Print
أحمد الجندي

أيوب وعقدة المظلومية اليهودية

1 فبراير 2024
تغطيات
تعشق الشخصية اليهودية بطبيعتها صفة المظلومية إلى حد الإغراق والمبالغة، وفي سياق هذا الشعور بالمظلومية كثيرًا ما يتم توظيف قصة أيوب، والتي احتلت سفرًا كاملًا في العهد القديم يمتد في 42 فصلًا، ويحكي عن ابتلاء عبد صالح يدعى أيوب، وهي قصة تراثية قديمة انتشرت في أنحاء متفرقة من الشرق الأدنى القديم، وعلى الأغلب أن اليهود قد نقلوها عن واحدة من هذه النسخ، التي انتشرت في الآداب السامية/ العربية القديمة وغيرها تحت تسميات مختلفة؛ وجميعها تدور حول سياق واحد، ذلك الرجل الصالح، المطيع لإلهه، أو آلهته، ولكنه يتعرض لابتلاء قاس في نفسه وفي أهله وماله، فيفقد صحته، ويفقد أهله وثروته، إلا أن صبره ونجاحه في الاختبار يتبعه مكافأة الرب له، واستعادة ما كان يملك.


انتشار القصة في الآداب القديمة

هي واحدة من أشهر القصص القديمة إذًا، والتي كانت تعالج موضوع العدالة الإلهية، أو ما يمكن تسميته بشقاء الصالحين، والذي طالما شغل الإنسان عبر تاريخه. وعلى الرغم من أن الإسرائيليين القدامى لم ينشغلوا بهذه القضية قبل العصر الفارسي، حسب ل. ل. جرابه، فإن الموضوع قد حظي بانتشار واسع في آداب شعوب الشرق الأدنى القديم منذ وقت مبكر فوجدناه في سومر القديمة في قصة "الرجل وإلهه" أو ما يعرف بأيوب السومري، وفي بابل في قصة "لأمجدن رب الحكمة"[1]. وأشار كرينشو إلى قصة أخرى من بلاد النهرين هي حوار بين سيد وعبده أو ما اعتاد الباحثون على تسميته بالعدل الإلهي. أما في مصر فكانت هناك ثلاثة نماذج لقصص مشابهة؛ هي عتاب إيبور، الجدال بين الرجل وروحه، والفلاح الفصيح وجميعها تعود للأسرة الثانية عشرة (1990 – 1785 ق. م.)، كما أن أسطورة كرت الأجريتية تتضمن عناصر مشابهة لقصة أيوب في العهد القديم[2]. كذلك عرف الآراميون القصة في كتابات القرن الخامس ق. م. فيما يعرف بقصة أحيقار[3].

لم تنتشر القصة بين شعوب الشرق الأدنى القديم والشعوب السامية/ العربية القديمة فحسب، بل إن اسم أيوب نفسه ورد في لغات كثيرة، وفي كتابات عدة؛ ففي العربية الجنوبية والثمودية ورد yʾb، وفي البابلية القديمة Ayyābum، وA-ia-ab في رسائل تل العمارنة [4]. ويوحي تكرار القصة وشيوعها منذ عصور قديمة بين هذه الشعوب، وكذلك تكرار الاسم على هذا النحو، بأن أصل القصة قديم، وأنه لم يكن عبريًا. ولذلك فقد رد بعض العلماء أصل القصة إلى الأدوميين، الذين كانوا يسكنون جنوبي أرض كنعان، وأنها كانت شفاهية، وحينما بدأ الكاتب الإسرائيلي القديم كتابتها تجاهل تفاصيل القصة الأصلية وعدلها ليجعلها تعالج موضوع العدل الإلهي [5].

وقد اعتقد بعض النقاد أن رجلًا حكيمًا ذا مهارات شعرية عاش في مملكة يهودية في العصر الفارسي أو اليوناني هو من اقتبس هذه القصة التي كانت تنتقل من جيل لآخر وقام بكتابتها لأغراض تعليمية، أي أن القصة كانت ذات أصل أجنبي. بدوره ذهب تشيني إلى أن أصل القصة بابلي مأخوذ من ملحمة جلجامش، وأن الكاتب الذي اقتبسها لم يأخذ سوى اسم بطل القصة واسم الأرض التي سكنها، والتفاعل القريب بين أيوب والرب، إضافة إلى الظرف الطارئ المتمثل في المرض العضال الذي أصيب به، كما استفاد من تصوير تعافي جلجامش وموت إيباني الذي حرف اسمه تحريفًا بسيطًا إلى أيوب. مع الوضع في الاعتبار أن كاتب القصة لم ينقلها نقلًا مباشرًا من بلاد النهرين، بل نقلها بشكل غير مباشر من منطقة حوران.[6]

كانت الخطوة التالية هي البحث عن هوية أيوب وإلى أي الشعوب القديمة ينتمي، فاعتبر وليم جزينيوس اسم أيوب اسمًا عربيًا مشتقًا من مادة "آب" بمعنى "عاد" ومقابلها العبري "أوف"[7]. بينما أيد آخرون الاحتمال القائل بأن أيوب رجل أدومي [8].

إهمال أيوب في التراث الديني اليهودي

حينما ننظر إلى مواقف علماء التلمود حول هوية شخص أيوب نجد أن عددًا محدودًا منهم فقط اعتبروه يهوديًا معتمدين على رواية يهودية قديمة تعرف بـ "عهد أيوب"، أما الغالبية العظمى فاعتبروا أيوب شخصًا أجنبيًا، وربما كان أحد سبعة أنبياء ظهروا خارج بني إسرائيل. بل إن بعض رواة الأساطير اليهودية اعتبروا القصة رمزية، يضرب بها المثل فحسب [9].

وقد استمر هذا الجدال لفترة طويلة ما بين القرنين الأول والسادس الميلاديين. ولعل أهم ما جاء في هذا السياق ما ورد في مبحث بابا بترا 14ب – 16ب، وهو مبحث تلمودي، يتحدث بوضوح عن أيوب بوصفه أجنبيًا، ومجدفًا بحق الرب، وأن اسم أيوب في حروفه العبرية يرتبط اشتقاقه حقيقة من حروف مقلوبة لكلمة "أوييف" العبرية وتعني "العدو"، وأن أيوب لا حظ له في الآخرة. بل إن بعض حاخامات التلمود قالوا إن أيوب ليس شخصية حقيقية أصلًا... وذهب آخرون إلى وجود شخص غير يهودي وكان يدعى أيوب فعلًا، وكان رجلًا صالحًا، لكنه بعد أن تعرض لابتلاء الرب فقد صبره وبدأ يلعن، ويجدف بحق الرب، ولما وجده الرب يجدف هكذا رد عليه كل أهله وممتلكاته أكثر مما كان لديه حتى لا يبقى له حظ في الآخرة [10].

ونتيجة لهيمنة التراث التلمودي على التفسير الديني للنصوص، وبسبب هذا الموقف الذي ذكره النص التلمودي، فقد تم إهمال أيوب وقصته رغم ورودها في العهد القديم، وأصبح ذا مكانة محدودة للغاية في الأدب اليهودي لقرون طويلة.

توظيف قصة أيوب في الأدب اليهودي

استمر إهمال قصة أيوب على هذا النحو إلى أن بدأت حركة التنوير العبرية/ الهسكالاه، وما تبعها من توجه كثير من اليهود نحو العلمانية، في نهايات القرن الثامن عشر والتي تعمقت أكثر مع حركة الإحياء القومي في نهايات القرن التاسع عشر، ومن ثم بدأ قطاع من اليهود يفكرون في سفر أيوب بشكل مختلف ومستقل، وبعيد عن أقوال حاخامات التلمود. ومع المآسي التي تعرض لها اليهود، وما روي عن مذابح "بوجروم" في شرق أوروبا، ثم ما ارتبط برواية المحرقة النازية، طرح كثير من الأدباء اليهود قضية شقاء الإنسان الصالح كما لم تطرح من قبل، لكن على المستوى الجمعي وليس الفردي، ولم تكن هناك شخصية من التراث الديني تناسب هذا الطرح أكثر من أيوب، حتى يتم من خلاله توجيه اللوم للرب على المعاناة التي جلبها على شعبه، وهكذا أصبح أيوب علامة على هذه المعاناة.[11]

هناك مئات الأعمال الأدبية اليهودية التي بدأت تركز على توظيف هذا الجانب من قصة أيوب مع معطيات الأحداث، والتي امتدت لتشمل توظيفه ضمن الصراع العربي الإسرائيلي


وهناك مئات الأعمال الأدبية اليهودية التي بدأت تركز على توظيف هذا الجانب من قصة أيوب مع معطيات الأحداث، والتي امتدت لتشمل توظيفه ضمن الصراع العربي الإسرائيلي بشكل تخطى البعد الديني للقصة، والتركيز على بعدها النفسي بشكل أساسي. وقد بدأ هذا التناول على وقع ما تعرض له اليهود في شرق أوروبا في نهايات القرن التاسع عشر؛ فكتب إسحاق ليف بيريز قصته القصيرة "اصمت يا بونزي" والتي نشرت عام 1894، وكانت قد كتبت على خلفية ما حكي عن مذابح/ بوجروم تعرّض لها اليهود في شرق أوروبا. وفي عام 1930 كتب جوزيف روث روايته "أيوب؛ قصة رجل بسيط" وكانت تحكي عن مندل سنجر، بطل الرواية اليهودي الصالح الذي كان يعيش في شرق أوروبا، والذي فقد كل شيء، بما في ذلك إيمانه، حتى أنه كاد أن يلقي بكتاب صلواته من نافذة بيته، لكنه لم يستطع، فقد كانت مخافة الرب تسري في جسده وتمنعه من فعل ذلك.

وهكذا أسهمت أعمال بيريز وروث في إعادة تشكيل سفر أيوب في ذهن يهود شرق أوروبا قبل الاضطهاد النازي، فأصبح ملهما لأعمال أخرى على نفس النهج بدءا من عام 1940، بعد أن بدأت آثار النازية في الظهور؛ من ذلك مثلا ما كتبه الشاعر اليهودي ذو الأصل البيلاروسي، آرون زيتلين (1998 – 1973)، في قصيدته "حينما فتحت أبواب الموت" والتي يقول في بعض سطورها:

في سفر أيوب أقرأ... ومن وراء العصور... تناديني دماء قلبه: عندي ما يكفي من القبور...

أما أنا فليس لدي قبور؛ فشعبي قد صار رمادًا... وعالمي احترق بيد قابيل

ما هي كارثتك يا أيوب، وما هو بؤسك... حين يقارن بأعظم مأساة على وجه الأرض... مأساة شعب بلا قبور؟

ثم يقول في موضع آخر:

وراء بوابات الموت... يقبع أبناؤك وبناتك يا أيوب!... وراء بوابات الموت قد تلاشوا بعيدًا... ثمة شعب هناك، قد التهمتهم النيران.

كتب زيتلين قصيدته تلك في عام 1946، أي بعد الهولوكوست، ويقال إنه كتبها حزنًا على عائلته التي فقدها في ذلك الوقت. وعلى هذا الأساس فإن زيتلين، مثل كثيرين غيره من أدباء اليهود في هذه الفترة، حولوا شخص أيوب، ذلك البطل التوراتي، إلى البطل الأبرز في الأعمال التي تتحدث عن مآسي اليهود في العصر الحديث.

وامتد توظيف شخصية أيوب إلى الأدب العبري، شعرًا ونثرًا، الذي كتب في الكيان الصهيوني؛ فكتب الشاعر، وأستاذ الأدب العبري الوسيط، دان باجيس (1930 – 1986) قصيدته "موعظة" متحدثًا عن الهولوكوست، وفي 1981 كتب الروائي الإسرائيلي حانوخ ليفين مسرحيته "آلام أيوب"، مستحضرًا فترة من فترات الاضطهاد وتحديدًا تلك التي سبقت الشتات الروماني 70 م. وقد جعل ليفين من أيوب بطل مسرحيته شخصًا ملحدًا يموت مضحيًا بحياته، أما أصدقاؤه فكانوا رجالًا صالحين، لكنهم أمام المصاعب التي لاقوها قرروا التخلي عن إيمانهم بالرب الذي تركهم في مواجهة الاضطهاد الروماني، واتسمت مسرحيته بهيمنة جو من الكراهية، على عكس أيوب التوراتي الذي ظل مخلصًا لربه حتى آخر لحظة.

ومن أشهر الأعمال العبرية التي وظفت قصة أيوب رواية "لا تناديني بأيوب" للروائي الإسرائيلي يوسل بيرشتاين التي كتبها عام 1995، ورغم أن أحداث الرواية تدور في القدس عام 1990، فإن بيرشتاين استلهم فيها الاضطهاد النازي عبر خاصية استرجاع أحداث الماضي، وكان الملاحظ فيها أن كل شخص من أبطال الرواية، بما في ذلك الشخصيات الثانوية، كان يحمل علامات من شخص أيوب، فجميعهم تقريبًا كانوا ممن فقدوا أحبتهم على يد النازيين... ولعل الملمح الأساسي في الرواية هو أن مؤلفها بدا وكأنه يحاول الهروب من ميراث أيوب المرير، والذي يفهم من خاتمتها، حين قام بإحراق سفر أيوب العبري من بين أسفار العهد القديم، لكنها كانت محاولة هروب فاشلة، في إشارة إلى أن مآسي اليهود لن تتوقف.[12]

وهكذا ابتعد توظيف قصة أيوب في الأدب اليهودي تمامًا عن هدف القصة التوراتية التي كتبت للتأكيد على طاعة الرب في كل الظروف، وأصبح التركيز أكثر على المصير المؤلم الذي لاقاه، فتحولت القصة إلى متلازمة يعبّر بها اليهود، أو دولتهم عن مظلومية مستمرة، ومبالغ فيها عبر الأجيال، والتي من خلالها يتم استعطاف العالم، أو بالأحرى ابتزازه حتى حين تمارس أبشع صور الانتقام.

هوامش:


[1] - L. L. Grabbe: A History of the Jews and Judaism in the Second Temple Period. T & T Clark, London 2004. p. 103.

[2] - G. L. Crenshaw: Job, Book of. in: The Anchor Bible Dictionary.

[3] - W. F. Albright: From the Stone Age to Christianity – Monotheism and the Historical Process. The Johns Hopkins Press, Baltimore 1940. p. 253.

[4] - B. Bayer: Job, Book of. In: Encyclopaedia Judaica. Vol. 11, 2nd ed. Keter Pub. New York 2007. p. 341.

[5] - D. A. Knight: Rediscovering the traditions of Israel. SBL. 16, Atlanta  2006. p. 189.

[6] - T. K. Cheyne: Job, Book of. In: Encyclopedia Biblica. Vol. 2, ed. T. K. Cheyne & S. Black. The Macmillan Company. New York 1903. p. 2468 - 69.

[7] -  W. Gesenius: A Hebrew and English Lexicon of the Old Testament. Oxford: the Clarendon Press, 1929. p. 41.

[8] - J. Day: Foreign Semitic Influence on the Wisdom of Israel and its Appropriation in the Book of Proverbs. In: Wisdom in Ancient Israel. Ed. J. Day, et al. Cambridge University Press, New York 1995. p. 56.

[9] - Bayer: p. 356.

[10]  - التلمود البابلي، بابا بترا 1، 15 أ، ب.

[11] - G. Oberhansli: Job in Modern and Contemporary Literature on the Background of Tradition: Sidelights of a Jewish Reading, in: Reading Job Intertextually. Ed. K. Dell & W. Kynes. Bloomsbury Pub. New York 2013. p. 277 – 278.

[12] - Oberhansli: p. 282 - 283.