ترجمة: سارة حبيب
لماذا يعدّ إضفاء الطابع الرومانسي على حياتنا الخاصة ملتبسًا فلسفيًا، ومؤديًا إلى نشوء سرديات سامّة وعجزٍ عن الحب الحقيقي؟
بينما كنتُ أقود على واحد من طرقات نيويورك المزدحمة التي تفتقر إلى الصيانة، وجدتُ نفسي في حالة يمكن للمرء أن يرصدها بأمان أكثر من خلال فيديوهات يوتيوب عديدة تتحدث عن الـ"السائق السيء": سائقٌ يبدو أن حركة المرور الأخرى كلها لم تعد موجودةً بالنسبة إليه، فانعطف بثقة إلى مسار صادف أنني كنت أشغله سلفًا. هكذا، وبعد مناورة سريعة وفّرت عليّ ربما دورًا في أحد الفيديوهات آنفة الذكر، قلتُ، ربما بصوت أعلى من اللازم، وبدون أن أوجه حديثي لأحد بعينه: "هل هذا الـ[كلمة محذوفة] يعي أي شيء سوى الـ[كلمة محذوفة] الخاص به؟".
كوني فيلسوفة، وبالتالي أميل لأن أكون سيئة نوعًا ما في ترك الأفكار وشأنها - لا سيما الأفكار التي ليست لها إجابات جيدة- جعلني احتكاكي مع شهرة يوتيوب أفكر بأمثلة أخرى ممّ أصبح يُدعى "متلازمة الشخصية الرئيسية" (main character syndrome/MCS)، أو، ربما على نحو أكثر إزعاجًا، "طاقة الشخصية الرئيسية". ليست متلازمة الشخصية الرئيسية تشخيصًا سريريًا، بل هي أقرب إلى أن تكون طريقةِ تحديدِ المرء لموقعه في علاقته مع الآخرين، وقد أصبحت رائجة بفعل عدد من منصات التواصل الاجتماعي. إنها نزوع المرء لأن يرى حياته بوصفها قصة يكون هو فيها نجمًا في الدور الرئيسي، في حين يكون الآخرون جميعهم شخصيات ثانوية في أفضل الأحوال. بالتالي، تكون وجهات نظر النجم، رغباته، ما يحب، ما يكره، وآراؤه هي وحدها ما يهم، في حين أنها عند الآخرين ذوي الأدوار المساعدة تُحال إلى هامش الإدراك. الشخصيات الرئيسية تقوم بالفعل في حين أن كل شخص آخر يتفاعل فحسب. تطالب الشخصيات الرئيسية بالاهتمام ومن الأفضل لبقيتنا أن يطيعوا.
ربما تكون قد سمعتَ بسلوك "الشخصية الرئيسية"، أو ربما شهدته عبر الإنترنت أو شخصيًا. تيكتوكر ومتابعونه وهم يزيحون إزاحة فعلية تلك الزيادات المزعجة التي "تدمّر" صورهم الذاتية؛ ومن ثم ينشرون مظالمهم على وسائل التواصل الاجتماعي. رجل في مترو أنفاق مزدحم يشاهد بث ألعاب رياضية بصوت عالٍ من دون سماعات أذن متجاهلًا طلبات الركاب الآخرين بأن يخفض الصوت قليلًا. ليست هذه مجرد فظاظة: في عالم الشخصيات الرئيسية المحدود جدًا، نحن البقية لسنا سوى أشباح عديمة الأهمية صادف أن تتطفل على حيّزهم. ومثل قطع الشطرنج، أو ربما الشخصيات المتحركة إلكترونيًا، نحن لا نمتلك الفاعلية إلا في تطوير قصة الشخصية الرئيسية. إننا، حسب اللغة السائدة، شخصيات غير لاعبة (non-player characters/NPCs)؛ مصطلحٌ نشأ في الألعاب المنضدية التقليدية لوصف شخصيات لا يتحكم بها اللاعب بل "سيد الزنزانة". أما في ألعاب الفيديو فالشخصيات غير اللاعبة هي شخصيات ذات مجموعة تصرفات محددة مسبقًا (أو محددة خوارزميًا) يتحكم بها الحاسوب. فبدلًا من أن تكون شخصيات فاعلة تتمتع بإرادة ونية، الشخصيات غير اللاعبة موجودة لمساعدة الشخصية الرئيسية في مسعاها، لتتقاطع مع الشخصية الرئيسية بطرق مضبوطة مسبقًا، أو لتبقى صامتة ببساطة؛ نوع من دعامة، أو ربما أثاث على شكل بشر، جزءٌ من المشهد. كذلك، ثمة طريقة أخرى للنظر إلى الشخصيات غير اللاعبة وهي أن نتخيل ما يدعوه الفيلسوف ديفيد تشالمرز "زومبي فلسفي" (philosophical zombie/p-zombie)؛ كائنٌ، رغم أنه مطابق جسديًا للإنسان العادي، لا يمتلك تجربة واعية. إذا ضحك الزومبي الفلسفي، فليس ذلك لأنه يعتبر شيئًا ما مضحكًا، فسلوكه محض محاكاة للفرد الحقيقي (الشخصية الرئيسية). وبالنسبة إلى شخص مقتنع بهويته كشخصية رئيسية، ليس بقيتنا ربما سوى زومبيات كثيرة.
في حين أن زومبي تشالمرز الفلسفي هو جزء من حالة افتراضية فلسفية تتعلق بطبيعة العقل والوعي، الرأي غير الفلسفي الذي يعتبر البشر شخصيات غير لاعبة مقلق أخلاقيًا للغاية. وكوني درّست وكتبت لسنوات عديدة في مجالات علم الأخلاق وعلم النفس الأخلاقي، أحد الأفكار الرئيسية التي حاولتُ شرحها وجعلها أكثر وضوحًا هي أن الأخلاق شيءٌ نقوم به معًا، أن أفكارنا حول "من نحن" تتطلب مشاركة ملتزمة من واحدنا تجاه الآخر، وأن انفتاحًا ينطوي على تقمص عاطفي ليس إزاء فاعلية الآخر الأخلاقية فحسب، بل إزاء حالات الآخر العاطفية كذلك، هو شيء رئيسي لعالم الحياة المشترك بيننا. علينا أن نرى الآخرين كبشر تمامًا، ونكون منخرطين واحدنا مع الآخر بوصفنا كائنات أخلاقية لكي نفهم من نحن، ومن نحن في صلتنا مع الآخرين ومع العالم.
لكنّ سردية الشخصية الرئيسية تنكر كل هذه الاحتمالات. إنها تدمّر كل الآراء التي ترى البشر علائقيين أساسًا ومعتمدين واحدهم على الآخر، وتشكّل تهديدًا لتجربتين بشريتين هامتين: الأولى هي الاتصال بالآخرين؛ الثانية هي الحب.
لمواجهة الاعتراضات التي قد تقول بأن مخاوفي ليست إلا حالة بسيطة من عدم اتساق بين الأجيال - أفراد جيل X الحائرون يسيئون فهم وجهات نظر جيل Z- أقترح أن متلازمة الشخصية الرئيسية خطيرة بالتحديد لأنها كما يبدو ليست موضة عابرة، وليست خاصة بمنظور سياسي لجيل واحد، أو مجموعة اجتماعية؛ في الحقيقة، أثرها يمتد أبعد بكثير من تيك توك، ويوجد في عالم الأعمال، في المؤسسات الأكاديمية، وفي أروقة السلطة.
كفيلسوفة ومشتغلة بالسرد، أدعم صراحة الرأي القائل بأن الذوات هي شيء نخلقه معًا، من خلال قصص مشتركة. ما هي السردية؟ إنها، باختصار، أي شيء يمكن قراءته، قوله، سماعه، كتابته، مشاهدته أو التعبير عنه بطريقة أخرى، وهذا يشمل بالتأكيد وسائل التواصل الاجتماعي. إننا، بسرد القصص، نخلق من نحن ونُظهر من نحن وفق اعتقادنا؛ بالاستماع إلى قصص الآخرين، نساعد في قولبتهم كأشخاص ودعمهم. بالتالي، القصص تؤسس كيفية رؤيتنا للعالم ومكاننا فيه، ومن خلالها يمكننا أن نجعل أنفسنا مفهومين أخلاقيًا لأنفسنا وللآخرين.
وهنا أيضًا نواجه مشكلة. إذا ما وضعنا جانبًا الانتقادات ضمن الفلسفة ذاتها التي تعتبر الرؤية السردية للأخلاق غير موثوقة معرفيًا ومن دون أي مبادئ تأسيسية، تبقى هنالك أيضًا مخاوف تتعلق على نحو أكثر مباشرة بموضوعنا الحالي: إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي نوعًا من سردية، هل يمكن للمشتغلين بالسرد، مثلي أنا، أن يدافعوا عنها بالاستناد إلى ذات أسس الطرق السردية الأخرى لفهم أنفسنا والعالم؟ وإذا كانت الإجابة "نعم"، لماذا إذًا أبدّد كل هذا الوقت في القلق إزاء متلازمة الشخصية الرئيسية وقصصها الكثيرة؟
تتعلق الإجابة بأنواع القصص التي تطرحها متلازمة الشخصية الرئيسية. من ناحية، مقاربات السرد للأخلاق والهوية تركّز على كلٍّ من التحدث والاستماع - المشاركة والاستيعاب- مؤكدةً على أهمية تعدد الأصوات، الخطاب المشترك، المفهومية المتبادلة. إنها لا تشير إلى الأهمية الأخلاقية لقصص المرء ذاته فحسب، بل كذلك لسرديات الآخرين بوصفها أدوات إرشاد لفهم الاعتماد المتبادل الأساسي بين هويات البشر.
من ناحية أخرى، السرديات التي نسجتها الشخصية الرئيسية لا تهتم كثيرًا بقصص الآخرين، أو ليس لديها صبر على تلك القصص؛ إنها ليست أبدًا معتمدة اعتمادًا متبادلًا عليها. وهي لا تهتم أبدًا بالمفهومية المتبادلة. وحدها الشخصية الرئيسية، منظورها، قصتها وذاتها المنعزلة، هي ما يهم. وفي هذه النسخة من الذاتية السردية، ليس هنالك متسع سوى للمتحدث المفرد ووقائعه بالغة الأهمية. مع هذا، كما سيلاحظ المشتغلون بالسرد غالبًا، ليست كل السرديات جيدة، أو مرغوبة، أو ينبغي تشجيعها.
في الحقيقة، كما ترى الفيلسوفة النسوية والمختصة في الأخلاقيات الحيوية هيلدا لينديمِن، يمكن لبعض السرديات أن تخلق الكثير من الضرر الأخلاقي مؤذيةً هويات كلّ من المتحدث ومستمعيه، ومدمِّرة لإمكانية عالم أخلاقي مشترك. وأقترح أن السرديات التي تنشأ عن ظاهرة متلازمة الشخصية الرئيسية هي بالتحديد من هذا النوع المضرّ.
تقدم متلازمة الشخصية الرئيسية النوع الخاطئ من القصص: مؤذية، عازلة، سولبسية (أنوية، لا وجود فيها لشيء سوى الأنا)، لاأخلاقية. وهي تبدأ، إلى حد بعيد، من التفوق المفترض لتصور الشخصية الرئيسية الذاتي. في حين أن الشخصيات الرئيسية كائنات بالغة الأهمية في أذهانها، تأتي هذه الأهمية بنكهات عديدة. لنبدأ بالمتهم المعتاد - الترفيه ووسائل التواصل الاجتماعي- حيث يمكن غالبًا أن توجد الشخصيات الرئيسية في بيئتها الأصلية. شوهد هاشتاج "الشخصية الرئيسية"، غالبًا باستحسان، ملايين المرات على تيك توك وعلى إنستغرام، و#الشخصية الرئيسية #(maincharacter) يرافق عشرات آلاف المنشورات. كما أنه، يوميًا، يتم إقناع مشتركي وسائل التواصل الاجتماعي بفكرة مفادها أن تحولهم إلى أبطال حيواتهم هو الشيء الوحيد الذي يهم.
لكن، ليست وسائل التواصل الاجتماعي وحدها: الكثير من أفلامنا - لا سيما تلك التي تستهدف المشاهدين الأصغر سنًا- تركّز على المسعى الرئيسي للبطل الذي عليه أن يتغلب، يفوق الآخر دهاء، يفوقه سرعة، يتفوق وفي النهاية، يفتخر بنصره. رحلة هذا البطل، هذه المونوميث (1)، واضحة في أفلام "هنغر غيمز" (ألعاب الجوع) (2012-23)، سلسلة أفلام "دايفرجنت" (2014-16)، عالم "سبايدر مان" (2018-24)، أفلام "ذا ميز رانر" (2014-18)، والتي ليست إلا حفنة من أمثلة حديثة نسبيًا. ثمة تابعون وثمة شخصيات أخرى، بالتأكيد، لكن، في النهاية، كما يقول الفيلم الأقدم "هايلاندر" (1986): "لا يمكن أن يكون هنالك سوى واحد فقط".
باستيعاب هذه الرسائل وتقليد التعليقات الصوتية للشخصيات الرئيسية في الأفلام ووسائل الإعلام الأخرى، نحاول أيضًا أن نسرد حيواتنا - غالبًا، مباشرة عبر هواتفنا الذكية- ونتشارك مع العالم كلّ الطرق التي تُعتبر بها دروبنا، حبكات قصصنا، وجهات نظرنا، هي ما يهم، هي ما يستحق الاهتمام؛ أصواتنا هي الأصوات التي تستحق أن تُسمَع. نطالب الآخرين، بشكل مباشر وغير مباشر: "أوقفوا كل شيء، وشاهدوني أنا- البطل!"
يخبرنا الفيلسوف هاري فرانكفورت في كتابه "أسباب الحب" أن الحب ضروري وخطير في الآن ذاته، وأنه يجعلنا هشّين بلا حدود واحدنا أمام الآخر |
لكن، أليس من التساهل لوم الميديا على هوسنا المتزايد بأهميتنا الخاصة؟ قبل الإنترنت بزمن طويل، ناهيك عن وسائل التواصل الاجتماعي، شارك الناس سردياتهم في يومياتهم، سيرهم الذاتية، قصائدهم وما إلى ذلك، ناقلين حيواتهم إلى مركز الصدارة. أجيال من الأميركيين تعلموا أن يسعوا إلى السعادة - السعادة الفردية، الشخصية- قبل كل شيء آخر. وكان هنالك على الدوام سولبسيون (مؤمنون بأنه لا وجود لشيء سوى الأنا)، نرجسيون، سوسيوباثيون (معتلون اجتماعيًا) ومتعطشون ببساطة لجذب الانتباه؛ وسائل التواصل الاجتماعي لم تخترع تنميط الـ"أنا- أولًا".
مع هذا، هل يمكننا أن نكبح أنفسنا في زمننا هذا، زمن إمكانية الوصول العالمية للآخرين ولأنفسنا؟ هل يمكننا - حسنًا، هل يمكن لبعضنا، على أية حال- أن نقاوم المطالبة بجمهور عندما يكون الجمهور موجودًا دائمًا، جاهزًا للانخراط؟ ربما لا. وكما قال عالم النفس السريري مايكل جي ويتر في مقابلة مع مجلة "نيوزويك" عام 2021، متلازمة الشخصية الرئيسية هي:
"النتيجة الحتمية لرغبة الإنسان الطبيعية بأن يكون معترفًا به ويمنح الإقرار، مندمجةً مع التكنولوجيا سريعة التطور التي تتيح تعزيزًا ذاتيًا مباشرًا وواسع الانتشار... أولئك الذين يُظهرون سمات منسجمة مع تجربة متلازمة الشخصية الرئيسية يميلون للرغبة بخلق سردية تعتمد على جمهور لإقرار قصتهم. ما جدوى قصة ما أو فيلم إذا لم يكن هنالك جمهور؟"
وسائل الإعلام، من وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، سهّلت تأدية مونوميث الشخصية الرئيسية الخاصة بنا، جعلتها أرخص، والأهم أكثر قبولًا اجتماعيًا. بوسعنا أن نحمّل صورًا، فيديوهات، أفلامًا كاملة عن أنفسنا، وبوسعنا أن نختار كيفية إدراك الآخرين لنا من خلال حيل ذكية تتعلق بالضوء والزوايا، من خلال تطبيقات وفلاتر تروي تمامًا القصص التي نريد لها أن تُروى. كل هذا لأننا نريد أن نُلاحَظ، نريد أن نُرَى؛ ونُرَى كأشخاص ذوي أهمية، كشخص "رئيسي" ذي أهمية. عام 2020، أشارت المؤثرة على تيك توك آشلي وورد:
"عليك أن تبدأ بإضفاء الطابع الرومانسي على حياتك. عليك أن تبدأ التفكير بنفسك على أنك الشخصية الرئيسية لأنه، إن لم تفعل، ستذهب حياتك هباء، وكل الأشياء الصغيرة التي تجعلها جميلة للغاية ستظل تمر مرور الكرام".
أن لا تُرى، أن لا تُلاحَظ كشخص ذي أهمية، يعني إحالة الذات إلى حالة شخصية غير لاعبة؛ لا أحد، لا شيء، مانيكان من دون قصة شخصية أو فاعلية، ويعني اختبار سيناريو مكتوب مسبقًا لحياة رمادية عديمة الأهمية. أن تُرى، بالمقابل، يعني أن تكون سعيدًا. وهذه السعادة تتطلب التأكد من أن الآخرين يعرفون أن الشخص سعيد، ناجح، وأفضل من تلك الشخصيات غير اللاعبة؛ بكلمات أخرى، ثمة حاجة إلى رعاية مستمرة لصورة المرء، سردية المرء، ذات المرء. إذا لم يكن المرء شخصية رئيسية، شخص آخر سيكون هو الشخصية الرئيسية بالتأكيد. وهذا ببساطة، بالنسبة إلى الكثيرين، مصير لا يمكن احتماله.
بالطبع، لوم كلّ وسائل الاتصال، أو وسائل التواصل الاجتماعي وحدها، على متلازمة الشخصية الرئيسية سيكون غير دقيق. وربما ليس من المفاجئ أن الشخصيات الرئيسية نشأت في أماكن ساد فيها الاعتلال الاجتماعي والنرجسية: في السياسة، المؤسسات الأكاديمية وغيرها من المؤسسات الموجهة للجمهور. من رئيس أميركي يزعم أنه "بوسعي وحدي أن أصلح" أزمات الأمة العديدة، إلى الشخصيات الإخبارية والشخصيات الإعلامية المتلاعبة التي يصرّ أصحابها أنهم هم، وهم وحدهم، من يقولون الحقيقية، إلى السياسيين الذين لا يستطيعون - أو لا يرغبون- أن يروا الفرق بين أن تكون مشهورًا وأن تكون فاعلًا، تصبح متلازمة الشخصية الرئيسية هي النمط السائد.
لا يزال هنالك بالطبع مذنبون أكثر سوءًا. وبوصفي أكاديمية، سأكون متهاونة إذا لم أشمل أولئك الموجودين ضمن المؤسسات الأكاديمية، أو أولئك السولبسيين بما يكفي ليدعوا أنفسهم "قادة اجتماعيين" أو، حتى أسوأ من ذلك، "قادة فكر". على وجه التحديد، تبدو طاقة الشخصية الرئيسية قوية خصوصًا بين مجموعة من الأكاديميين، والمتصدّقين الذين يموّلونهم، ممن يحبون أن يدعوا أنفسهم "مؤمنين بالنزعة بعيدة المدى"(2) أو "إيثاريّين مؤثرين".
بعد انتقالهم إلى مرحلة العمل إلى حد كبير بمقالة الفيلسوف بيتر سينجر "مجاعة، وفرة، أخلاقيات" (1972) التي تناقش أننا ملزمون أخلاقيًا بزيادة تأثيرنا من خلال التركيز على القضايا التي تسفر عن أفضل التطويرات المتعلقة بجودة الحياة، يزعم الإيثاريون المؤثرون أننا جميعًا نتحمل مسؤولية أخلاقية بأن نفعل الخير بأفضل طريقة مؤثرة ممكنة؛ بكلمات أخرى، علينا أن نقدم النفع الأكبر لأكبر عدد ممكن من البشر، بغض النظر عن مكان إقامتهم.
في دورها، تأخذ نزعة المدى الطويل هذه الأخلاقيات الإيثارية إلى مرحلة أبعد، مناقِشةً أن هدفها هو تقليل تهديد "الأخطار الوجودية" على البشرية: التغيير المناخي، الحرب النووية، الكويكبات المدمرة والكوارث الأخرى التي تأتي من الفضاء، الآثار الانتقامية للذكاء الصناعي، إلى آخره. إن متّبعي نزعة المدى الطويل يمددون هذه المسؤولية إلى البشر المستقبليين باعتبارها الأولوية الأخلاقية الرئيسية للبشرية.
يناقش أحد قادة هذه الحركة، الفيلسوف الأخلاقي ويليام مكاسكيل، هذه الفكرة بالتحديد في كتابه "ما ندين به للمستقبل: نظرة لملايين السنين" (2022)، ويرددها الباحثون في "معهد مستقبل الإنسانية" (FHI) في جامعة أكسفورد المتوقف حاليًا، والذي أسسه فيلسوف آخر من فلاسفة نزعة المدى الطويل، نيك بوستروم. الرسالة بشكل عام هي هذه: ربما ندرك تراجيديا تقنين الموارد الشحيحة على السكان الحاليين. لكن، إذا كان فعل ذلك يعني تطوير فرصة النجاة والرفاهية للأجيال المستقبلية -التي ستكون أكثر عددًا على نحو لا يحصى- فإن عدم فعل ذلك يشكّل جريمة أخلاقية.
يكمن الشبه العائلي بين متلازمة الشخصية الرئيسية والنرجسية في ما دعاه الفيلسوف ألكسندر فاتيك عام 2023 نوعًا من "العجز الأخلاقي" |
إذًا، ما هي المشكلة؟ وكيف تنطبق معايير متلازمة الشخصية الرئيسية على مصلحيّ الكون الأكاديميين أولئك، وداعميهم الماليين؟ يكمن الجواب في افتراضين أساسيين على الإيثاريين المؤثرين ومتّبعي النزعة طويلة الأمد أن يطرحانهما. أولًا، بسبب الحسابات الإيثارية التي تذيّل كلا النظرتين إلى العالم، إمكانية وجود عدد أكبر بكثير من البشر في المستقبل تبرر على ما يبدو جعل أي إنسان حي حاليًا شخصية غير لاعبة. في الحقيقة، كما يخبرنا هؤلاء، معاناتنا قد تكون الشيء الوحيد الذي سينقذ المستقبل! ثانيًا، بما أن رفاهية الأجيال الحالية (الأقل عددًا بكثير) لا تهم كثيرًا نسبيًا، يعتبر ذوي النزعة طويلة الأمد أنه يُبرَّر لهم التلاعب بنا لكي نقوم بما يعتبرونه "الشيء الصحيح". اختر المهن الصحيحة، ساهم في القضايا الصحيحة، عانِ الحرمانات الصحيحة، وهكذا. ولأن مثل ذلك التلاعب مسموح - في الحقيقة، مطلوب أخلاقيًا- فاعلية سكان الأرض الحاليين وقيمتهم الفطرية ليست متجاهلَة فحسب، بل تُهمل كذلك كاعتبار ذي صلة أخلاقية. وعلى رأس الخطة كلها تقف الشخصية الرئيسية التي لا تمنحها المونوميث الخاصة بها التصور الأخلاقي لفهم "ما يهم حقًا" فحسب، بل كذلك (ظاهريًا) وسائل تحقيق رؤيتها؛ أما كلّ الشخصيات غير اللاعبة فعليها اللعنة. لا يمكن أن يكون هنالك سوى واحد فقط، في الحقيقة.
لكن، أن نكون مهمين واحدنا لدى الآخر لا يزال شيئًا مهمًا. تقول العتَبة في رواية إي إم فورستر "نهاية هاورد" (1910): "اتصل فحسب"! في عالم حديث ناشئ عازم على ما يبدو على تدمير ما تبقى من إنسانية وترابط، يتم حثّنا على وصل الأجزاء المتباينة من نفوسنا، والأكثر أهمية، على أن نتصل واحدنا مع الآخر. مع هذا، يبدو أننا منجرفون في عالم يتحول إلى خشبة مسرح يختار عدد متزايد منّا أن يتبختر عليها، أن يتباهى، ولا يكتفي بالتصريح بحاجته لأن يكون مرئيًا ومحط إعجاب فحسب، بل يصرّ كذلك على أن يُخضِع الآخرون أنفسهم لشخصيته.
لدينا أسباب لليأس- لكن ألم تكن دائمًا لدينا؟ ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، مع نطاق وصولها الواسع وأغانيها المغوية عن رحلة البطل، أو نسخها الأكثر فظاظة التي تطالب جهرًا بالاهتمام المستمر، ليست إلا التجسد الحالي لانشغال طويل الأمد بالذات، بهوية المرء، بأهمية المرء. لكن هذا زمننا، لحظتنا، ويبدو أنه من الملائم أن نستجيب بأفضل طريقة نعرفها. لذلك، ورغم أني لا أزعم أنني أملك الإجابة الصحيحة - ربما ولا حتى أي إجابة- لمعالجة الأضرار الأخلاقية لظاهرة متلازمة الشخصية الرئيسية، أعتقد حقًا أنه بوسعنا أن نبدأ بطرح سؤال: ما الذي نخسره؟ ولماذا ثمة أسباب لمحاولة إنقاذه؟
أعتبر سرديات خلق الذات أساسية في تكوين من نحن؛ بسرد قصص عن أنفسنا، عن الآخرين وعن العالم، والاستماع إليها، يمكننا أن نفهم من نحن، لماذا، وكيف يمكن أن نكون. لكن نوع سرد قصص الشخصية الرئيسية الذي هو مهيمن حاليًا لا يساعد إلا قليلًا في تشكيل الهويات المبنية بالتبادل، وهو، بدلًا عن ذلك، يختزل تعقيد العلاقات البشرية إلى ثنائيات مبسّطة من "أنا" و"ليس أنا"، "هم" و"نحن"، "بطل" و"شخصية مضادة للبطل". وبدلًا من خالقين مشتركين ومؤلفين مشتركين لذوات واحدنا الآخر، ما يبقى هو منافسة مسبِّبة للقلق، ضحلة، واستهلاكية على خاتم "الذات الوحيدة الحقيقية"، الشخصية الرئيسية الحقيقية. هكذا نصبح خصومًا، متنافسين، ولاعبين فيما يبدو كلعبة صفريّة المحصلة ذات فائزين وخاسرين. وبينما تتلاشى إمكانية الهويات التي تُخلَق بالتبادل، نشعر بأننا أكثر وحدة، غير مسموعين، غير مرئيين، وربما غير ذوي شخصية.
إن سرديات متلازمة الشخصية الرئيسية تفتقر إلى ما يسميه علماء النفس والفلاسفة "نظرية العقل"؛ فكرة أننا نختبر الناس الآخرين بوصفهم يعيشون ذات نوع الحالات العقلية التي نعيشها، بدلًا من لعبهم أدوارًا صغيرة في مونوميث حيواتنا. وهذا الافتقار إلى التناغم مع الآخرين على أنهم أشخاص أخلاقيون مساوون لنا يحمل شبهًا عائليًا بالنرجسية. يرى هذا المعنى من "الشبه العائلي"، وهي فكرة طرحها لودفيغ فيتغنشتاين، أن ممارسات وأفكارًا مختلفة يمكن أن تكون مرتبطة بسلسلة من التشابهات المتداخلة.
يكمن الشبه العائلي بين متلازمة الشخصية الرئيسية والنرجسية في ما دعاه الفيلسوف ألكسندر فاتيك عام 2023 نوعًا من "العجز الأخلاقي"؛ "العجز عن اختبار العواطف الأخلاقية، مثل التقمص العاطفي، التضامن، الإخلاص، أو الحب". كذلك، ترتبط متلازمة الشخصية الرئيسية والنرجسية في رفضهما لاعتمادنا المتبادل واحدنا على الآخر: إنهما لا تسخران فحسب من الارتباطات الهادفة بالآخرين، بل كذلك تحوّلان تلك السخرية إلى فضيلة. ولأن ذلك العجز الأخلاقي يمنع الاتصال، متلازمة الشخصية الرئيسية، وقريبتها النرجسية، توحيان بالفشل الأخلاقي الذي حذَرت منه عتبة فورستر.
لكن ثمة تلك الكلمة الأخرى: الحب. يعترف ألبير كامو، في "مفكرته" (1935-42) أنه:
"لو كان عليّ أن أؤلف كتابًا عن الأخلاق، ستكون فيه مئة صفحة وستكون تسع وتسعون منها فارغة. وعلى الصفحة الأخيرة سأكتب: "لا أعرف سوى واجب واحد، وهو أن أحب".
في زمن أحدث، يخبرنا الفيلسوف هاري فرانكفورت في كتابه "أسباب الحب" (2004) أن الحب ضروري وخطير في الآن ذاته، وأنه يجعلنا هشّين بلا حدود واحدنا أمام الآخر.
رغم أن الكثيرين من الواقعين تحت تأثير سحر متلازمة الشخصية الرئيسية تحفزهم الرغبة بأن يكونوا موضع حب، ممارساتهم ذاتها تستنزف احتمالات الحب. وبالحب، لا أعني الحب الرومانسي فحسب، بل نوع الأحاسيس الرقيقة الموجودة بين الأصدقاء، العائلة وأحيانًا حتى الآخرين الأكثر بعدًا. هذا النوع من الحب الموجه نحو الآخر يتطلب انفتاحًا على الهشاشات المتبادلة، الاختلافات المتبادلة، وتصورًا غير ذرائعيّ للمحبوب. لكنّ متلازمة الشخصية الرئيسية تعزّز العكس: نوع من الآخرية، تحويل البشر إلى كيانات مجردة ومانيكانات مفيدة ذرائعيًا (أو غير مفيدة).
هل ثمة "واجب بأن نحب" تخونه متلازمة الشخصية الرئيسية؟ قد ننحاز إلى إيمانويل كانط ونقول أننا، على أقل تقدير، لا يجب أن نعامل الناس أبدًا على أنهم مجرد وسائل لغاياتنا الخاصة. لكن ذلك يبدو غير كافٍ عندما نأخذ بعين الاعتبار تصريح كامو. أن تحب، بمعنى ما، هو أن تدخل في لغز؛ نوع من اتصال مع الآخر لا يقدم أي ضمانات، أي مجد شخصي، أي نتائج آمنة، وبالتأكيد لا ينطوي على رابحين وخاسرين. أن نحب يعني أن نواجه عدم التيقن إزاء من نحن - وإزاء من قد يكونه الآخر. كذلك، يرى إيمانويل ليفيناس أن "الغيرية" - انعدام التيقن الناتج عن أخروية الآخرين- هي بداية كل الأخلاق. وقد تكون أيضًا بداية كل الحب. الآخر يتحدانا، يفرض علينا مطالب، ويحمّلنا مسؤولية. الآخر يجبرنا على الخروج من سولبسيتنا ذاتية المرجع، والدخول في رهبة الاتصال معه. "انظر إلى وجه الآخر"، يقول لنا ليفيناس. ففي رؤية وجه الآخر، نبدأ بفهم ما يعنيه أن تكون هشًا، أن تكون موضع مساءلة. وهذا بعيد جدًا عن "اللايكات" عديمة الوجه، والمشتركين أو المعجبين.
الكثيرون ممن ينجذبون للعيش كشخصية رئيسية يسعون إلى نوع ما من الحب، أو التأييد، أو التأكيد على أهميتهم. إنهم يبحثون عن شعور، ذبذبات. لكن الحب هو أكثر من موقف مثير للعاطفة. في كتابه "فن الحب" (1956)، يعرّف إريك فروم الحب على أنه ممارسة فنية، مشيرًا إلى أنه "لا يمكن الحصول على الحب الفردي من دون القدرة على حب الجار، من دون تواضع حقيقي، شجاعة، إيمان وانضباط". بالنسبة إليه، الحب "نشاط، لا عاطفة سلبية"؛ لكي تحب فعلًا، لا يكفي أن تشعر فحسب؛ المطلوب هو المسؤولية عن العناية بالمحبوب. لكنّ متلازمة الشخصية الرئيسية تحرمنا القدرة على فعل ذلك تحديدًا: على أن نحب حقًا، وبتواضع أي شخص أو أي شيء. بالنسبة إلى البطل المنتصر، كل التفاعلات شبيهة بالصفقات، كل الرهبة موجهة للذات.
إلى أين يقودنا هذا؟ متلازمة الشخصية الرئيسية ليست أحجية يجب حلها بواسطة مقالة على شكل قائمة "افعل ولا تفعل". إنها ليست مشكلة اجتماعية يمكن سنّ القوانين ضدها. بالأحرى، إنها تتطلب منا أن ننخرط فيما دعاه جوزيف كامبل، وآخرون، "ليلة مظلمة للروح". قد يعني هذا الجلوس مع مجهوليتنا، عزلتنا، ضجرنا وضياعنا؛ معترضين على الالتباس بين الإنجاز والارتباطات الأصيلة؛ جاعلين أنفسنا هشين أمام الآخرين، وبالتالي أمام الفشل. قد يعني هذا أن نرى أنفسنا دائمًا غير كاملين، وندرك أن الإنجاز قد لا يكون وارد الحدوث، أن الحياة ليست مونوميث منتصر، وأن الآخرين ليسوا موجودين ليكونوا طاقم ممثلين ذوي أدوار مساعدة. بالنسبة إليّ، ألجأ إلى مسرحية صمويل بيكيت "نهاية اللعبة" (1957)، حيث تذكّرنا شخصيةٌ قائلةً: "أنت على الأرض، لا علاج لذلك!" ويبدو هذا صحيحًا؛ فلنبدأ من هذه النقطة.
هوامش المترجمة:
(1) المونوميث: مصطلح ابتكره جوزيف كامبل يعني "رحلة البطل"، وهو حرفيًا يجمع كلمتي أحادي وأسطورة. تصف المونوميث الحكايات التي تتضمن رحلة يقوم بها بطل أسطوري، فينطلق من موطنه أو من عالم ما، يخوض مغامرات تحويلية، ثم يعود منتصرًا أو متغيِّرًا.
(2) النزعة بعيدة المدى: مجموعة من المبادئ الأخلاقية المعنية بحماية وتطوير مستقبل البشرية بعيد الأمد، واعتبار ذلك أولوية أخلاقية رئيسية لعصرنا.
(*) آنّا غوتليب: أستاذة مساعدة في كلية بروكلين، نيويورك. تدرّس وتكتب في مجالات الأخلاقيات الحيوية، الأخلاقيات العصبية، الفلسفة الاجتماعية والسياسية، وعلم النفس الأخلاقي. وهي حاليًا محررة مشاركة في كتاب يتحدث عن المضامين الأخلاقية، الاجتماعية، النفسية، والسياسية لظاهرة باربي، بالإضافة إلى كتاب يتناول الهجرة والرعاية الصحية.
رابط النص الأصلي: