Print
روبرت تي. تالّي

كيف أعاد فريدريك جيمسون تشكيل النقد الأدبي؟

6 أكتوبر 2024
ترجمات
ترجمة: لطفيّة الدليمي
في كلِّ أطواره المهنيَّة اختصَّ فريدريك جيمسون Fredric Jameson (الذي توفِّي يوم 22 أيلول/ سبتمبر 2024- المترجمة) لنفسه موقعًا مضادًّا لكلِّ المقاربات الماركسيَّة الاختزاليَّة في الثقافة والتقاليد العمياء في الانجرار وراء الأطروحات السياسيَّة السائدة لدى عتاة الماركسيِّين التقليديِّين. ويكشف لنا كتابه الجديد الذي نُشِرَ قبل بضعة أشهر من وفاته عن ذاته وهو في أعلى تجلِّياته الثقافيَّة التي أبان فيها عن مقاربته البديلة المتَّسمة بالجدَّة للماركسيَّة والنظريَّة الأدبيَّة.
لأكثر من خمسة عقود ظلَّ فريدريك جيمسون الناقد الأدبي والثقافي الماركسي الذي حمل لواء القيادة لهذا اللون الثقافي في الولايات المتَّحدة إن لم يكن في العالم كلِّه. لم يُبدِ جيمسون حتى وهو على عتبة التسعين أيَّة إشارة على الانكفاء أو التخاذل في العمل. كتابه الأخير المعنون Inventions of a Present: The Novel in Its Crisis of Globalization خرج للعلن منشورًا في شهر مايو (أيَّار) الماضي، وثمَّة كتابٌ آخر له بعنوان The Years of Theory: Postwar French Thought to the Present مخطَّطٌ له أن يُنشر في وقت آخر قبل نهاية هذه السنة (2024). ينهمك جيمسون إلى جانب كلِّ هذا في إكمال ما سيكون الجزء الأخير من مشروعه ذي الأجزاء الستَّة والذي اختار له عنوان: شعريَّة الأشكال الاجتماعيَّة The Poetics of Social Forms.
وُلِد جيمسون في كليفلاند، أوهايو، في الولايات المتَّحدة عام 1934، وداوم في كلِّيَّة هافرفورد حيث درس فيها رفقة المنظِّر البلاغي الأسطوري وين بوث Wayne Booth الذي يُعرَفُ عنه صياغته لمفهوم السارد غير الموثوق به Unreliable Narrator. بعد تخصُّصه الجامعي في اللغة الفرنسيَّة سيمضي جيمسون بقيَّة مساره الدراسي في جامعة ييل الأميركيَّة النخبويَّة حيث حصل منها على شهادة الدكتوراه عام 1959. بعدها أمضى جيمسون مهنته الأكاديميَّة في حقل اللغة الفرنسيَّة، ودراسات الرومانسيَّة، وبرامج الأدب المقارن أوَّلًا في جامعة هارفرد، ثمَّ في جامعة كاليفورنيا (سان دييغو)، وييل، وجامعة كاليفورنيا (سانتا كروز)، ثمَّ منذ عام 1985 ظلَّ أستاذًا في جامعة ديوك. شملت تجربة جيمسون التعليميَّة أطيافًا واسعة بلا شكٍّ من الموضوعات واللغات والآداب والنظريَّات التي أودعها في كتبه المنشورة وهي كثيرة.
ظلَّ جيمسون طيلة أعوام إبداعه الأدبي، وسيظلُّ دومًا، أستاذًا معلِّمًا، والكثير من عمله (سواءٌ كان في صيغة محاضرات جامعيَّة كتلك التي شهدتها بنفسي أوَّل مرَّة عندما كنتُ طالبًا جامعيًّا عام 1989، أو في كتبه المنشورة العديدة) له نكهة تعليميَّة مميَّزة لصيقة به. في كتابه المنشور عام 1971 بعنوان Marxism and Form: Twentieth-Century Dialectical Theories of Literature عرَّف جيمسون العالَمَ الناطق بالإنكليزيَّة بالتقاليد الثريَّة الكامنة في النظريَّة الماركسيَّة بنسختها الغربيَّة، وقد فحص فيها وسائل عمل كلٍّ من جورج لوكاش، ووالتر بنجامين، ومدرسة فرانكفورت، وجان بول سارتر. لم يأنسْ جيمسون في نفسه أبدًا ذلك النوع من الاستبعاد الراديكالي (المتطرِّف) من جانب اليسار الماركسي المتشدِّد للممارسات النقديَّة التي افترض فيها اليسار الماركسي بأنَّها غامضة ونقيضة للماركسيَّة ونتاجٌ للرأسماليَّة في أشكالها المحدَّثة. لم يقبل ذلك اليسار الماركسي على سبيل المثال مفهوم التفكيك Deconstruction، ورأى فيه نقصًا وابتعادًا عن الدلالة الاجتماعيَّة.
يُنسَبُ إلى جيمسون الفضلُ في لمِّ شمل المنظِّرين والنقَّاد الماركسيِّين وجعلهم يعملون بكيفيَّة منظَّمة في خدمة النظريَّة المركَّبة والمعقَّدة للنقد الديالكتيكي. في ذلك الوقت من بواكير عمل جيمسون في أواخر خمسينيَّات القرن الماضي وبداية ستِّينيَّاته، لم يكن هؤلاء المنظِّرون والنقَّاد الماركسيُّون معروفين على أضيق النطاقات الأكاديميَّة والمهنيَّة فحسب بل إنَّ النقد الماركسي (أو النقد المكيَّف اجتماعيًّا) وجد القليل من الممارسة الأكاديميَّة في الولايات المتَّحدة. عندما شرع جيمسون في مهنته الأكاديميَّة كان النقد الأدبي واقعًا تحت سطوة الهيمنة الكاملة للمقاربات الشكلانيَّة ضيِّقة النطاق التي استبعدت بشكل صارم أيَّة مناقشة للسياق التاريخي أو الاجتماعي للأعمال الأدبيَّة. صحيحٌ أنَّ بعضًا من النقَّاد عضَّدوا النماذج التاريخيَّة في دراسة النقد الأدبي؛ لكنَّهم مضوا في مقاربتهم التاريخيَّة والاجتماعيَّة بعيدًا وأوغلوا فيها كثيرًا حدَّ أنَّهم أنكروا كلَّ الخصائص اللغويَّة والشكلانيَّة للأدب تمامًا لصالح تفضيل رؤيتهم التي ترى الأدب محض انعكاس للحظة التاريخيَّة التي يوجد فيها ويعمل في نطاقها.
يرى جيمسون أنَّ كلًّا من هاتين المقاربتيْن المتضادَّتيْن غير كافية أو قادرة على الدراسة الوافية للأعمال الأدبيَّة لأنَّها تضعُ قيودًا متَّسمة بالمشروطيَّة المسبَّقة على الشكل أو المحتوى بطريقة ينفي فيها أحدهما الآخر. أبان جيمسون في أعماله، وكاستجابة مضادَّة منه، كيف أنَّ الشكل والمحتوى، والمساءلة الدقيقة المتفحِّصة للنصِّ الأدبي، والتحرِّيات الدقيقة للسياق الاجتماعي- التاريخي الذي كُتِب فيه، والقراءات الواسعة المفضية إلى معرفة رصينة على الصعيديْن اللغوي والسياسي يمكنُ لها كلِّها أن تتشكَّل في رابطة عضويَّة شاملة ضمن مقاربة ماركسيَّة. دافع جيمسون بقناعة راسخة عن مقاربة نقديَّة تعتمد السياقات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والتاريخيَّة؛ لكنَّه في الوقت ذاته ظلَّ ملتزمًا مخلصًا للتحليل الشكلاني. رسَّخ جيمسون الخطى في محاولته تعشيق هذين الخطَّين النقديَّين: الهوس الأنغلوفوني بالشكل، والاهتمام الماركسي بالسياق التاريخي والاجتماعي الذي لم يتأسَّس تأسيسًا ثقافيًّا نقيًّا في القارَّة الأوروبيَّة.




في سبعينيّات وثمانينيّات القرن العشرين كانت النظريّة الأدبيّة مصدرًا لكلّ أشكال الغضب والنفور والتباعد والجدالات الصاخبة. تأثّرت النظريّة الأدبيّة إلى حدٍّ بعيد بأعمال الفلاسفة الفرنسيّين التي ظهرت عقب الحرب العالميّة الثانية؛ لذا جاهد النقّاد الأدبيّون - وبوحي من هذا التأثّر- في تطبيق أفكار التحليل النفسيّ فضلًا عن التوظيف الأدبيّ للأفكار التي تطوّرت في حقل اللغويّات، وتجاوز التأثير نطاق الأدب نحو الثقافة بعامّة. في تلك السنوات التزم جيمسون موقفًا صلبًا بشأن أهمّيّة الماركسيّة وكونها إطارًا فكريًّا لا يمكن تجاهله أو تعويضه بأيّ إطار آخر. امتلك جيمسون طيلة حياته المهنيّة رؤية ثابتة ترى أنّ الماركسيّة قادرة على احتواء كلّ المقاربات النقديّة المتّسمة بالمحدوديّة، وهي (الماركسيّة) في الوقت الذي تخصّصُ لكلّ مقاربة نطاقها القطاعيّ ومنطقة صلاحيّتها - كوسيلة لتحليل خصائص محدّدة لغويّة أو نفسيّة أو أخلاقيّة أو تاريخيّة ذات صلة عميقة بوجودنا الإنسانيّ- فإنّها تستطيع في الوقت ذاته البقاء على التزامها بالرؤية الكلّيّة، وقد عنى جيمسون بهذه الرؤية الكلّيّة للنظريّة الأدبيّة القدرة على تصوير كينونتنا الفرديّة والجمعيّة كجزء من نسق System اجتماعيّ وسياسيّ وتاريخيّ متجوهر في النمط الرأسماليّ للإنتاج Capitalist Mode of Production.



الماركسيّة - كما يرى جيمسون- هي المقاربة النقديّة الوحيدة القادرة على إضفاء معنى على التجربة البشريّة باعتبارها ظاهرة تاريخيّة. أكّد جيمسون قناعته هذه عندما استعار عبارة من سارتر أكّد فيها هو الآخر قناعته بأنّ الماركسيّة هي "الأفق الذي لا يمكن القفز عليه أو تجاوزه". الماركسيّة كما يراها جيمسون هي الأقدر من أيّة مقاربة أخرى على تشخيص المعاني العديدة المحتواة في العمل الأدبيّ، وغالبًا ما استخدم جيمسون هذه القدرة بمعنى واسع وشديد المرونة في التطبيق الأدبيّ. هذه هي المحاجّة التي قدّمها جيمسون في كتابه المنشور عام 1981 بعنوان: The Political Unconscious: Narrative as a Socially Symbolic Act، وهو كتاب جيمسون الأكثر شهرة وتأثيرًا في الأوساط الأدبيّة. في هذا الكتاب يربطُ جيمسون بين التاريخ الكلّيّ للأشكال السرديّة (من الملحمة الهوميروسيّة والرومانسيّات القروسطيّة إلى تاريخ الرواية مرورًا بالأطوار العظيمة المتعدّدة لها من واقعيّة وحداثة وما بعد حداثة) مع الأنماط المتغيّرة للإنتاج في تاريخ الرأسماليّة.




متّبعًا تقليدًا هيغليًّا ماركسيًّا يرى جيمسون أنّ القصّة البشريّة هي حكاية سرديّة واحدة مفردة وإن بدت غير متّصلة أحيانًا، تربطُ أجزاء تبدو متفرّقة من أنماط الإنتاج وتتأثّر بها بكيفيّة لا محيد عنها. يرى جيمسون في كتاباته المنشورة أنّ كلًّا من المجتمعات الصيّادة- جامعة الثمار Hunter-Gatherer والإقطاعيّة Feudalist هي التي شكّلت مخيالنا الثقافيّ وأنتجت الحكايات الأسطوريّة المرتبطة ببعضها من خلال السرد الملحميّ، وساهمت في نشأة الرومانسيّات الرمزيّة، وعملت على تطوير الرواية الحديثة. هذه الأشكال السرديّة بذاتها، وباعتبارها أنواعًا أدبيّة قائمة، تنطوي- كما يرى جيمسون- على ظاهرة اللاوعي السياسيّ Political Unconscious الكامن في كلّ مجتمع أنتجَتْ فيه هذه الأعمال الأدبيّة. يعتقد جيمسون أنّ الشخوص الأدبيّة الممثّلة لرؤيته السرديّة بكيفيّة أكثر دراماتيكيّة من سواها هم: أونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac، جورج غيسنغ George Gissing، جوزيف كونراد Joseph Conrad. يرى جيمسون أنّ أعمال هؤلاء نشأت في مفاصل زمنيّة شديدة الأهمّيّة في تاريخ الرأسماليّة والإمبرياليّة معًا؛ لذا فإنّ رواياتهم يجبُ أن تُفهَم على أساس أنّها انشغالات صارخة بالانزياحات الهائلة التي كانت تعمل في المشهد الخلفيّ غير المنظور لمجتمعاتهم على كلّ الأصعدة.
يؤكّد جيمسون - بين أشياء كثيرة- في كلّ قراءاته للأعمال الأدبيّة على ضرورة الكشف عن "استراتيجيّات الاحتواء" الآيديولوجيّة التي تميلُ لعزل التجربة الفرديّة وفصلها عن العمل الأدبيّ، وبالتالي كبح المحتوى الاجتماعيّ والسياسيّ الذي سرعان ما سينحلُّ شيئًا فشيئًا إلى عنصر متضائل في بعدٍ غير مرئيّ، مهمل، اختار جيمسون أن يصفه باللاوعي السياسيّ (على شاكلة مفردة اللاوعي السائدة في علم النفس الفرويديّ- المترجمة).
كتابات جيمسون نتاجُ فكر انتقائيّ لطائفة واسعة هائلة الضخامة والتنوّع من المصادر الثقافيّة والتقاليد النظريّة المضمّنة في طريقة تفكيره. يعتمد جيمسون جُمَلًا يسمّيها "ديالكتيكيّة"، وهي تميل في عمومها لأن تكون طويلة حتى لتبدو في كثير من الأحيان استطرادات أو استعادات مميّزة لمقالات جيمسون وأعماله المنشورة في كتب. يعمل جيمسون على تجميع سُحُب أفكار من شتّى الأصناف والألوان من غير رابطة واضحة بينها، ثمّ في لحظة بصيرة مبهرة تبدأ الأفكار بالتجوهر في رؤية مصوّبة ومحدّدة بوضوح تمامًا مثلما يفعل البرق وسط عاصفة. كتب جيمسون واصفًا التفكير الديالكتيكيّ بأنّه "يستلزم منك أن تقول كل شيء آنيًّا بغضّ النظر عن كونك تستطيع فعل هذا الأمر أم لا تستطيعه". يبدو جيمسون في كتاباته وكأنّ كلّ شيء كان حاضرًا في عقله لحظة الكتابة؛ لكنّما محدوديّة اللغة هي التي أعاقته عن كتابة كل شيء دفعة واحدة.
كتابُ جيمسون الأخير المنشور قبل بضعة أشهر: Inventions of a Present: The Novel in Its Crisis of Globalization هو تجميعة من مقالات سابقة منشورة له، يعرضُ فيها الطيف الواسع لاشتغالاته الثقافيّة على مدى سنوات عديدة، وفي الوقت ذاته يقدّمُ الكتاب نوعًا من المراجعة والرؤية الشاملة لتفكير جيمسون وتحوّلاته المثيرة. كما يشير العنوان الثانويّ للكتاب فإنّ اهتمام جيمسون يقتصر على الرواية بذاتها بين كلّ اشتغالاته الثقافيّة. يختصّ كل فصل في الكتاب بمراجعة رواية ما لوحدها؛ لذا فإنّ كتاب جيمسون هذا قد لا يكون ممثّلًا حقيقيًّا لفكر جيمسون ورؤيته الشاملة. مع هذا سيكون هذا الكتاب بداية جيّدة للقارئ المستجدّ للبداية في تفحّص فكر جيمسون لأنّه يقدّمُ لمثل هذا القارئ فرصة ثمينة لرؤية جيمسون -المُنظّر والناقد الأدبيّ معًا- في خضمّ فعاليّة تطبيقيّة يقرأ فيها طائفة واسعة من الروايات ويجعلها ملعبًا لتمثّل رؤيته الثقافيّة.
السطور الافتتاحيّة من كتاب جيمسون الأخير مثيرة للغاية: "يتوق الباحث الأدبيّ إلى وثبة نمر نحو الماضي؛ في حين يتوق مراجعو الكتب إلى ومضاتٍ من الحاضر. أمّا الرواية فهي أقرب لأن تكون واحة راحة زمنيّة، وهي بأخاديدها ونتوءاتها إشارة إلى اقتحام التاريخ لحيوات الأفراد، أو إلى السكينة التي تسِمُ تلك الحيوات......".
بهذا التقديم المبكّر للكتاب يبتغي جيمسون تثبيت خلاصة مفادُها أنّ كلّ الروايات هي تاريخيّة حتى لو بدا ما يوصف بأنّه (رواية تاريخيّة) شيئًا من الماضي. الروايات هي وسيلتنا التي بها نستطيع تحمّل أعباء المشروع الأقرب للاستحالة في أرخنة historicising اللحظة الراهنة.

(*) روبرت تي. تالّي Robert T. Tallyأستاذ الإنكليزية في جامعة تكساس الحكومية. له كتب منشورة عديدة آخرها الكتاب الذي عنوانه: 
For a Ruthless Critique of All That Exists: Literature in an Age of Capitalist Realism  

(*) الموضوع أعلاه ترجمة لمعظم فقرات المقال المنشور في موقع Jacobin الإلكتروني بتاريخ 3 أيلول (سبتمبر) 2024 قبل بضعة أيام من وفاة فريدريك جيمسون. العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو: 
How Fredric Jameson Remade Literary Criticism