أخذتنا الأحداث في غزة إلى السؤال عن هذا الغربي الذي طالما أتحفنا بدروس عن الإنسانية. في ظل تواطؤ الحكومات الغربية ومشاركتها في العدوان، وجدنا إجاباتنا في طيات ما يحدث، فذلك الغربي ومعاييره المزدوجة ما زال ينظر إلينا تلك النظرة الدونية. أهي نظرة الأبيض؟ وصرنا نفتش عن رأي ذلك الإنسان الغربي الحر تجاه ما يحدث في فلسطين، حتى نستطيع أن نقرأه أو نكتب عنه، أو لنشعر أن صوت غزة قد وصله ووقف بجانب الحق. وتأخذنا مساهماتنا ومساندتنا لغزة لكي نسأل ذلك السؤال؛ هل نترجم ما نكتبه ليصل إلى الغرب؟ كأننا نقع مرة أخرى في ذلك الفخ الذي يجعلنا ننتبه أننا نستهدف هذا الآخر كي يقف معنا ويساندنا فنكسبه.
لكن "الأبله الرائع" في رواية شوساكو أندو التي تحمل هذا الاسم (ترجمة فلاح رحيم، دار الرافدين، 2021) يبدو وكأنه بريء وإنساني ينظر إلى العالم نظرة شفقة. غاستون القادم من فرنسا إلى اليابان، ولا يعرف ما سبب زيارته، حتى صديقه بالمراسلة تاكاموري وأخته لا يعلمان ماذا يريد هذا الأبله الرائع، فيتركانه يهيم بين المدن باحثًا عن شيء لا يعلم ما هو، ويبدو مثاليًا جدًا في نظرته للحياة. فهو الطيب الذي التقى بمجرم وصاحب عصابة ليردعه عما يقوم به، يجعلنا أندو نشك هل يوجد إنسان بهذه المثالية؟ ويجعلنا أيضًا نتساءل كما صاحب العصابة: ماذا يريد هذا الأبله؟ وكأن هنالك سوء تفاهم بين هذا الغربي وبين الشرقيين، فهم لا يفهمونه أبدًا، وهو لا يفهمهم أيضًا.
سوء التفاهم بين الشرق والغرب جعل الكاتب يفضل أن يجعل غاستون يختفي في نهاية الرواية، فلا نعلم هل عاد إلى بلاده؟ يخلق سوء التفاهم هذا تساؤلات حول التغيرات التي تحدث في الشرق، في طوكيو خاصة، فيرسم خارطة لطوكيو التي خرجت من الحرب وهي تنفض عن ذاتها غبار الحداثة والتقليد الأعمى للغرب، فنفكر هل أتى الأبله الرائع ليعلمنا دروسًا في القيم؟ أم أن قيمنا لم تعد تناسبه وهو الذي ينظر إلى الإنسان نظرة ملائكية. ونفكر أيضًا إلى متى سيظل هذا الغرب يربكنا بنظرته، فننظر إليه كما نظرت توموي إلى غاستون، لتتخيل كيف يرى الأشياء.
تجعلنا الرواية نتساءل عن نظرة الغرب إلينا، وهو الذي ينظر إلى الشرق نظرة تخصه. وعندما نعود إلى كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" نعلم أن الغرب الكولونيالي صمم تلك النظرة إلى الشرق وعممها في الأدب والفكر والسياسة ليتمكن من الهيمنة. طبعًا، لا تذكر الرواية ذلك، لكنها تذكرنا بمركزية الغرب، حتى بنظرته إلى فنوننا وآدابنا، ليجعلنا دائمًا نعود إليه لنقارن أنفسنا به ولنعرف ما هو المستوى الذي وصلنا إليه. ألم يحلل ذلك الطيب صالح في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"؟
ففي "موسم الهجرة إلى الشمال"، تبدو العلاقة بين الشرق والغرب مربكة أيضًا، لأن الشرق المستعمر أصبح ينظر إلى الغرب بأنه الأكثر حضارة، وشكلت هذه الرواية حدثًا استثنائيًا في تاريخ الرواية العربية. فقد أخذتنا الشخصية الرئيسية فيها، وهو مصطفى سعيد، إلى تأملات خاصة في الرؤية الاستعمارية للغرب، فهذا المهاجر إلى الغرب للدراسة، يصبح غربيًا في عاداته ويشعر بدونية في ذلك العالم، فيما جده والجيل الأول يغرقان في عالم تقليدي وعادات بدائية. ربما تختلف رواية تشوساكو أندو بأنها تتحدث عن الشرق في نظرة الغربي، بينما يتحدث الطيب صالح عن الغرب بواقعية، وبنظرة الشرقي المستعمَر. يبدو أن أسئلة هذه الرواية تبقى طازجة لأننا ما زلنا نطرح تلك الأسئلة حول الغرب. وأيضًا لأننا تفاحأنا بأن كل ما آمنا به من غرب متحضر أصبح أمامنا مثل الرماد.
"الأبله الرائع" في رواية شوساكو أندو يريد لليابانيين أن يستعيدوا بساطتهم ومثلهم العليا، وكأن الروائي الكاثوليكي يعود مرة أخرى إلى مثله وقيمه المسيحية. فشوساكو أندو عرف بمعالجته لقضية الإخلاص المسيحي في رواياته. وهو الذي ينتمي إلى الشرق بفكرته المسيحية تلك. وكان هو الياباني الأول الذي درس في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. وعند عودته إلى اليابان، بدأت شهرته ككاتب، فعمل كأستاذ جامعي في جامعات طوكيو. وقد تربع على عرش الرواية مع روائيين آخرين، مثل كواباتا، ومشيما، وقد عكس قضايا العلاقة بين الشرق والغرب في روايته "الصمت"، التي تتحدث عن قسيس قادم من البرتغال اضطهد مع جماعته المسيحيين في اليابان، وقد ترجمها إلى العربية كامل حسين. هذه الروايات وغيرها جعلت من شوساكو يكتب رواية تنتمي إلى الشرق، لأنه ينتقد بطريقة غير مباشرة الغرب ونظرته المريبة للشرق.
ولكن لماذا هو أبله؟ ألأنه بسيط جدًا، ويحب الخير والعدالة والإنسانية؟ أم لأنه نموذج لشخص لا يمكن أن يوجد في هذا العالم؟ أم ربما هو غير مفهوم فيبدو كالأبله. لقد استخدم هذه الرمزية ديستويفسكي في روايته "الأبله"، التي نشرت سنة 1869، وهي تتحدث عن أمير روسي اسمه ميشيكين عاد من سويسرا حيث كان يتعالج. في روسيا يقع في حب امرأة. يصور ديستويفسكي بأن حياة هذا الأبله لا تشبه حياة الأمراء، لأنه يعاني من نوبات صرع جعلت الناس ينظرون إليه وكأنه أبله. وهنا يصور ديستويفسكي هذا الشخص وكأنه بسيط ومثالي وينتقد من خلاله المجتمع الغارق في الحداثة. ومثل الروائي الياباني، فإن الروائي الروسي يريد أن يوجه نقدًا إلى تقليد الغرب.
وفي رواية "الصمت"، التي تحولت إلى فيلم، تبدو العلاقة بين الشرق والغرب حزينة جدًا على عكس رواية "الأبله الرائع" الفكاهية، فالروائي الياباني يشرح الخطيئة وما معناها، والغربي الذي أتى اليابان ليبشر بالمسيحية قد غرق في تساؤلاته حول الخير والشر ومعنى الحياة، وهذا هو جوهر وجودنا في هذا العالم، وربما يتقاطع فلسفة العالمين في أن الأسئلة في كل مكان في هذا العالم تتشابه، ورغم سوء الفهم، إلا أن الحوار يجب أن يبدأ دائمًا من تلك الأسئلة التي ترهقنا. فمسألة الرذائل والفضائل هي جوهر البشرية. ألم يقل ذلك ابن خلدون: إن الاستبداد يجعل الرذائل فضائل والفضائل رذائل؟
وبالعودة إلى غزة، فالغرب الذي يقف الآن بوجه الفلسطيني هو الغرب الاستعماري، إنه ربما الأبله العارف ماذا يريد، فهو بمعاييره المزدوجة يجعلنا نغير نظرتنا إلى كل شيء يقوله، فحرب الإبادة التي تحدث تعيد ترتيب كل شيء في العالم، فلم تعد المركزية الغربية أساسًا لنا لنعرف ما نريد وما نحتاج في هذا العالم. ولكن الغربي الحر الذي يتظاهر اليوم من أجل غزة ويخرج إلى الشوارع ويقف بوجه حكومته هو الرائع الذي نحاوره دائمًا....