"أنا اليوم بصدد تعلّم اللغة اليابانية بعد أن تركت فرنسا مكرهة بحثًا عن وجود لا يختصر في الحجاب الذي أرتديه"- هو تصريح الشابة ناعومي الأفريقية المغاربية والسمراء المسلمة، واحدة من حملة الشهادات العليا أو ما يطلق عليهن وعليهم بالأدمغة التي تعمل حاليًا في لندن ونيويورك ودبي ومونتريال والدار البيضاء وبروكسل وطوكيو وسيدني ولوكسمبورغ، وغيرها من البلدان الأنكلوساكسونية والآسيوية والعربية. إنها الباحثة الفرنسية التي استجوبتها القناة العمومية "فرانس إنفو" الإخبارية الشهيرة، بعد أن تم ذكرها في كتاب غير مسبوق بكل المعايير، إضافة إلى زملائها الذين أصبحوا منفيين رغم حبهم لفرنسا فولتير.
السابع من أكتوبر كسبب جديد
تاريخ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 الذي أضحى مبررًا إسرائيليًا لإبادة أهل غزة، يعدّ أحدث دليل على صحة علاقة عضوية ووظيفية بين الإسلاموفوبيا وتزايد وتيرة هجرة أطباء وخبراء في مختلف التخصصات التقنية والعلمية هروبًا من عنصرية تعيدهم دومًا إلى انتمائهم العرقي والديني العربي والمسلم، وليس إلى مستواهم المهني المتقدّم، كما جاء في كتاب "فرنسا، تحبَّها ولكن تهجرَها: تحقيق حول الدياسبورا الفرنسية المسلمة" الصادر أخيرًا عن دار "ساي". يؤكد مؤلفو الكتاب الجماعي، أوليفييه إستيف (الأستاذ في المركز الوطني للأبحاث العلمية والاختصاصي في العالم الأنكلوفوني والهجرة والعرقية)، وأليس بيكار (الباحثة في العلوم الاقتصادية والاجتماعية والمتعاونة مع مخبر "أرين")، وجوليان تولبان (المدير في المركز الوطني للأبحاث العلمية والأستاذ في جامعة ليل والاختصاصي في الإسلام والعنصرية والحياة في الأحياء الشعبية)، أن الهجرة المكرهة للأدمغة الفرنسية المسلمة إلى بلدان أنكلوساكسونية وعربية مسلمة باتت في تزايد لافت، ومرشّح لتصاعد أكبر مسكوت عنه إعلاميًا، ويحكى عنه بأصوات منخفضة.
ولا يسعنا إلا أن نؤكد صحة طرح الباحثين الفرنسيين المذكورين، في سياق لم يعد يمّس فقط نخبة المسلمين الفرنسيين أم المنحدرين من أصول عربية ومسلمة، واتهام كل مهاجر من الأصقاع السفلى أو العليا بمعاداة السامية بسبب إدانة إبادة غزة، حقيقة جديدة جاءت على ألسنة العيّنة من الأدمغة الفرنسية المسلمة.
"معهد العلوم السياسية الباريسي الشهير، أضحى وكرًا لطلبة فرنسيين مسلمين ومن أصول عربية حوّلوا المؤسسة الفرنسية الشهيرة إلى منبر لمعاداة السامية، وليس للدراسة العلمية"، على حدّ تعبير كل ضيوف قناة "سي نيوز" غير المعنية مهنيًا بإبادة غزة، والساكتة على كتاب "فرنسا، تحبَّها ولكن تهجرَها".
هنا عرض عام للكتاب في إطار متابعة صحافية بسبب الإسلاموفوبيا التي ما زالت محل إنكار عدد غير قليل من المثقفين الفرنسيين والعرب المقيمين في فرنسا، والمعروفين بحديثهم عمّا يطلقون عليها "الإسلاموية اليسارية" المرادفة حتمًا للتطرّف والإرهاب، والمعادية للسامية من منطلق منظورهم الفكري.
في كتاب "فرنسا تحبها ولكن تهجرها" شهادات كثيرة مفجعة تثبت صحة الإسلاموفوبيا العنصرية التي استفحلت على الصعيد النخبوي دفاعًا عن إسرائيل |
التقدير الحقيقي المستحيل
اللافت للنظر لأول وهلة في الكتاب الذي يثبت صحة الإسلاموفوبيا كما لم يحدث من قبل، ورغم أهميته المبدئية، إقرار مؤلفيه الثلاثة بصعوبة تقديم نسبة دقيقة عن الأدمغة الفرنسية المسلمة بالشكل الذي يثبت حجم خطورتها.
في مقدمة الكتاب الهام -الذي اعتمد فيه مؤلفوه على 140 مقابلة أجروها مع عينة مكوّنة من 1000 دماغ فرنسي مسلم عام 2022 (تم تغذيتها بعد السابع من أكتوبر)- نقرأ: "إن الآلاف من الفرنسيات والفرنسيين (بدون الإشارة إلى سبب الهجرة وربطها بأصولهم العربية والمسلمة)، قرّروا مغادرة بلدهم". وحسب أوليفييه إستيف، الأستاذ بجامعة ليل وأحد مؤلفي الكتاب "فإن تعمّد عدم الدقة كان مقصودًا، وهي ناتجة عن استحالة الإلمام بالأرقام الحقيقية عن الظاهرة. وعليه فإنه من السذاجة والوهم إدّعاء ذلك".
تحدّث مؤلفو الكتاب عن هذه الاستحالة مشيرين إلى عقبة تعريف مفهوم المسلمين في فرنسا، ووحده المركز الوطني للإحصاءات والدراسات الاقتصادية (إنسيه)، استطاع أن يؤكد في دراسة نشرت بين عامي 2019 و2020 تحت عنوان "التنوع الديني في فرنسا"، أن 10 في المائة من الفرنسيين الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والتاسعة والخمسين يعتبرون أنفسهم مسلمين. من جهته، أكّد إيرفيه لوبرا، الباحث المعروف في المعهد الوطني للديموغرافيا (إيناد)، في كتاب نشرته مؤسسة جان جوريس وجيروم فوركيه عام 2014 تحت عنوان "الدين مكشوفًا"، أن "التحقيق الذي شمل 50 ألفًا من الفرنسيين والفرنسيات لم يؤكد إلا 3 في المائة فقط كنسبة تؤكد انتسابهم إلى الإسلام، الأمر الذي لا يمثل إلا مليون و800 ألف مسلمة ومسلمًا". دعمًا لرأي الباحث إستيف السالف الذكر في مقدمة الكتاب، نقرأ على لسان الباحث لوبرا أن "مفهوم الدين الإسلامي عام وضبابي بسبب ارتباطه بمعيار درجة الممارسة الدينية الفعلية". رغم غياب الجرد الإثني أو الديني، وخلافًا للباحث لوبرا، يؤكد مؤلفو الكتاب أن عدد المسلمين في فرنسا يتجاوز 5 ملايين "الأمر الذي يمكن أن يؤكد أن رقم 195 ألفًا من الذين تركوا فرنسا اعتمادًا على فرضية تديّنهم الإسلامي، هو رقم تقديري معقول رغم أنه لا يعكس الدقة المنشودة".
منفى ضحايا الإسلاموفوبيا
رغم عقبة عدم دقة الأرقام و"الظلال" المحيطة بظاهرة منفى الأدمغة الفرنسية المسلمة، نقرأ أيضًا اعتمادًا على تأكيدات مؤلفي الكتاب الأول من نوعه "أنها تتفاقم من سنة لأخرى استنادًا لردود المستجوبين، وخاصة في العقد الأخير، و68% هي نسبة الأدمغة الفرنسية المسلمة التي تدور أعمارها بالمتوسط حول 35 عامًا، واضطرت إلى شدّ الرحال نحو المنفى منذ عام 2015 رغم حبها لمسقط الرأس".
"الإسلاموفوبيا، التي زادت من حدّتها بعد سلسلة الاعتداءات التي توصف بالإرهابية، رفعت من نسبة الهاربين من وطنهم الأصلي، وإذا كانت لا تعد حكرًا على فرنسا، فإنها تعد خاصية فرنسية استنادًا لكثافتها مكانيًا وزمنيًا"، كتب الباحث إستيف.
الشهادات التي قرأناها في كتاب "فرنسا، تحبَّها ولكن تهجرَها"، هي نفسها التي تناقلتها القناة العمومية "فرانس إنفو" بشكل يؤكد وظيفتها المهنية في سياق إعلامي غطى سلبيًا للأسف الشديد على التأثير السياسي المفترض لكتاب صدّر في عزّ إبادة غزة. وتمّ ذلك رغم علاقته المباشرة بإسلاموفوبيا السياسيين والمثقفين الذين يربطون اعتصام طلبة معهد العلوم السياسية بهجرة المسلمين إلى فرنسا "وهم الطلبة الذين حولوا المعهد الذي تخرجت منه زبدة النخبة الفكرية والسياسية إلى وكر أيديولوجي بتشجيع من اليسار المتطرف، وبتأثير الجامعات الأميركية" (حسب تعبير كل ضيوف قناة "سي نيوز").
الصحافي الشهير جان ميشال أباتي، المعزول اليوم في المشهد الإعلامي الفرنسي بسبب مواقفه المبدئية ضد الاستعمار والعنصرية والمتاجرة السياسوية بأوهام خطر أسلمة فرنسا، أكد في مداخلة تلفزيونية حاملًا كتاب "فرنسا، تحبَّها ولكن تهجرَها"، ومطالبًا المشاهدين بشرائه دعمًا لضحايا الإسلاموفوبيا المقيتة "أنه رد صاعق على الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي تبنى مقولة زعماء الجبهة اليمينية المتطرفة: فرنسا، تحبَّها ولكن تهجرَها، وحاول التنصل منها لاحقا".
نماذج من شهادات الأدمغة المنفية
الكتاب الذي صدّر في 320 صفحة من القطع المتوسط، يعّج بشهادات العشرات من أسماء أصحاب الكفاءات العلمية في شتى المجالات، ومن بينهم الذين اضطروا إلى الهجرة القسرية بعد أن غيـّروا أسماءهم العربية متخذين أسماء "فرنسيين أقحاح بعيونهم الزرق ووجوههم الناصعة البياض"، وإثر مكابدة فظيعة مع العنصريين الإسلاموفوبيين.
أصحاب الكفاءات المسلمة (65% درسوا أكثر من خمسة أعوام بتفوق بعد نيلهم شهادة البكالوريا)، عانوا من أبشع صور العنصرية على الصعيد الاجتماعي بوجه عام والمهني بوجه خاص، وحرموا من ترقيات مهنية ظفروا بها في بلدان المنفى القسري. نقرأ في الكتاب الذي سيترجم إلى اللغتين العربية والإنكليزية بسرعة، في مرحلة أولى، ولأكبر عدد ممكن من اللغات في مرحلة ثانية، شهادات مراد وسميرة وكريم وسندرين وفانسان وأسماء العشرات من زملائهم الذين تمكنوا في الأخير من "إطلاق اللحية أو ارتداء الحجاب وصوم رمضان وأداء الصلاة بحرية كاملة"، وتمّ لهم ما أرادوا بدون دفع الثمن اجتماعيًا ونفسيًا، كما يحدث في فرنسا وطنهم الأصلي العلماني بعد لجوئهم إلى بلدان أنكلوساكسونية تعدّدية عرقية ودينية وثقافية جعلت من لندن إحدى العواصم التي وجد فيها كريم خلاصه.
الإسلاموفوبيا كاستثناء فرنسي
كان منطلق مقاربة الباحثين الفرنسيين، وهي الإسلاموفوبيا التي يرفض الاعتراف بها مثقفون أصبحوا يمضون أوقاتهم في استديوهات تلفزيونية لربط كل المساوئ الممكنة بالفرنسيين المنحدرين من أصول عربية ومسلمة، خلافًا لما يثبته مضمون كتاب ليس ككل الكتب.
"فرنسا لم ترغب في وجودنا"- هكذا ردّ عبد الله الذي كان مضطرًا لاتخاذ اسم فرنسي بعد أن تسبّب اسمه الحقيقي في رفض مؤسسات بنكية فرنسية لطلب عمله عشرات المرات.
في الكتاب شهادات كثيرة مفجعة تثبت صحة الإسلاموفوبيا العنصرية التي استفحلت على الصعيد النخبوي دفاعًا عن إسرائيل في كل الحالات الممكنة، وبشراسة غير مسبوقة في إشارة إلى الفلسطينيين العرب والمسلمين المتوحشين، على حد تعبير نتنياهو.
عبد الله، البالغ من العمر 26 عامًا، أكد أن المؤسسات البنكية قامت بتوظيف زملاء فرنسيين "أقحاح" بسبب بشرتهم البيضاء وديانتهم الكاثوليكية وإلحادهم، ولم يكن أمامه غير نفي نفسه قسرًا إلى لوكسمبورغ؛ "لقد تمّ توظيفي بسرعة إثر قبول طلبي في عدة مؤسسات، وأنا أعمل اليوم مديرًا ماليًا في مؤسسة غرادوشيه باعتباري خريج مدرسة تجارة في فرنسا".
عن عبد الله وسمير وسندرين وناعومي ضحايا الإسلاموفوبيا العنصرية في وطن فولتير، تحدّث الأستاذ جوليان تولبان، أحد مؤلفي الكتاب، عن أهم نتائجه لموقع "بوندي بلوغ" (بوندي مدينة تسكنها أغلبية عربية ومسلمة، وتقع شمال شرقي باريس)- اخترنا ترجمة ما بدا لنا هامًا حرفيًا تعميقًا لما كتبناه سلفًا نقلًا عن الكتاب- "تتراوح أعمار عدد كبير من الباحثين عن قيمتهم العلمية الحقيقية في مجتمعات تهمّها الكفاءة وليس البشرة والانتماء الديني بين الثلاثين والأربعين، واضطر الكثير منهم إلى الهجرة رفقة أبنائهم إيمانًا منهم بحتمية إنقاذهم من العنصرية التي عانوا منها. الكثير منهم متدينون خلافًا لآخرين يمكن اعتبارهم مسلمين ثقافيًا، ومنهم من يحمل الجنسية المزدوجة كالجزائريين والأتراك والمغاربة. الإسلاموفوبيا العنصرية حالت دون عيش الهاربين من جحيمها في سكينة وطمأنينة رغم كل كل ما قدّموه لفرنسا وطنهم الأم في مجال تخصصاتهم العلمية". هؤلاء ليسوا حاقدين على فرنسا التي مكّنتهم من الدراسة مجانًا، ولكنهم يشعرون بالحزن والإحباط جرّاء مواقف سياسيين ومسؤولين كبار وإعلاميين ومثقفين جعلوا من معاداة المهاجرين المسلمين شمّاعة تعلّق عليها مشاكلهم المحلية في ظل استراتيجية سياسوية تتناقض مع قيم فولتير وفلاسفة فرنسا في مجال حقوق الإنسان بوجه عام.
الجدير بالذكر أن المركز الثقافي الإسلامي لضاحية "إسي لي مولينو" الواقعة جنوب غربي باريس، استضاف يوم الرابع عشر من الشهر الماضي البروفيسور غالب بن الشيخ الذي قام، وبمهارة لافتة، بتنظيم ندوة جمعت مؤلفي الكتاب حضوريًا وعبر الشاشة، وعرضت آراء بعض الطلبة المسلمين الذين تركوا فرنسا مضطرين. كما استضاف المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم التاسع عشر من الشهر الماضي، جوليان تولبان، المؤلف الذي غاب عن ندوة المركز الثقافي الإسلامي المذكور. وقد عرفت الندوتان إقبالًا كبيرًا بحضور "ضفة ثالثة" التي ارتأت أن تنقل لقرّائها الأكارم ما تخفيه ولا ترغب فيه وسائل إعلام وطن فولتير.