Print
ضفة ثالثة- خاص

جوزيه ساراماغو: فلسطين مثل أوشفيتز

19 نوفمبر 2024
تغطيات

ترجمة وتقديم: أحمد عبد اللطيف

تقديم

في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1922، وُلِد الكاتب البرتغالي الشهير جوزيه ساراماغو، في قرية أزينياجا، حيث عاش سنوات طفولته الأولى قبل أن تنتقل عائلته إلى لشبونة. وفي العاصمة البرتغالية استقر حتى التسعينيات، حين بدأت أزمته مع حكومة بلده لانتقادها بحدّة وفي الوقت نفسه انتقاده لبابا الفاتيكان. حينها كان تعرّف على بيلار دل ريو، زوجته لاحقًا ومترجمته إلى الإسبانية، فقرر الانتقال إلى إسبانيا والعيش في جزيرة لنثاروتي، وقررت هي الخروج من الدير وإنهاء حياة الرهبنة، والزواج منه. وظلّ في "لنثاروتي" حتى وفاته عام 2010.

تضامن ساراماغو على طول مسيرته مع القضايا العادلة، وكانت كتاباته بوصلة للضمير الإنساني، ناقش من خلالها موضوعات معاصرة وشائكة، من بينها الديكتاتورية والثورة وثغرات النظم الديمقراطية، وأشار إلى سلطة البابا والنفاق الديني، وقسوة الرأسمالية في عالم يعاني أغلب سكانه من الفقر. وشارك في مظاهرات، حين كان في السبعينات من عمره، ضد الغزو الأميركي للعراق. ولعل زيارته إلى فلسطين وتضامنه مع القضية الفلسطينية ضد الهمجية الإسرائيلية حدث ناصع في مسيرته المتمردة على الأصوات الإعلامية الغربية الغالبة، ومحاولة عنيدة لتثبيت الكاميرا على لقطة لا يصح أن يتجاوزها العالم الغربي: هنا أرض محتلة يمارس عليها جيش احتلال كل أنواع العنف اللاإنساني.

نستعيد هنا، في ذكرى ميلاده الثانية بعد المائة، زيارة ساراماغو لرام الله والحوار الذي أجراه معه خوسيه بيريكات، مراسل "بي بي سي" بالإسبانية في الضفة الغربية.

(*)  سؤال: ما سبب زيارة الضفة الغربية؟

ساراماغو: كانت النية إرسال وفد من أعضاء البرلمان الدولي للكُتّاب للتظاهر تضامنًا مع الروائيين والشعراء وكُتّاب المسرح الفلسطينيين.

(*) ما اللافت بالذات في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟

أنظر، هذا ليس صراعًا. يمكن استخدام كلمة صراع حين نتحدث عن بلدين، عن حدود ودولتين لكل منهما جيش. أما هنا فالمسألة مختلفة كليةً: هذا فصل عنصري، تدمير للبنية الاجتماعية الفلسطينية بهدف عزلها.

(*) ما رأيك في إسرائيل؟

الشعب الإسرائيلي وجيشه لديهما شعور بالإفلات من العقاب. لقد تحوّلوا إلى مستغلين للهولوكوست، مع كل احترامي لكل القتلى والمعذبين ومن ماتوا بالغاز. إن اليهود الذين تعرّضوا للموت في غرف الغاز ربما يشعرون الآن بالخزي لو أخبرناهم بما يفعله نسلهم. كنت أظن أن شعبًا قد تعرّض لذلك لا بد أنه تعلّم من ألمه نفسه. لكن ما يفعلونه الآن مع الفلسطينيين هو استعارة الروح نفسها التي عذبتهم من قبل. أعتقد أنهم لا يعرفون الواقع. كل المقالات التي كُتِبت ضدي كتبها أشخاص لم يكلفوا أنفسهم عناء معرفة كيف يعيش الفلسطينيون، بمعنى أنهم لا يريدون معرفة ما يحدث هنا. سيكون منطقيًا وجود الخوذ الزرقاء هنا، ولكن حكومة إسرائيل لا تسمح بذلك. أما ما يستفزني شخصيًا ولا أستطيع الصمت عليه، فهو جبن المجتمع الدولي الذي يستسلم إلى الصمت. ولا حتى أتكلم عن الولايات المتحدة ولا اللوبي اليهودي، فموقفهما معروف. إنما أتحدث عن الاتحاد الأوروبي، مهد الفن والأدب العظيم وكل ذلك. وكلنا نرى ما يحدث، نرى الكارثة، ولا أحد يتدخل.

ساراماغو (الأول من اليمين) في مكتب الرئيس ياسر عرفات برام الله بحضوره وحضور محمود درويش وراسل بانكز وأوليفر ستون ووولي سوينكا (Getty, 25/3/2002)


(*) ألا يزال يبدو لك أن معاناة الفلسطينيين اليوم هي نفسها معاناة اليهود خلال النظام النازي، وخاصة في معتقلات التعذيب؟

ما قلته من تشبيه الوضع في فلسطين مع ما حدث في معتقل أوشفيتز (النازي) تم ليّ عنقه ليناسب غرض كل فرد. إنه اعتراض على الوضع القائم ما كان له أن يحدث كل هذه الضجة. بالطبع ليس هناك غرف للغاز لإبادة الفلسطينيين، لكن وضع الشعب الفلسطيني هو وضع شعب معتقَل، ولا يستطيع الخروج. ما قلته شديد الوضوح. أما لو كان يضايقكم التشبيه بأوشفيتز فيمكن أن أضع مكانها كلمة أخرى: "جرائم ضد الإنسانية". المسألة ليست مسألة عدد ضحايا أكبر أو أقل، أو مسألة مأساة أكبر أو أصغر، إنما الفعل نفسه في ذاته. ما يحدث للفلسطينيين على يد الإسرائيليين هو جريمة ضد الإنسانية. والفلسطينيون ضحايا جرائم ضد الإنسانية ترتكبها حكومة إسرائيل بتصفيق من شعبها.

(*) ألا تعتقد أن تصريحاتك لها أثر عكسي؟

ما من أثر عكسي. ثمة انتقادات ومزيد من الانتقادات. والانتقادات معروفة وبالتالي لا أثر لها، بمعنى أنها تقال وتتكرر بشكل لا نهائي.

(*) ماذا تنتظر من لقائك بالجانب الإسرائيلي؟

لا أنتظر الكثير. يشاع هنا أني ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة، بالإضافة إلى جهلي بالتاريخ. وأنا أجبت بأنني، ولو كنت افتراضًا ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة، يجب أن أقول إني أفضّل ذلك على أن أكون متواطئًا مع الدعاية المؤيدة لإسرائيل.

(*) أي رواية من رواياتك يمكن أن ترتبط بهذا الصراع؟

رواية نشرتها من خمس أو ست سنوات بعنوان "العمى"، وباعت هنا ستين ألف نسخة. حتى هذه الأيام كنت كاتبًا جماهيريًا. والآن سحبوا كتبي من المكتبات. هي رواية تحكي كيف يغدو العالم أعمى. لأني أرى أننا جميعًا عميان. عميان لأننا لسنا قادرين على خلق عالم جدير بالاحترام. لأن هذا العالم على حالته هذه ليس جديرًا بالاحترام. هذه الرواية نعم ترتبط بالصراع، إذ كان السياسيون يهتمون بالأدب. إذا كان ثمة شيء يجب تأمله فهو ما نتمتع به من قدرة، أو من عجز، على ابتكار طريقة للروابط الإنسانية حيث يكون الحكم هو الاحترام بين البشر وبين الفرد والآخر.

(*) ما دور الأدب في هذا الصراع؟

لا دور. فكرة أن الكُتّاب يجب أن ينقذوا العالم، تروق لنا، بالطبع. لو كان الفن وكل جمال الماضي مفيدًا في شيء، ما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. إن تدخل الكُتّاب يمكن ويجب أن يكون لسبب بسيط: أنهم مواطنون. بالطبع بصفتهم كُتّابًا أيضًا. لو طُلِب منا شيء، أو بمبادرة منا لدينا شيء لنقوله، علينا أن نكتبه. لكن بالإضافة لما يجب أن نقوله، ثمة أيضًا ما علينا أن نفعله. والفعل ليس التدخل في حياة بلدنا فحسب، بل التدخل في حياة كل بلدان العالم.