأستاذة الألمعيّة التي تشكّل نصوصها النقديّة أحد المصادر الإلهاميّة الأساسيّة للبحث في الذاكرة، فهي تعدّ من بين كبار المتخصصين في الحضارة الفرنسيّة، والأدب المقارن، وذاكرة الحرب العالميّة الثانية. ونعتقد أن عدم الاكتراث بعمل سوزان روبين سليمان وغيرها من النقاد الذين يتعيّن عملهم بوصفه مؤسّسًا، يعكس جانبًا من الأزمة العميقة التي يعيشها النقد العربي المعاصر، والتي ترتدّ إلى الخلل الذي يعتري المثاقفة، فضلًا عن غياب سياسة عربيّة للترجمة تستفيد من الخبرات العربيّة المهمّة في هذا المجال، مما يفوّت على الباحثين الشباب فرص الاطلاع على التجارب الفكريّة والنقدية ذات الإضافة القويّة والنوعيّة، والتي يمكن، معها وبواسطتها، استكشاف آفاق بحثية مغايرة.
ولدت سوزان روبين سليمان في المجر عام 1939، وهاجرت مع والديها إلى الولايات المتحدة الأميركيّة في سنّ العاشرة، حيث تابعت دراستها هناك، وعاشت هي الأخرى ذلك الصراع الداخلي بين الثقافة الأوروبيّة التي تنتمي إليها والثقافة الأميركيّة، ولربّما ينطبق عليها الحال نفسه الذي ميّز إدوارد سعيد، وجوزيف كونراد، وجوليا كريستيفا، وتودوروف وغيرهم من الكتاب والمثقفين الذين اختبروا الوضعيّات البينيّة، والإحساس المستمرّ بالوجود خارج المكان، وبالتالي شكّل مسارهم الفكري والثقافي اللامع أحد ثمار تجاربهم الحياتيّة المغايرة المطبوعة بالمنفى منظورًا إليه كتجربة فظيعة وحافزًا في الوقت ذاته.
تميز مسارها التعليمي بالنّبوغ، ما جعلها تحظى بحياة أكاديميّة حافلة في جامعة هارفارد، وترتقي إلى مصاف كبار الأساتذة المتخصصين في مجال الدراسات الأدبية والأدب المقارن. فهي منذ 1981 تشغل منصب أستاذة الحضارة الفرنسيّة والأدب المقارن في جامعة هارفارد. ورغم توقفها عن التدريس منذ 2015 فإنّها تواصل نشاطها التأليفي، فضلًا عن الكتابة في أشهر المجلات والصحف الفرنسيّة والأميركيّة.
أنتجت سليمان ما يزيد عن مائة من المقالات العلميّة حول الأدب والثقافة المعاصرين، كمّا ألّفت مجموعة من الأعمال نذكر منها، على سبيل المثال: القصد التقويضي: الجنس والسياسة والطليعة (Subversive Intent: Gender, Politics, and the Avant-Garde)، المخاطرة بمن تكون: تقاطعات بين الفن والأدب المعاصرين (Risking Who One Is: Encounters with Contemporary Art and Literature)، مذكرات بودابست: بحثًا عن كتاب الأم (Budapest Diary: In Search of the Motherbook)، أزمات الذاكرة: المحكيات الفرديّة والجماعيّة للحرب العالميّة الثانية (Crises of Memory and the Second World War)، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب ترجم إلى الفرنسيّة، وصدر عن منشورات رين 2012. ولسليمان كتب أخرى، منها العمل الذي خصّصته للكاتبة الروسيّة إيرين نيميروفسكي بعنوان: قضيّة نيميروفسكي: حياة ووفاة وإرث كاتبة يهودية في فرنسا في القرن العشرين (The Némirovsky Question: the Life, Death and Legacy of a Jewish Writer in 20th-Century France). ومن إصداراتها الأخيرة: ابنة التاريخ: آثار طفولة مهاجرة (2023) الذي ظهر ضمن منشورات جامعة ستانفورد، ويتعيّن هذا الكتاب بوصفه سيرة تعلّم تروي فيها سوزان روبين سليمان تجربة الهجرة التي اختبرتها، وتتخذ منها مثالًا لاستكشاف تعقيداتها ومستويات تأثيرها في الوعي بالوجود والهوية لدى الأفراد والجماعات.
ومن أجل أخذ فكرة عن عمل سوزان روبين سليمان، نعتقد أن من الأهميّة بمكان أن نتوقف عند كتابيها أزمات الذاكرة (2012) وقضيّة نيميروفسكي (2016) لأنّهما يقدّمان أكثر من علامة على الحفر الذي لم تكف هذه الناقدة عن القيام به في حقل الدراسات الأدبية والنّقدية في مسعى لتشييد منظور نقدي مجدّد، ومن دون التخلي عن خلفيتها التكوينيّة كباحثة في الأدب، وأيضًا من دون اختزال القراءة في التحليل النصي. فإذا كان الإجراء النّصي مفيدًا لفهم الأعمال الأدبيّة والثقافيّة، فإنّ فائدته تكون أعظم عندما تنهل القراءة من السيّاقات السياسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة. ومن السّهل على من يقرأ عمل سليمان أن يتبيّن هذا النهج.
ففي كتابها أزمات الذاكرة: المحكيات الفرديّة والجماعيّة للحرب العالمية الثانية (2012) الذي ترجم إلى الفرنسيّة في السنة نفسها، اهتمّت الناقدة بدراسة المحكيات الفردية والجماعية للحرب العالميّة الثانية مركزة على ما تسمّيه أزمة الذاكرة، التي تعني، وفقًا لها، تلك اللحظة الانعطافيّة، الأساسيّة والحاسمة، وأيضًا الباعثة على الخوف والصراعيّة التي تحيط بعملية إحياء وتخليد الماضي سواء أكان هذا الماضي جماعيّا أو فرديّا. "في أزمة الذاكرة، تتعيّن المسألة الأساسيّة بوصفها كيفية تمثيل الذات – كيف نرى أنفسنا، وكيف نقدّم أنفسنا للآخرين – وهذه المسألة لا تنفصل عن السردية التي نصوغها عن ماضينا الشخصي"[1]. ومن هذه الزاوية، يرتهن وجود أزمة الذاكرة بتحول بخصوص الماضي، وكيفية تمثيله. وهذا ما تستكشفه سليمان من خلال عيّنة من النصوص والأعمال تدور كلّها عن الحرب العالمية الثانية، وتتصل بأمة بعينها هي الأمّة الأوروبية، وذلك بهدف فهم كيف تتجاوز أزمة الذاكرة هذه الحدود القوميّة إلى ما هو أبعد منها. وهذا البعد الواسع لأزمة الذاكرة لا يرجع، بحسبها، فقط إلى كون الحرب العالمية الثانية شكّلت حدثا ذا طابع عالمي، وألقت بتأثيرها على بلدان العالم المختلفة، وإنّما أيضًا لكون الهولوكوست يشغل مكانة مؤثرة كمطرح للذاكرة. وهكذا على امتداد تسعة أقسام تبحث الكاتبة أزمة الذاكرة، وكيف تتحول الذاكرة الفرديّة إلى ذاكرة جماعيّة بالاستناد إلى مجموعة من المفاهيم الأخرى التي تتصل بحقلها كالنسيان، والعذر، والصفح، والصدمة، والمنفى، والعزلة وغيرها. ومن المفارقة أنّه في وقت يتزايد الاهتمام بالذاكرة في السيّاقات العربية، نلفي أن أعمال هذه الباحثة غير متاحة للقارئ العربي، ولا سيّما لمن ينشغل بالتفكير في تمثيلات الذاكرة في الأدب والفن.
أما كتابها الآخر الذي نشير إليه في هذه العجالة، فهو: قضيّة نيميروفسكي: حياة ووفاة وإرث كاتبة يهودية في فرنسا في القرن العشرين (2016) الذي ترجم إلى الفرنسية بالعنوان ذاته عام 2017. يتناول الكتاب قضية الكاتبة الفرنسيّة من أصل روسي إيرين نيميروفسكي (Irène Némirovsky) المولودة في 11 شباط/ فبراير 1903 في كييف.
تنحدر نيميروفسكي من أسرة يهوديّة برجوازية، لكن انشغال والدها بأعماله وأسفاره اللاتنتهي، واهتمام والدتها بنفسها، ومشاعر الكراهيّة تجاه ابنتها بعدما رأت في مجيئها إلى الحياة علامة على بداية تدهور أنوثتها، كلّ ذلك جعلها تعيش طفولة قاسية غلب عليها الشعور بالعزلة بحيث كانت لا تجد الملاذ إلا في قراءة الكتب. أمّا اللغة الفرنسية فقد تعلمتها على يد الخادمة التي كانت تبدي اهتمامًا لافتًا بها. هربت إيرين مع والديها إلى فنلندا مع انطلاق الثورة في موسكو بشكل أعنف عام 1918، ومنها إلى باريس عام 1919. ما لبثت نيميروفسكي سوى عشر سنوات في فرنسا، حتى أصدرت روايتها الأولى سوء تفاهم عام (1926)، وهي السنة ذاتها التي حصلت فيها على الإجازة في الأدب الفرنسي من جامعة السوربون. وفي عام 1929 قدّمت لدار غراسي روايتها دافيد غولدر التي أعجب الناشر بمسودتها لدرجة أن انتابه الشكّ في أن تنتج كاتبة شابة حديثة العهد بالوسط الثقافي الفرنسي عملًا من العمق والأصالة والقوة التخييليّة التي لا يستطيع كاتب تحقيقها عادة إلا في مرحلة النّضج. روايتها دافيد غولدر التي صدرت عن دار غراسي، حظيت باستقبال لافت في الوسط الثقافي الفرنسي، كما تمّ اقتباسها في المسرح والسّينما، وكال لها المديح كتاب كبار من طراز جوزيف كيسيل وروبير براشيا وكوكتو. ولأن نيميروفسكي شرعت في الكتابة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، يُنظر إليها في فرنسا كواحدة من رائدات الكتابة النسائية، فقد كانت تتمتع بموهبة لافتة، في وقت كان ميدان الأدب حكرًا على الرّجال، ولم يكن من السهل على النّساء ولوجه، وبالتالي الحظوة بالاعتراف والتكريس. وهذا ما استطاعت نيميروفسكي تحقيقه. في عام 1942 اعتقلها الدرك الفرنسي، وبعدها بقليل اعتقل زوجها ميشال إبستان ورحّلا إلى معسكر أوشفيتس حيث قتلا هناك، وخلفا بنتين: دينيس وإليزابيث اللتين احتفظتا بمخطوطة روايتها متتالية فرنسية (Suite française) التي لم تنشر إلا في عام 2004 عن دار دونويل، بعد 60 سنة على وفاتها، ومنحت جائزة رونودو الشهيرة.
ينظر إلى رواية متتاليّة فرنسيّة على أنّها من الأعمال المتأخرة (Les œuvres tardives) التي تتعيّن بوصفها، وفقًا للنّاقد الفرنسي أنطوان كومبانيون، مجالًا للحريّة القصوى من حيث أنها نتاج الشّعور بالنّهاية. وعلى غرار إدوارد سعيد الذي كرّس كتابًا شهيرًا للأعمال المتأخرة حمل عنوان "الأسلوب المتأخر"، وصدر بعد وفاته، يؤكد كومبانيون على وجود علاقة ترابط بين الإحساس بتقدّم العمر لدى الكاتب أو تراجع الوضع الصحي، والاهتمام المتزايد بالأعمال المتأخرة أو الأسلوب المتأخر[2]. وهذا الشّعور هو الذي انتاب إيرين نيميروسكي قبل أن يتم إيقافها وترحيلها إلى أوشفيتس. لقد كتبت عام 1942 إلى وكيلها الأدبي في دار ألبان ميشال: "صديقي العزيز... فكّر بي. لقد كتبت كثيرًا. أظن أنها ستكون أعمالًا بعد وفاتي، لكن ذلك يجعل الوقت يمرّ"[3].
رغم المكانة التي تتمتع بها هذه الكاتبة في الوسط الثقافي الفرنسي، فإن استمراريّة النظرة إليها كمعادية للسامية ولّد سوء فهم لعملها، كما حدث مع الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، والجدل الذي أثير حول فلسفته بعد ظهور كتابه الدفاتر السوداء عام 2014. وهذا ما تكرّست جهود الناقدة سوزان روبين سليمان لتفكيكه في كتابها قضية نيميروفسكي الذي جمعت فيه بين التاريخ والسيرة والتحليل الأدبي لتفكيك الصوّر المتناظرة. تستند سليمان إلى تقصيّات عميقة في أرشيف الكاتبة، وحوارات مع محيطها الأسري، لإظهار أهمية العودة إلى عمل الكاتبة من أجل فهم رؤيتها للعالم بشكل أقرب، وبالتالي التخلي عن غابة "القيل والقال" التي تغطي على ما هو جوهري في نصوصها التي تتحدّث ببيان عن حياتها، والظروف التي عاشتها. ومن هذه الزاوية، يكتسي كتاب سليمان أهميته، ذلك أن المقاربة النقدية المختلفة التي انطلقت منها لتحليل طريقة نيميروفسكي في ابتداع شخصياتها الروائية ذوات الأصول اليهودية، مكنتها من تسليط ضوء جديد ومغاير على مسألة "معاداة الساميّة" والهجرة والهويّة اليهوديّة.
*كاتب من المغرب.
ولدت سوزان روبين سليمان في المجر عام 1939، وهاجرت مع والديها إلى الولايات المتحدة الأميركيّة في سنّ العاشرة، حيث تابعت دراستها هناك، وعاشت هي الأخرى ذلك الصراع الداخلي بين الثقافة الأوروبيّة التي تنتمي إليها والثقافة الأميركيّة، ولربّما ينطبق عليها الحال نفسه الذي ميّز إدوارد سعيد، وجوزيف كونراد، وجوليا كريستيفا، وتودوروف وغيرهم من الكتاب والمثقفين الذين اختبروا الوضعيّات البينيّة، والإحساس المستمرّ بالوجود خارج المكان، وبالتالي شكّل مسارهم الفكري والثقافي اللامع أحد ثمار تجاربهم الحياتيّة المغايرة المطبوعة بالمنفى منظورًا إليه كتجربة فظيعة وحافزًا في الوقت ذاته.
تميز مسارها التعليمي بالنّبوغ، ما جعلها تحظى بحياة أكاديميّة حافلة في جامعة هارفارد، وترتقي إلى مصاف كبار الأساتذة المتخصصين في مجال الدراسات الأدبية والأدب المقارن. فهي منذ 1981 تشغل منصب أستاذة الحضارة الفرنسيّة والأدب المقارن في جامعة هارفارد. ورغم توقفها عن التدريس منذ 2015 فإنّها تواصل نشاطها التأليفي، فضلًا عن الكتابة في أشهر المجلات والصحف الفرنسيّة والأميركيّة.
أنتجت سليمان ما يزيد عن مائة من المقالات العلميّة حول الأدب والثقافة المعاصرين، كمّا ألّفت مجموعة من الأعمال نذكر منها، على سبيل المثال: القصد التقويضي: الجنس والسياسة والطليعة (Subversive Intent: Gender, Politics, and the Avant-Garde)، المخاطرة بمن تكون: تقاطعات بين الفن والأدب المعاصرين (Risking Who One Is: Encounters with Contemporary Art and Literature)، مذكرات بودابست: بحثًا عن كتاب الأم (Budapest Diary: In Search of the Motherbook)، أزمات الذاكرة: المحكيات الفرديّة والجماعيّة للحرب العالميّة الثانية (Crises of Memory and the Second World War)، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب ترجم إلى الفرنسيّة، وصدر عن منشورات رين 2012. ولسليمان كتب أخرى، منها العمل الذي خصّصته للكاتبة الروسيّة إيرين نيميروفسكي بعنوان: قضيّة نيميروفسكي: حياة ووفاة وإرث كاتبة يهودية في فرنسا في القرن العشرين (The Némirovsky Question: the Life, Death and Legacy of a Jewish Writer in 20th-Century France). ومن إصداراتها الأخيرة: ابنة التاريخ: آثار طفولة مهاجرة (2023) الذي ظهر ضمن منشورات جامعة ستانفورد، ويتعيّن هذا الكتاب بوصفه سيرة تعلّم تروي فيها سوزان روبين سليمان تجربة الهجرة التي اختبرتها، وتتخذ منها مثالًا لاستكشاف تعقيداتها ومستويات تأثيرها في الوعي بالوجود والهوية لدى الأفراد والجماعات.
ومن أجل أخذ فكرة عن عمل سوزان روبين سليمان، نعتقد أن من الأهميّة بمكان أن نتوقف عند كتابيها أزمات الذاكرة (2012) وقضيّة نيميروفسكي (2016) لأنّهما يقدّمان أكثر من علامة على الحفر الذي لم تكف هذه الناقدة عن القيام به في حقل الدراسات الأدبية والنّقدية في مسعى لتشييد منظور نقدي مجدّد، ومن دون التخلي عن خلفيتها التكوينيّة كباحثة في الأدب، وأيضًا من دون اختزال القراءة في التحليل النصي. فإذا كان الإجراء النّصي مفيدًا لفهم الأعمال الأدبيّة والثقافيّة، فإنّ فائدته تكون أعظم عندما تنهل القراءة من السيّاقات السياسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة. ومن السّهل على من يقرأ عمل سليمان أن يتبيّن هذا النهج.
ففي كتابها أزمات الذاكرة: المحكيات الفرديّة والجماعيّة للحرب العالمية الثانية (2012) الذي ترجم إلى الفرنسيّة في السنة نفسها، اهتمّت الناقدة بدراسة المحكيات الفردية والجماعية للحرب العالميّة الثانية مركزة على ما تسمّيه أزمة الذاكرة، التي تعني، وفقًا لها، تلك اللحظة الانعطافيّة، الأساسيّة والحاسمة، وأيضًا الباعثة على الخوف والصراعيّة التي تحيط بعملية إحياء وتخليد الماضي سواء أكان هذا الماضي جماعيّا أو فرديّا. "في أزمة الذاكرة، تتعيّن المسألة الأساسيّة بوصفها كيفية تمثيل الذات – كيف نرى أنفسنا، وكيف نقدّم أنفسنا للآخرين – وهذه المسألة لا تنفصل عن السردية التي نصوغها عن ماضينا الشخصي"[1]. ومن هذه الزاوية، يرتهن وجود أزمة الذاكرة بتحول بخصوص الماضي، وكيفية تمثيله. وهذا ما تستكشفه سليمان من خلال عيّنة من النصوص والأعمال تدور كلّها عن الحرب العالمية الثانية، وتتصل بأمة بعينها هي الأمّة الأوروبية، وذلك بهدف فهم كيف تتجاوز أزمة الذاكرة هذه الحدود القوميّة إلى ما هو أبعد منها. وهذا البعد الواسع لأزمة الذاكرة لا يرجع، بحسبها، فقط إلى كون الحرب العالمية الثانية شكّلت حدثا ذا طابع عالمي، وألقت بتأثيرها على بلدان العالم المختلفة، وإنّما أيضًا لكون الهولوكوست يشغل مكانة مؤثرة كمطرح للذاكرة. وهكذا على امتداد تسعة أقسام تبحث الكاتبة أزمة الذاكرة، وكيف تتحول الذاكرة الفرديّة إلى ذاكرة جماعيّة بالاستناد إلى مجموعة من المفاهيم الأخرى التي تتصل بحقلها كالنسيان، والعذر، والصفح، والصدمة، والمنفى، والعزلة وغيرها. ومن المفارقة أنّه في وقت يتزايد الاهتمام بالذاكرة في السيّاقات العربية، نلفي أن أعمال هذه الباحثة غير متاحة للقارئ العربي، ولا سيّما لمن ينشغل بالتفكير في تمثيلات الذاكرة في الأدب والفن.
أما كتابها الآخر الذي نشير إليه في هذه العجالة، فهو: قضيّة نيميروفسكي: حياة ووفاة وإرث كاتبة يهودية في فرنسا في القرن العشرين (2016) الذي ترجم إلى الفرنسية بالعنوان ذاته عام 2017. يتناول الكتاب قضية الكاتبة الفرنسيّة من أصل روسي إيرين نيميروفسكي (Irène Némirovsky) المولودة في 11 شباط/ فبراير 1903 في كييف.
تنحدر نيميروفسكي من أسرة يهوديّة برجوازية، لكن انشغال والدها بأعماله وأسفاره اللاتنتهي، واهتمام والدتها بنفسها، ومشاعر الكراهيّة تجاه ابنتها بعدما رأت في مجيئها إلى الحياة علامة على بداية تدهور أنوثتها، كلّ ذلك جعلها تعيش طفولة قاسية غلب عليها الشعور بالعزلة بحيث كانت لا تجد الملاذ إلا في قراءة الكتب. أمّا اللغة الفرنسية فقد تعلمتها على يد الخادمة التي كانت تبدي اهتمامًا لافتًا بها. هربت إيرين مع والديها إلى فنلندا مع انطلاق الثورة في موسكو بشكل أعنف عام 1918، ومنها إلى باريس عام 1919. ما لبثت نيميروفسكي سوى عشر سنوات في فرنسا، حتى أصدرت روايتها الأولى سوء تفاهم عام (1926)، وهي السنة ذاتها التي حصلت فيها على الإجازة في الأدب الفرنسي من جامعة السوربون. وفي عام 1929 قدّمت لدار غراسي روايتها دافيد غولدر التي أعجب الناشر بمسودتها لدرجة أن انتابه الشكّ في أن تنتج كاتبة شابة حديثة العهد بالوسط الثقافي الفرنسي عملًا من العمق والأصالة والقوة التخييليّة التي لا يستطيع كاتب تحقيقها عادة إلا في مرحلة النّضج. روايتها دافيد غولدر التي صدرت عن دار غراسي، حظيت باستقبال لافت في الوسط الثقافي الفرنسي، كما تمّ اقتباسها في المسرح والسّينما، وكال لها المديح كتاب كبار من طراز جوزيف كيسيل وروبير براشيا وكوكتو. ولأن نيميروفسكي شرعت في الكتابة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، يُنظر إليها في فرنسا كواحدة من رائدات الكتابة النسائية، فقد كانت تتمتع بموهبة لافتة، في وقت كان ميدان الأدب حكرًا على الرّجال، ولم يكن من السهل على النّساء ولوجه، وبالتالي الحظوة بالاعتراف والتكريس. وهذا ما استطاعت نيميروفسكي تحقيقه. في عام 1942 اعتقلها الدرك الفرنسي، وبعدها بقليل اعتقل زوجها ميشال إبستان ورحّلا إلى معسكر أوشفيتس حيث قتلا هناك، وخلفا بنتين: دينيس وإليزابيث اللتين احتفظتا بمخطوطة روايتها متتالية فرنسية (Suite française) التي لم تنشر إلا في عام 2004 عن دار دونويل، بعد 60 سنة على وفاتها، ومنحت جائزة رونودو الشهيرة.
ينظر إلى رواية متتاليّة فرنسيّة على أنّها من الأعمال المتأخرة (Les œuvres tardives) التي تتعيّن بوصفها، وفقًا للنّاقد الفرنسي أنطوان كومبانيون، مجالًا للحريّة القصوى من حيث أنها نتاج الشّعور بالنّهاية. وعلى غرار إدوارد سعيد الذي كرّس كتابًا شهيرًا للأعمال المتأخرة حمل عنوان "الأسلوب المتأخر"، وصدر بعد وفاته، يؤكد كومبانيون على وجود علاقة ترابط بين الإحساس بتقدّم العمر لدى الكاتب أو تراجع الوضع الصحي، والاهتمام المتزايد بالأعمال المتأخرة أو الأسلوب المتأخر[2]. وهذا الشّعور هو الذي انتاب إيرين نيميروسكي قبل أن يتم إيقافها وترحيلها إلى أوشفيتس. لقد كتبت عام 1942 إلى وكيلها الأدبي في دار ألبان ميشال: "صديقي العزيز... فكّر بي. لقد كتبت كثيرًا. أظن أنها ستكون أعمالًا بعد وفاتي، لكن ذلك يجعل الوقت يمرّ"[3].
رغم المكانة التي تتمتع بها هذه الكاتبة في الوسط الثقافي الفرنسي، فإن استمراريّة النظرة إليها كمعادية للسامية ولّد سوء فهم لعملها، كما حدث مع الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، والجدل الذي أثير حول فلسفته بعد ظهور كتابه الدفاتر السوداء عام 2014. وهذا ما تكرّست جهود الناقدة سوزان روبين سليمان لتفكيكه في كتابها قضية نيميروفسكي الذي جمعت فيه بين التاريخ والسيرة والتحليل الأدبي لتفكيك الصوّر المتناظرة. تستند سليمان إلى تقصيّات عميقة في أرشيف الكاتبة، وحوارات مع محيطها الأسري، لإظهار أهمية العودة إلى عمل الكاتبة من أجل فهم رؤيتها للعالم بشكل أقرب، وبالتالي التخلي عن غابة "القيل والقال" التي تغطي على ما هو جوهري في نصوصها التي تتحدّث ببيان عن حياتها، والظروف التي عاشتها. ومن هذه الزاوية، يكتسي كتاب سليمان أهميته، ذلك أن المقاربة النقدية المختلفة التي انطلقت منها لتحليل طريقة نيميروفسكي في ابتداع شخصياتها الروائية ذوات الأصول اليهودية، مكنتها من تسليط ضوء جديد ومغاير على مسألة "معاداة الساميّة" والهجرة والهويّة اليهوديّة.
*كاتب من المغرب.
هوامش:
[1] Susan Rubin Suleiman, Crises de mémoire Récits individuels et collectifs de la Deuxième Guerre mondiale, Traduit de l’anglais (US) par Marine Le Ruyet et Thomas Ruymbeke, Eds. Presses universitaires de Rennes, 2012, p.7.
[2] Antoine Compagnon, La vie derrière soi Fins de la littérature, Editions des Equateurs, folio essais, Paris2021, p.40.
[3] Irène Némirimovsky, Suite française, roman, Préface de Myriam Anissimov, Eds. Denoel, Paris2004, p.22.