يستكشف كتاب "نهضة الرواية الأفريقيَّة: طرائق اللغة والهويَّة والنفوذ" لموكوما وانجوجي (سلسلة عالم المعرفة، عدد 509، آذار/ مارس 2024)، قضايا معقَّدة وحسَّاسة حول الأدب الأفريقيّ، وتحديدًا نهوض الرواية الأفريقيَّة وتوسُّعها على مستوى العالم بالرغم من العقبات اللغويَّة والثقافيَّة التي فرضتها الحقبة الاستعماريَّة. بسبب الإرث الاستعماريّ وسياسات ما بعد الاستعمار، سادت اللغات الاستعماريَّة مثل الإنكليزيَّة والفرنسيَّة في مجالات الأدب والثقافة على حساب اللغات المحلِّيَّة، ما أدَّى إلى تهميش هذه الأخيرة في الإنتاج الثقافيّ. يناقش المؤلِّف هذا الواقع ويطرح أسئلة حول مستقبل الأدب الأفريقيّ في ظلّ تلك الهيمنة الاستعماريَّة اللغويَّة، محاولًا استكشاف الأسباب التي أدَّت إلى هذه السيطرة على مجريات الحياة الأدبيَّة في القارَّة السمراء.
نشأة الرواية الأفريقيَّة وتاريخها
لمناقشة تطوُّر الرواية الأفريقيَّة، يتناول المؤلِّف أعمال عدد من الكتَّاب الأفارقة من دول مختلفة مثل نيجيريا وكينيا وجنوب أفريقيا وزيمبابوي. ويشير إلى أنَّ البداية الرسميَّة للرواية الأفريقيَّة تعود غالبًا إلى نشر رواية "أشياء تتداعى" لتشينوا أتشيبي في عام 1958، والتي تُعتبر بمثابة نقطة البداية لتأريخ الأدب الأفريقيّ. وقد شكَّلت هذه الرواية تحوُّلًا نوعيًّا في الأدب الأفريقيّ حيث عبَّرت عن التحوُّلات الاجتماعيَّة والثقافيَّة التي مرَّت بها القارَّة نتيجة الاستعمار.
وعلى الرغم من أهمِّيَّة هذه الرواية في تاريخ الأدب الأفريقيّ الحديث، إلَّا أنَّ المؤلِّف يعود إلى أعمال أخرى سبقت هذا العمل وأثَّرت في تشكيل هذا الأدب، مثل رواية عاموس توتوالا "سكِّير نبيذ النخيل" التي نُشرت في عام 1952، والتي تُعتبر بداية فعليَّة للأدب الأفريقيّ المكتوب. كما يذكر روايات أخرى كُتبت بلغات أفريقيَّة محلِّيَّة ثمَّ تُرجمت لاحقًا إلى الإنكليزيَّة، مثل رواية توماس موفولو "مسافر إلى الشرق" التي كُتبت بلغة السوتو في عام 1907، ورواية صموئيل مقهاي "دعوى التوائم" التي كُتبت بالكوسا في عام 1912.
الهيمنة اللغويَّة والنخب الأفريقيَّة
يجادل المؤلِّف بأنَّ أحد العوامل الرئيسة التي ساهمت في استمرار هيمنة اللغات الاستعماريَّة في القارَّة هو ميل النخب الأفريقيَّة نحو الكتابة بهذه اللغات، خاصَّة الإنكليزيَّة والفرنسيَّة. فقد نشأ بين الكتَّاب والمثقَّفين الأفارقة في فترة ما بعد الاستعمار اعتقاد راسخ بأنَّ تلك اللغات هي الأكثر ملاءمة للتعبير عن الأدب الأفريقيّ والتواصل مع جمهور عالميّ أوسع. وبذلك، أصبحت هذه اللغات ليست مجرَّد وسيلة للتواصل، بل رمزًا للحداثة والتقدُّم في أذهان تلك النخب، ما عزَّز من سيطرتها على الساحة الأدبيَّة.
في هذا السياق، يشير المؤلِّف إلى مؤتمر جامعة ماكريري في أوغندا عام 1962، والذي حضره عدد من الكتَّاب الأفارقة البارزين. خلال هذا المؤتمر، اتَّفق العديد منهم على أنَّ اللغات المحلِّيَّة غير مناسبة لكتابة الرواية، بل تصلح أكثر لكتابة الشعر بسبب ارتباطها العميق بالتراث الشفويّ. وكان هذا الموقف بمثابة تأكيد على أنَّ الأدب الأفريقيّ المكتوب ينبغي أن يكون بلغة المستعمر السابق، ممَّا عزَّز من هيمنة اللغات الأجنبيَّة على حساب اللغات الأفريقيَّة الأصليَّة.
الصراع بين اللغات الأفريقيَّة والاستعماريَّة
كما يتطرَّق الكتاب أيضًا إلى الصراعات والتنافس بين اللغات الأفريقيَّة للهيمنة على الساحة الثقافيَّة، وكيف أنَّ تلك الصراعات ساهمت جزئيًّا في تمكين اللغات الاستعماريَّة من السيطرة. فالصراع اللغويّ لم يكن فقط صراعًا بين المستعمِر والمستعمَرين، بل كان أيضًا تناحرًا بين مختلف اللغات الأفريقيَّة، ممَّا أضعف الوحدة الثقافيَّة وعزَّز من تفوُّق اللغات الاستعماريَّة.
ومع ذلك، يرى المؤلِّف أنَّ السبب الرئيسيّ وراء هيمنة اللغات الأجنبيَّة لا يقتصر على الصراعات العرقيَّة أو اللغويَّة الداخليَّة فقط، بل يعود إلى الرغبة القويَّة للنخب الأفريقيَّة في أن تكون هذه اللغات أدوات للتواصل مع العالم الخارجيّ. إذ تمثِّل الكتابة بالإنكليزيَّة أو الفرنسيَّة وسيلة للتمكُّن من الحصول على اعتراف عالميّ، وفرصة للانخراط في الحوارات الأدبيَّة العالميَّة.
كذلك، من التساؤلات الأخرى التي يطرحها الكتاب هو ما إذا كانت اللغة التي يكتب بها الروائيّ الأفريقيّ تؤثِّر في تصنيفه ككاتب أفريقيّ. هل يمكن اعتبار الروايات التي تُكتب باللغات الاستعماريَّة مثل الإنكليزيَّة أو الفرنسيَّة جزءًا من الأدب الأفريقيّ؟ يرى المؤلِّف أنَّ هذا الجدل لا يزال قائمًا بين النقَّاد، لكنَّه يخلص إلى أنَّ الأدب الأفريقيّ، بمفهومه الأوسع، يتَّسع ليشمل كلَّ الأعمال التي كتبها الكتَّاب الأفارقة سواء داخل القارَّة أو خارجها، وبغضّ النظر عن اللغة التي كُتبت بها.
من الملاحظ أنَّ الروايات الأفريقيَّة التي كُتبت باللغات المحلِّيَّة غالبًا ما تُهمَّش، ولم تحظَ بنفس القدر من الاهتمام الذي حظيت به الروايات المكتوبة باللغات الاستعماريَّة. ومع ذلك، فإنَّ بعض الأعمال التي كُتبت باللغات المحلِّيَّة وتُرجمت لاحقًا إلى اللغات الاستعماريَّة قد لاقت نجاحًا دوليًّا واسعًا، مثل أعمال نجوجي واثيونغو الذي كتب أعمالًا بلغته الأمّ، لكنَّه اكتسب شهرة عالميَّة بعد ترجمة أعماله.
الأدب الأفريقيّ في الشتات
يناقش الكتاب وضعيَّة الأدب الأفريقيّ في الشتات، حيث يعيش العديد من الكتَّاب الأفارقة خارج القارَّة الأفريقيَّة بسبب الظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة في بلدانهم. وفي هذا السياق، يطرح وانجوجي تساؤلات حول ما إذا كانت الأعمال الأدبيَّة التي كتبها هؤلاء الأدباء في المهجر تُعتبر جزءًا من الأدب الأفريقيّ. هل يجب أن تكون الرواية أفريقيَّة الأصل أو تدور أحداثها في أفريقيا لتصنَّف كأدب أفريقيّ؟ وما هو مدى تأثير الأدب الأفريقيّ الذي يُكتب خارج القارَّة على تطوير الأدب داخلها؟
تُعدّ هذه التساؤلات جزءًا من الجدل الأكبر حول تعريف الأدب الأفريقيّ. وفي ضوء هذا، يعالج المؤلِّف أعمال عدد من الأدباء الذين يعيشون في الشتات، ويطرح مقارنات بين الأدب الأفريقيّ المكتوب في المهجر والأدب المكتوب داخل القارَّة، حيث يرى أنَّ الأدب الأفريقيّ الذي يكتبه الكتَّاب الأفارقة في المهجر يعكس جوانب مختلفة من تجربة الشتات والهجرة، ولكنَّه يظلّ مرتبطًا بجذوره الأفريقيَّة.
استقبال الأدب الأفريقيّ في الغرب
في جزء آخر من الكتاب، يناقش المؤلِّف كيفيَّة استقبال الأدب الأفريقيّ في أوروبا وأميركا الشماليَّة. إذ رغم أنَّ بعض الأعمال الأفريقيَّة قد لاقى نجاحًا كبيرًا في الغرب، إلَّا أنَّ العديد من النقَّاد الغربيِّين تعاملوا مع الأدب الأفريقيّ بنظرة استشراقيَّة، معتبرين إيَّاه نوعًا أدبيًّا منفصلًا عن الأدب العالميّ.
هذا التصوُّر يضع الأدب الأفريقيّ في إطار ضيِّق من الفولكلور والغرائبيَّة، متجاهلين تنوُّعه وعمقه. وتجدر الإشارة إلى أنَّ النقَّاد في الغرب غالبًا ما يركِّزون على الجوانب السياسيَّة والاجتماعيَّة في الأدب الأفريقيّ، في حين يهملون جوانبه الفنِّيَّة والجماليَّة. ويرى أنَّ هذا التركيز على البعد السياسيّ يعود جزئيًّا إلى النظرة الاستعماريَّة التي تعاملت مع أفريقيا باعتبارها "قارَّة المشاكل"، وليس باعتبارها موطنًا لإبداع أدبيّ غنيّ ومتنوِّع.
الأدب الأفريقيّ كأدب عالميّ
على الرغم من التحدِّيات التي يواجهها الأدب الأفريقيّ، يخلص المؤلِّف إلى أنَّ هذا الأدب قد تجاوز حدوده الجغرافيَّة وأصبح جزءًا من الأدب العالميّ. فالأفريقيّ لم يعد محصورًا في القارَّة الأفريقيَّة أو في قضاياها المحلِّيَّة، بل أصبح يشمل تجارب الشتات والهجرة والنفي، ويتناول موضوعات إنسانيَّة عالميَّة. بذلك يرى المؤلِّف أنَّ الأدب الأفريقيّ يمثِّل "صورة مصغَّرة" للأدب العالميّ، حيث يجمع بين تقاليد متعدِّدة وثقافات متنوِّعة.
باختصار، يُعدّ هذا الكتاب محاولة شاملة لاستكشاف تطوُّر الرواية الأفريقيَّة في ظلّ الهيمنة اللغويَّة والسياسيَّة. فهو يناقش الصراعات اللغويَّة الداخليَّة وتأثير الاستعمار على الأدب الأفريقيّ، كما يعالج قضايا الهويَّة والانتماء في أعمال الكتَّاب الأفارقة سواء داخل القارَّة أو في المهجر. وهو أيضًا دعوة للتفكير في الدور الذي تلعبه اللغة في تشكيل الأدب والهويَّات الثقافيَّة، ويطرح تساؤلات جوهريَّة حول ما يعنيه أن تكون كاتبًا أفريقيًّا في عالم تسوده العولمة والانفتاح الثقافيّ.
ملاحظات ختاميَّة
رغم أنَّ كتاب "نهضة الرواية الأفريقيَّة" لموكوما وانجوجي يقدِّم رؤى ثاقبة حول جوانب مهمَّة ومهملة في النقد الأدبيّ الأفريقيّ، إلَّا أنَّه يعاني من بعض القيود التي تحدّ من تأثيره. أوَّلًا، يفتقر الكتاب إلى تحليل شامل للأعمال المكتوبة باللغات الأفريقيَّة الأصليَّة، حيث يركِّز بشكل كبير على النصوص المكتوبة باللغات الأوروبيَّة، مثل الإنكليزيَّة. وكان من الممكن أن يثري الكتاب لو تناول أعمالًا مكتوبة بالعربيَّة، الأمهريَّة، والسواحليَّة، إذ تلعب هذه اللغات دورًا أساسيًّا في الثقافة الأدبيَّة الأفريقيَّة، وتجاهلها يجعل النقاش ناقصًا، حيث إنَّ الأدب الأفريقيّ يتمتَّع بتنوُّع ثقافيّ هائل، ويجب أن يشمل جميع أوجه هذا التنوُّع.
ثانيًا، يبالغ موكوما في التركيز على مؤتمر ماكيريري، ممَّا يجعل الكتاب يبدو غير متوازن. فرغم انتقاداته للسرد الزائف الذي يؤرِّخ لبداية الأدب الأفريقيّ، إلَّا أنَّه لا يقدِّم تحليلًا موسَّعًا للأعمال الأدبيَّة القديمة أو تلك التي نشأت في مناطق مختلفة من القارَّة. هذا التركيز الضيِّق يقيِّد استكشاف التاريخ الأدبيّ الأفريقيّ الغنيّ والمتنوِّع. كما أنَّ إغفاله لعمل جاياتري سبيفاك حول تحويل لغة المستعمِر إلى وسيلة للتحرُّر يُعدّ نقصًا واضحًا، إذ كان بالإمكان أن تعزِّز هذه الإضافة حججه حول الهيمنة اللغويَّة، ممَّا يوفِّر منظورًا أعمق حول استخدام اللغة كأداة للمقاومة.
أخيرًا، يفتقد الكتاب توازنًا في تصوير الإنجازات الاجتماعيَّة والسياسيَّة للأدب الأفريقيّ، حيث يميل موكوما إلى التركيز على الخسائر الناتجة عن الاستعمار. هذا النمط من السرد يعكس رؤية أحاديَّة، ممَّا يحجب الجوانب الإيجابيَّة والإبداعيَّة التي أظهرها الأفارقة في تطوير الأدب كأداة للمقاومة وبناء الهويَّة. كما أنَّ استخدامه لتجاربه الشخصيَّة وسيرته الذاتيَّة كأداة تحليليَّة، رغم أنَّه يُضفي بعدًا شخصيًّا قويًّا على حججه، قد يجعل من الصعب تعميم التحليل على التجربة الأفريقيَّة الكاملة.
نشأة الرواية الأفريقيَّة وتاريخها
لمناقشة تطوُّر الرواية الأفريقيَّة، يتناول المؤلِّف أعمال عدد من الكتَّاب الأفارقة من دول مختلفة مثل نيجيريا وكينيا وجنوب أفريقيا وزيمبابوي. ويشير إلى أنَّ البداية الرسميَّة للرواية الأفريقيَّة تعود غالبًا إلى نشر رواية "أشياء تتداعى" لتشينوا أتشيبي في عام 1958، والتي تُعتبر بمثابة نقطة البداية لتأريخ الأدب الأفريقيّ. وقد شكَّلت هذه الرواية تحوُّلًا نوعيًّا في الأدب الأفريقيّ حيث عبَّرت عن التحوُّلات الاجتماعيَّة والثقافيَّة التي مرَّت بها القارَّة نتيجة الاستعمار.
وعلى الرغم من أهمِّيَّة هذه الرواية في تاريخ الأدب الأفريقيّ الحديث، إلَّا أنَّ المؤلِّف يعود إلى أعمال أخرى سبقت هذا العمل وأثَّرت في تشكيل هذا الأدب، مثل رواية عاموس توتوالا "سكِّير نبيذ النخيل" التي نُشرت في عام 1952، والتي تُعتبر بداية فعليَّة للأدب الأفريقيّ المكتوب. كما يذكر روايات أخرى كُتبت بلغات أفريقيَّة محلِّيَّة ثمَّ تُرجمت لاحقًا إلى الإنكليزيَّة، مثل رواية توماس موفولو "مسافر إلى الشرق" التي كُتبت بلغة السوتو في عام 1907، ورواية صموئيل مقهاي "دعوى التوائم" التي كُتبت بالكوسا في عام 1912.
الهيمنة اللغويَّة والنخب الأفريقيَّة
يجادل المؤلِّف بأنَّ أحد العوامل الرئيسة التي ساهمت في استمرار هيمنة اللغات الاستعماريَّة في القارَّة هو ميل النخب الأفريقيَّة نحو الكتابة بهذه اللغات، خاصَّة الإنكليزيَّة والفرنسيَّة. فقد نشأ بين الكتَّاب والمثقَّفين الأفارقة في فترة ما بعد الاستعمار اعتقاد راسخ بأنَّ تلك اللغات هي الأكثر ملاءمة للتعبير عن الأدب الأفريقيّ والتواصل مع جمهور عالميّ أوسع. وبذلك، أصبحت هذه اللغات ليست مجرَّد وسيلة للتواصل، بل رمزًا للحداثة والتقدُّم في أذهان تلك النخب، ما عزَّز من سيطرتها على الساحة الأدبيَّة.
في هذا السياق، يشير المؤلِّف إلى مؤتمر جامعة ماكريري في أوغندا عام 1962، والذي حضره عدد من الكتَّاب الأفارقة البارزين. خلال هذا المؤتمر، اتَّفق العديد منهم على أنَّ اللغات المحلِّيَّة غير مناسبة لكتابة الرواية، بل تصلح أكثر لكتابة الشعر بسبب ارتباطها العميق بالتراث الشفويّ. وكان هذا الموقف بمثابة تأكيد على أنَّ الأدب الأفريقيّ المكتوب ينبغي أن يكون بلغة المستعمر السابق، ممَّا عزَّز من هيمنة اللغات الأجنبيَّة على حساب اللغات الأفريقيَّة الأصليَّة.
الصراع بين اللغات الأفريقيَّة والاستعماريَّة
كما يتطرَّق الكتاب أيضًا إلى الصراعات والتنافس بين اللغات الأفريقيَّة للهيمنة على الساحة الثقافيَّة، وكيف أنَّ تلك الصراعات ساهمت جزئيًّا في تمكين اللغات الاستعماريَّة من السيطرة. فالصراع اللغويّ لم يكن فقط صراعًا بين المستعمِر والمستعمَرين، بل كان أيضًا تناحرًا بين مختلف اللغات الأفريقيَّة، ممَّا أضعف الوحدة الثقافيَّة وعزَّز من تفوُّق اللغات الاستعماريَّة.
ومع ذلك، يرى المؤلِّف أنَّ السبب الرئيسيّ وراء هيمنة اللغات الأجنبيَّة لا يقتصر على الصراعات العرقيَّة أو اللغويَّة الداخليَّة فقط، بل يعود إلى الرغبة القويَّة للنخب الأفريقيَّة في أن تكون هذه اللغات أدوات للتواصل مع العالم الخارجيّ. إذ تمثِّل الكتابة بالإنكليزيَّة أو الفرنسيَّة وسيلة للتمكُّن من الحصول على اعتراف عالميّ، وفرصة للانخراط في الحوارات الأدبيَّة العالميَّة.
كذلك، من التساؤلات الأخرى التي يطرحها الكتاب هو ما إذا كانت اللغة التي يكتب بها الروائيّ الأفريقيّ تؤثِّر في تصنيفه ككاتب أفريقيّ. هل يمكن اعتبار الروايات التي تُكتب باللغات الاستعماريَّة مثل الإنكليزيَّة أو الفرنسيَّة جزءًا من الأدب الأفريقيّ؟ يرى المؤلِّف أنَّ هذا الجدل لا يزال قائمًا بين النقَّاد، لكنَّه يخلص إلى أنَّ الأدب الأفريقيّ، بمفهومه الأوسع، يتَّسع ليشمل كلَّ الأعمال التي كتبها الكتَّاب الأفارقة سواء داخل القارَّة أو خارجها، وبغضّ النظر عن اللغة التي كُتبت بها.
من الملاحظ أنَّ الروايات الأفريقيَّة التي كُتبت باللغات المحلِّيَّة غالبًا ما تُهمَّش، ولم تحظَ بنفس القدر من الاهتمام الذي حظيت به الروايات المكتوبة باللغات الاستعماريَّة. ومع ذلك، فإنَّ بعض الأعمال التي كُتبت باللغات المحلِّيَّة وتُرجمت لاحقًا إلى اللغات الاستعماريَّة قد لاقت نجاحًا دوليًّا واسعًا، مثل أعمال نجوجي واثيونغو الذي كتب أعمالًا بلغته الأمّ، لكنَّه اكتسب شهرة عالميَّة بعد ترجمة أعماله.
الأدب الأفريقيّ في الشتات
يناقش الكتاب وضعيَّة الأدب الأفريقيّ في الشتات، حيث يعيش العديد من الكتَّاب الأفارقة خارج القارَّة الأفريقيَّة بسبب الظروف السياسيَّة والاجتماعيَّة في بلدانهم. وفي هذا السياق، يطرح وانجوجي تساؤلات حول ما إذا كانت الأعمال الأدبيَّة التي كتبها هؤلاء الأدباء في المهجر تُعتبر جزءًا من الأدب الأفريقيّ. هل يجب أن تكون الرواية أفريقيَّة الأصل أو تدور أحداثها في أفريقيا لتصنَّف كأدب أفريقيّ؟ وما هو مدى تأثير الأدب الأفريقيّ الذي يُكتب خارج القارَّة على تطوير الأدب داخلها؟
تُعدّ هذه التساؤلات جزءًا من الجدل الأكبر حول تعريف الأدب الأفريقيّ. وفي ضوء هذا، يعالج المؤلِّف أعمال عدد من الأدباء الذين يعيشون في الشتات، ويطرح مقارنات بين الأدب الأفريقيّ المكتوب في المهجر والأدب المكتوب داخل القارَّة، حيث يرى أنَّ الأدب الأفريقيّ الذي يكتبه الكتَّاب الأفارقة في المهجر يعكس جوانب مختلفة من تجربة الشتات والهجرة، ولكنَّه يظلّ مرتبطًا بجذوره الأفريقيَّة.
استقبال الأدب الأفريقيّ في الغرب
في جزء آخر من الكتاب، يناقش المؤلِّف كيفيَّة استقبال الأدب الأفريقيّ في أوروبا وأميركا الشماليَّة. إذ رغم أنَّ بعض الأعمال الأفريقيَّة قد لاقى نجاحًا كبيرًا في الغرب، إلَّا أنَّ العديد من النقَّاد الغربيِّين تعاملوا مع الأدب الأفريقيّ بنظرة استشراقيَّة، معتبرين إيَّاه نوعًا أدبيًّا منفصلًا عن الأدب العالميّ.
هذا التصوُّر يضع الأدب الأفريقيّ في إطار ضيِّق من الفولكلور والغرائبيَّة، متجاهلين تنوُّعه وعمقه. وتجدر الإشارة إلى أنَّ النقَّاد في الغرب غالبًا ما يركِّزون على الجوانب السياسيَّة والاجتماعيَّة في الأدب الأفريقيّ، في حين يهملون جوانبه الفنِّيَّة والجماليَّة. ويرى أنَّ هذا التركيز على البعد السياسيّ يعود جزئيًّا إلى النظرة الاستعماريَّة التي تعاملت مع أفريقيا باعتبارها "قارَّة المشاكل"، وليس باعتبارها موطنًا لإبداع أدبيّ غنيّ ومتنوِّع.
الأدب الأفريقيّ كأدب عالميّ
على الرغم من التحدِّيات التي يواجهها الأدب الأفريقيّ، يخلص المؤلِّف إلى أنَّ هذا الأدب قد تجاوز حدوده الجغرافيَّة وأصبح جزءًا من الأدب العالميّ. فالأفريقيّ لم يعد محصورًا في القارَّة الأفريقيَّة أو في قضاياها المحلِّيَّة، بل أصبح يشمل تجارب الشتات والهجرة والنفي، ويتناول موضوعات إنسانيَّة عالميَّة. بذلك يرى المؤلِّف أنَّ الأدب الأفريقيّ يمثِّل "صورة مصغَّرة" للأدب العالميّ، حيث يجمع بين تقاليد متعدِّدة وثقافات متنوِّعة.
باختصار، يُعدّ هذا الكتاب محاولة شاملة لاستكشاف تطوُّر الرواية الأفريقيَّة في ظلّ الهيمنة اللغويَّة والسياسيَّة. فهو يناقش الصراعات اللغويَّة الداخليَّة وتأثير الاستعمار على الأدب الأفريقيّ، كما يعالج قضايا الهويَّة والانتماء في أعمال الكتَّاب الأفارقة سواء داخل القارَّة أو في المهجر. وهو أيضًا دعوة للتفكير في الدور الذي تلعبه اللغة في تشكيل الأدب والهويَّات الثقافيَّة، ويطرح تساؤلات جوهريَّة حول ما يعنيه أن تكون كاتبًا أفريقيًّا في عالم تسوده العولمة والانفتاح الثقافيّ.
ملاحظات ختاميَّة
رغم أنَّ كتاب "نهضة الرواية الأفريقيَّة" لموكوما وانجوجي يقدِّم رؤى ثاقبة حول جوانب مهمَّة ومهملة في النقد الأدبيّ الأفريقيّ، إلَّا أنَّه يعاني من بعض القيود التي تحدّ من تأثيره. أوَّلًا، يفتقر الكتاب إلى تحليل شامل للأعمال المكتوبة باللغات الأفريقيَّة الأصليَّة، حيث يركِّز بشكل كبير على النصوص المكتوبة باللغات الأوروبيَّة، مثل الإنكليزيَّة. وكان من الممكن أن يثري الكتاب لو تناول أعمالًا مكتوبة بالعربيَّة، الأمهريَّة، والسواحليَّة، إذ تلعب هذه اللغات دورًا أساسيًّا في الثقافة الأدبيَّة الأفريقيَّة، وتجاهلها يجعل النقاش ناقصًا، حيث إنَّ الأدب الأفريقيّ يتمتَّع بتنوُّع ثقافيّ هائل، ويجب أن يشمل جميع أوجه هذا التنوُّع.
ثانيًا، يبالغ موكوما في التركيز على مؤتمر ماكيريري، ممَّا يجعل الكتاب يبدو غير متوازن. فرغم انتقاداته للسرد الزائف الذي يؤرِّخ لبداية الأدب الأفريقيّ، إلَّا أنَّه لا يقدِّم تحليلًا موسَّعًا للأعمال الأدبيَّة القديمة أو تلك التي نشأت في مناطق مختلفة من القارَّة. هذا التركيز الضيِّق يقيِّد استكشاف التاريخ الأدبيّ الأفريقيّ الغنيّ والمتنوِّع. كما أنَّ إغفاله لعمل جاياتري سبيفاك حول تحويل لغة المستعمِر إلى وسيلة للتحرُّر يُعدّ نقصًا واضحًا، إذ كان بالإمكان أن تعزِّز هذه الإضافة حججه حول الهيمنة اللغويَّة، ممَّا يوفِّر منظورًا أعمق حول استخدام اللغة كأداة للمقاومة.
أخيرًا، يفتقد الكتاب توازنًا في تصوير الإنجازات الاجتماعيَّة والسياسيَّة للأدب الأفريقيّ، حيث يميل موكوما إلى التركيز على الخسائر الناتجة عن الاستعمار. هذا النمط من السرد يعكس رؤية أحاديَّة، ممَّا يحجب الجوانب الإيجابيَّة والإبداعيَّة التي أظهرها الأفارقة في تطوير الأدب كأداة للمقاومة وبناء الهويَّة. كما أنَّ استخدامه لتجاربه الشخصيَّة وسيرته الذاتيَّة كأداة تحليليَّة، رغم أنَّه يُضفي بعدًا شخصيًّا قويًّا على حججه، قد يجعل من الصعب تعميم التحليل على التجربة الأفريقيَّة الكاملة.