Print
سمير رمان

ترميم مظلة المذبح البابوي بكنيسة القديس بطرس: تصميم جامح

4 نوفمبر 2024
تغطيات

احتفلت إيطاليا في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بإنهاء عمليات ترميم العمل الرئيسي للنحات والمعماري جيوفاني لورينزو بيرنيني/ Giovani Lorenzo bernini(*) (1598 ــ 1680) في كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان.
ففي الكاتدرائية الشهيرة، وبعد أشهرٍ من العمل المتواصل على ترميم النصب الفريد من نوعه، عادت المظلة العملاقة على المذبح كـ"مركز جذب" داخل الكاتدرائية. المظلّة التي ترتفع 29 مترًا، وأنشأها لورينزو بيرنيني في القرن السابع عشر، مصنوعة من البرونز، وتحملها أربعة أعمدة ملتوية تظلل المذبح البابوي، وكذلك ضريح الرسول بطرس. وكانت آخر عملية ترميم خضع لها المبنى جرت في خمسينيات القرن الثامن عشر.
بدءًا من ربيع هذا العام، وصولًا إلى الخريف، لاحظ زوار كاتدرائية القديس بطرس ظاهرة نادرة: فبدلًا من المظلة المعتادة ذات الأعمدة الأربعة المصنوعة من البرونز الداكن المزين ببقعٍ مذهّبة كانت تقوم هناك سقالات معدنية لامعة موقتة تخفي المظلة بالكامل تقريبًا. كان تصميم السقالة بشكلٍ صحيح مهمّة منفصلة في حدّ ذاتها، من الناحية الهندسية والتكنولوجية. أولًا: كان من الضروري بناء سقالات الترميم بطريقةٍ لا تعيق رجال الدين والمؤمنين من الوصول، على الأقلّ بصريًا، إلى المذبح المركزي، حيث لا يستطيع أحد ترؤس الاحتفال بالقداس سوى بابا روما، وكذلك الوصول إلى كرسي الاعتراف/ confessio الواقع أسفل ضريح القديس بطرس، وهو أول أساقفة روما. وثانيًا: كان من الضروري، ومن باب الحيطة والحذر، أن يكون وزن هيكل السقالات خفيفًا إلى أقصى درجةٍ ممكنة. تحت أرضية الكاتدرائية/ basilica توجد كهوف الفاتيكان، وهي سراديب شكِّلت أثناء بناء الكاتدرائية الحالية، وأعمق من السرداب تقبع المقبرة القديمة الهشّة، التي ردمت في القرن الرابع، عندما بنى مهندسو الإمبراطور قسطنطين أول معبدًا هناك. ولكنّ علماء الآثار في القرن العشرين اكتشفوا "شارعًا" تحت الأرض من الأضرحة الرومانية يؤدي إلى قبرٍ متواضع يعتقد أنّه يضم عظام الرسول بطرس.
الآن، أزيلت السقالات، وترأس البابا فرانسيس في السابع والعشرين من أكتوبر الماضي قداسًا احتفاليًا بمناسبة انتهاء اجتماعات مجمّع الأساقفة. غير أنّ الهدف الرئيس مختلف. فسيكون عام 2025 عام اليوبيل، أي العام الذي يتمّ فيه، وفقًا للعادات القديمة للكنيسة الكاثوليكية، منح الغفران للحجاج الذين يزورون الكنائس الرومانية الرئيسة. بالطبع، لا يتعامل الحجاج المعاصرون بكثيرٍ من الحماس والغيرة مع هذا الحدث، كما كانت الحال في العصور الوسطى.




ولكن، وعلى الرغم من ذلك، يلاحظ خلال "السنوات المقدسة" تزايد تدفق زوار المقدسات الرومانية القادمين من خارج إيطاليا. اعتبارًا من نهاية القرن الخامس عشر، جرت العادة على إقامة "السنوات المقدّسة" كلّ ربع قرنٍ، وبذلك فإنّ هذا اليوبيل "العادي" هو الأولّ الذي يحدث خلال بابوية البابا فرانسيس (جرى في عام 2016 "يوبيل الرحمة" الاستثنائي). ولذلك يمكن فهم رغبة البابا في أن يكون الحدث مميزًا، وعلى مستوى رفيع.
المظلة نفسها، التي شيّدت في الفترة ما بين 1624 و1630 وفق تصميم لورينزو بيرنيني، ليست مجرّد معلمٍ معماري في حاضرة الفاتيكان، فقد قامت الكنائس المسيحية في الألفية الأولى، ولأسبابٍ تتعلّق بالوقار والتبجيل، ببناء مظلات السيبوريوم فوق عرش المذبح في كلٍّ منها. المهمّ هنا، أولًا المقاييس المذهلة في حد ذاتها، فالمظلّة ليست مجرد مظلة منعزلة تقوم على أعمدة صغيرة، بل هي هيكلٌ مبنيّ من أحجار ضخمة غير مشغولة، بارتفاع مبنى من عشرة طوابق. وثانيًا، أسلوب الحلول الهندسية. اعتبارًا من القرن الرابع، زيّنت كاتدرائية القديس بطرس بأعمدةٍ غير اعتيادية لم تكن جذوعها مستقيمةً، كما يفترض، إنّما كانت حلزونية تلتفّ على نفسها، وأنّ الأعمدة العملاقة الأربعة لمظلة بيرنينيفد شيّدت على غرارها بالتحديد، فجاءت حلزونية ومزينة ومكلّلة بأغصان الغار (وكذلك مزينة بالنحل، الذي اتخذه البابا أوريان الثامن شعارًا له، عندما بنيت المظلّة في عهده).
إنّه تصميمٌ جامحٌ تمامًا، وفقًا لمقاييس منطقٍ يكمن في أساس نظام البناء الكلاسيكي، وهنا تصرّف بيرنيني بحسب منطق عصره: الأعمدة "الحيّة" الملتوية تتوافق بشكلٍ مثاليّ مع رغبة عصر الباروك من حيث الديناميكية والغرابة. نتيجةً لذلك، تمّ إعادة إنتاج مظلة كاتدرائية القديس بطرس بدقّة أكبر، أو أقلّ نوعًا ما، مما في عدد من كنائس القرنين السابع عشر والثامن عشر. لم تكن هذه حال الكنائس الكاثوليكية وحدها، إذ لم تتخلّف الكنائس الأرثوذكسية كذلك عن الركب، الأمر الذي يمكن رصده بوضوح في دهليز المذبح في كاتدرائية بطرس، وبولس، وسانت نيكولاس في سانت بطرسبورغ الروسية.
نتيجةً لكلّ ذلك، كان الاهتمام بترميم المظلة اهتمامًا غير عاديّ. انتظر الجميع الافتتاح، ولكنّ الانطباع جاء أقلّ بكثير من التوقعات. فالبرونز، الذي سكبت منه الأجزاء الداعمة للمظلة، وهو مادة أبدية، إن بقي بعيدًا عن تأثير للعوامل الجويّة، جاء بكامله تحت السقف. شمل الترميم تنظيف جميع السطوح بعناية من السخّام والغبار والأتربة، ومن الشمع (من عادات الأيام الخوالي أن تزيّن المظلة بالشموع المشتعلة، الأمر الذي أدّى إلى تراكم الشمع على السطوح)، وتمّت استعادة لمعان الأجزاء المذهّبة التي كمد بريقها مع الوقت. من بين الأشياء التي لم تكن معروفةً سابقًا، اكتشفت فقط النقوش العادية التي حفرها عمال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وبالإضافة إلى ذلك، اكتشف نعل طفلٍ (طفل من بين أطفال "سانت بيتريني") من أحفاد الحرفيين الحاليين، الذين كانوا يقومون في خمسينيات القرن الثامن عشر على خدمة احتياجات المظلة الفنية، والذي لحق على ما يبدو بوالده إلى أعلى النصب فسقط حذاؤه.
هذه المرّة لم يقتصر الأمر على ترميم المظلّة فحسب، بل امتدت الأعمال لتشمل "منصّة الخطابة"، التي أنشأها بيرنيني لتكون منفوخةً ومبهرة في حنية المذبح الرئيس. هناك، تحت نافذةٍ زجاجيّة ملونة لامعة، صوّرت الروح القدس على شكل حمامةٍ بيضاء، كما يقف تحت سحابة ملائكية "المجد" أربعة قديسين يمثلون الكنيسة الغربية (أمبروسيوس ميلانو، القديس أغسطينوس)، والكنيسة الشرقية (أثناسيوس الكبير، والقديس يوحنا فم الذهب). بكلّ رشاقةٍ، يمسك جميع القديسين المصنوعين من البرونز بحلقات الكرسي البرونزي من الطراز الباروكي العائم بين رقاقات الطلاء الذهبي، وكأنّهم يمسكون بـ"منصةّ القديس بطرس" الرمزية/ cathedra Petri.
وهكذا، في خضمّ عملية الترميم، ومن ذخائر العصر البرونزي الباروكي، تمّ استخراج العرش الخشبي القديم، الذي يعتقد أنّ الرسول بطرس كان يجلس عليه. إنّها كشفٌ علميّ كبير نادر، وكان الحدث المماثل الذي سبقه قد حصل قبل نصف قرنٍ من الزمن.

هامش:
جيوفاني لورينزو بيرنيني/ Giovani Lorenzo bernini: من أشهر تماثيله: تمثال نشوة القديسة تيريزا. ومن أعماله الأخرى ساحة القديس بطرس، وصفّ من الأعمدة أمام الكاتدرائية، والمظلة ذات الأعمدة البرونزية فوق مذبح الكاتدرائية نفسها، وعرش القديس بطرس، ومصلّى القربان المقدّس في صحن الكنيسة، ومدخل درج التذكاري في قصر الفاتيكان، والنوافير الرومانية: نافورة تريتون، وفونتانا ديل تريتوني، ونافورة النحل، ونافورة الأنهار الأربعة في ساحة نافونا.
خلّدت ذكرى النحات العظيم بنقش صورته على ورقة نقدية إيطالية من فئة 50.000 لير (قبل انتقال إيطاليا إلى العملة الأوروبية الموحدة). وعلى الجهة الأخرى منها وضعت منحوتة تمثل لودفيغ الرابع عشر على صهوة الحصان.