مهما كانت زاوية الرؤية التي نظرنا بها إلى برنار بيفو، الذي غيّبه الموت في 6 مايو/ أيار الحالي عن عمر يناهز الــ 89 عامًا، إلا أنه لا يمكننا إلا أن نعترف بأنه كان لعقود طويلة ظاهرة حقيقية في عالم الكتاب والثقافة الفرنسيين، إذ استطاع بيفو أن يؤسس حضورًا خاصًا قلّما عرف غيره من صحافيي الصفحات الثقافية والتلفزيون أن يجدوه. كان في استطاعته فعلًا أن يصنع "المطر والصيف" في سوق الكتاب، بفضل برنامجه التلفزيوني "أبوستروف" (Apostrophes)/ الفواصل العليا، الذي قدمه بين عامي 1975 و1990 على قناة "أنتين 2" (Antenne 2)، ومن ثم برنامج "بويون دو كولتور" (Bouillon de Culture)/ طبخة ثقافة، الذي بثته القناة عينها بعد أن بدلت اسمها إلى "فرنسا 2" (France 2) بين عامي 1991 و2001.
كان بيفو يومها، ومثلما صرح مرارًا، يقرأ ما بين عشر ساعات، واثنتي عشرة ساعة، يوميًا، والأهم أنه عرف كيف يتحدث عن الأدب لعامة الناس. إذ كانت فكرة البرنامجين الأساسية هي معرفة كيفية جذب الناس (المشاهدين) إلى القراءة. نجح برهانه، الذي ارتكز أساسًا على طبيعته الطيبة والواضحة، وجانبه المفعم بالحيوية. اكتشف المشاهدون فيه شخصًا محبًا للنبيذ، وخبيرًا فيه (علينا أن لا ننسى أن مسقط رأسه هي منطقة "البوجوليه"، التي أعطت اسمها لنوع من أنواع النبيذ الفاخر)، كما أنه عاشق لكرة القدم، ومطلع على أدق تفاصيل اللعبة، والأندية، ومتابع لها (وثمة صور تظهره أيضًا بلباس المنتخب الفرنسي وهو يلعب الكرة مع اللاعبين في مركز التدريب). ربما ذلك كله جعله قريبًا من المشاهدين، الذين بدأوا ينتظرونه فعلًا مساء كل جمعة، وهو اليوم الذي كان يعرض فيه برنامجه، حتى وإن جاء في وقت متأخر نسبيًا. ربما أهم الميزات التي جعلته قريبًا من الجميع أنه لم يظهر متحذلقًا أبدًا، بل بقي محافظًا على تواضعه وابتسامته على الرغم من أن "عروضه" (فيما لو جاز القول) كانت تجتذب ما يقرب من 6 ملايين مشاهد في السهرة الواحدة. وعلى الرغم من أنه أثر على ثلث مبيعات الكتب في ثمانينيات القرن الماضي، إذ ثمة إحصائية نُشرت يومها أن الكتاب الذي يمر في حلقة لبيفو، يُباع منه 3 آلاف نسخة في صبيحة اليوم التالي. لدرجة أن المؤرخ الكبير بيير نور، كتب في مجلة "لو ديبا" (التي كان يترأس تحريرها، وهي من أهم وأكثر المجلات الفكرية الفرنسية رصانة) كتب عن "ظاهرة بيفو" قبل أن يعود ويحاوره في كتاب كامل هو "مهنة الكتابة".
***
ولد برنار بيفو في مدينة ليون عام 1935، وبدأ حياته المهنية صحافيًا في جريدة "لوفيغارو" اليومية، قبل أن يطلق مجلة "لير" (الشهرية) في عام 1975 مع جان لوي ــ سيرفان شرايبر؛ في ذاك العام أيضًا بدأ برنامجه "أبوستروف" الذي حظي بحضور حقيقي، منذ الحلقة الأولى. هذا الحضور تأكد بقوة، في حلقة 11 أبريل/ نيسان 1975، إذ استطاع بيفو أن يقوم بـ"ضربته الإعلامية الأولى"، حين استقبل الكاتب الروسي ألكسندر سولجنتسين (نوبل للآداب عام 1970)، في حلقة عُدَّت تاريخية. ومن أسباب هذا الاعتبار أن سولجنتسين لم يتحدث إعلاميًا منذ أن طُرِد من "الاتحاد السوفياتي". لكن عاد بيفو واعترف بعد سنوات، في أحد كتبه، أن خطأه في هذه الحلقة كان في دعوة كتّاب آخرين للمشاركة في الحلقة، لذلك منعت "هذه المجموعة من الكتّاب الجامحين" في إعطاء فكرة حقيقية عن مؤلف "أرخبيل الغولاغ"، حيث لم تظهر مكانة سولجنتسين الحقيقية. الإنجاز الثاني، الذي أعقب هذه الحلقة هو ذهاب بيفو للقاء نابوكوف في قصر "مونتروي" (حيث كان يقيم)، ليطلب منه المشاركة في حلقة من حلقات أبوستروف. وخلافًا لكل التوقعات، قبل مؤلف "لوليتا" الظهور على شاشة التلفزيون، ولكن بشرطين: أن ترسل إليه الأسئلة مسبقًا، وأن يكون تحت تصرفه قنينة ويسكي، "متنكرة داخل فنجان الشاي أمام الكاميرات". ونجحت المحاولة في أن تكون الحلقة واحدة من أفضل المقابلات التي تحدث فيها نابوكوف.
أمام ذلك كله، بدا برنامج أبوستروف يفسح مكانة له، في قلب الحياة الثقافية، ولم يعد مجرد برنامج تلفزيوني لتقضية الوقت واستهلاك ساعة من ساعات البث. بدأ الكتّاب الكبار بالتوالي على الظهور أمام الكاميرا: الفيلسوف يانكليفتش (ومعرفته المدهشة بالموسيقى)، مارغريت يورسنار (تشكل الحلقة وثيقة نادرة عن هذه الكاتبة الاستثنائية)، باتريك موديانو (الذي ظهر متلعثمًا وخائفًا، كما عادته لغاية اليوم) رولان بارت، جورج سيمنون ــ وهي حلقة للذكرى ــ تم تصويرها في منزله بمدينة لوزان السويسرية. عديدون هم الأشخاص الذين تمت دعوتهم إلى هذا الصالون الأدبي: من رجال سياسة، ومغنين وفنانين، وممثلين، ورياضيين، لنذكر منهم فرانسوا ميتران، سيرج غينسبورغ، جين فوندا، محمد علي كلاي... وإذا استعملنا تعبير "كاستينغ"، أي كاستينغ أعظم بالنسبة إلى برنامج تلفزيوني من هؤلاء الذين يجعلون الناس تحلم بأشياء كثيرة.
ثمة كثير من المشاهد بقيت عالقة لغاية اليوم في الذاكرة. من يستطيع أن ينسى تشارلز بوكوفسكي وهو يغادر موقع التصوير، في منتصف الحلقة، وهو يترنح من السكر (بعد أن ابتلع قنينة من النبيذ الأبيض)، إذ أراد الكاتب الأميركي أن يضع يده على فخذ الكاتبة التي كانت موجودة في الحلقة، وحين علا الصراخ، لم يجد بُدًّا من المغادرة، ليقول بيفو ــ الذي بدا عليه الارتياح من رحيل بوكوفسكي ــ جملة بقيت حاضرة لفترة طويلة في الأوساط الثقافية: "أخيرًا، حتى أنه لا يستطيع تحمل قنينة، هذا الكاتب الأميركي".
ربما شكلت المشاهد هذه عددًا من "اللحظات الكبيرة" في حياة أبوستروف، وفي حياة بعض المشاهدين، لكنها في الواقع (في رأيي) ليست اللحظات الأكثر عمقًا. ثمة بعض السحر حين نرى ونشاهد حلقته مع الممثلة الأميركية جين فوندا "التي وقعت في غرامها ما إن دخلت إلى استديو التصوير"، كما مارغريت دوراس وهي تتحدث في حلقتها الخاصة (صُورت في منزلها في منطقة النورماندي) عن "درب الجلجلة" الذي مشته للتخلص من سموم الإدمان على الكحول. أو أيضًا حلقة جورج دوموزيل (عالم فقه ولغوي فرنسي ومؤرخ للأديان وعالم أنثروبولوجيا؛ 4 مارس/ آذار 1898 ــ 11 أكتوبر/ تشرين الثاني 1986)، وكأننا كنّا أمام شيخ جليل صاحب طريقة، إن جاز القول، وعلى الرغم من أنه يقرأ ما يقارب السبعين لغة (نعم!!!) فقد بقي متواضعًا "أمام عظمة الثقافة" ــ (كتب بيفو عن ذلك كله، في أحد أعداد مجلة "لير" القديمة، بعنوان "اللحظات الكبيرة") ــ أو حتى أمام الكاتبة الشابة (يومها) فيرجيني ديسبانتيس، التي كانت حاضرة في إحدى الحلقات مع روايتها الأولى، حين صرخت، للدلالة على "حضورها المختلف"، قالت: "أريد مزيجًا من القوة الجنسية والاجتماعية الآن". وأيضًا هيرفيه غيبير، الذي تحدث عام 1990 عن مرضه بالسيدا (الإيدز). جاء ليشهد بأمانة مذهلة، وبلطف، عن الألم الذي ينخر داخله. كان غيبير يومها قد أصدر كتابه "إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي"، وقد شكل الكتاب أولى الشهادات عن شخص كاتب مصاب بالإيدز. ولم نعرف، إلا لاحقًا، بعد سنوات قليلة، أن "الصديق" الذي نقل إليه هذه العدوى (والذي لم ينقذ له حياته) لم يكن في الواقع سوى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
لعب برنامجا "أبوستروف"، و"بويون دو كولتور"، مع بيفو، قوة إرشادية كبيرة، إذ مارسا تأثيرًا لا يستهان به على القارئ. أصبح البرنامج نقطة انطلاق فعلية وبخاصة للروائيين الجدد، الذين كانوا ينشرون كتبهم الأولى. بمعنى آخر كان الظهور إلى جنب بيفو، نوعًا من أنواع التكريس. هكذا بدت الحلقة التي استقبل فيها بيفو "الفلاسفة الجدد" في السبعينيات (برنار هنري ليفي وعصابته)، وفي عام 1996، مثلًا، حين ظهرت آن ــ لو ستايننغر، مع كتابها الأول "مرض أن تكون ذبابة". كانت شبه مجهولة تقريبًا. بعد أسبوع أفردت لها الصحف والمجلات الفرنسية صفحات من النقد الإيجابي.
شبه الاحتكار هذا، إن صحّ القول، أثار عددًا من الانتقادات؛ في عام 1981 مثلًا اتهم ريجيس دوبريه، الذي كان يومها مستشارًا ثقافيًا للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، برنار بيفو، بممارسة "ديكتاتورية" في سوق الكتاب. بعد تلك الحادثة بعامين، أشارت دراسة أجراها معهد إبسوس لاستطلاعات الرأي إلى أن ثلث مشتريات الكتب في فرنسا تتأثر بشكل مباشر ببرنامج أبوستروف، وفق ما ذكرته صحيفة "لوموند". ومن دون شك انسحبت هذه الهالة على غالبية البلدان الفرنكوفونية، الناطقة باللغة الفرنسية.
لكن أيضًا علينا الاعتراف أن ثمة حلقات لم تكن موفقة. وبالتأكيد، يعود ذلك إلى الضيف الذي يشطح في خطابه، ربما. تحدث بيفو مرة عن فشل حلقته التي أرادها تحية للمرأة في يومها العالمي، لكن دلفين سيريغ، وكارول روسوبولوس، أظهرتا كراهية كبيرة للنساء، دفعت الجالسين للتعبير عن اشمئزازهم. أيضًا، عبّر بيفو، قبل سنوات قليلة، عن أسفه وندمه الشديدن لأنه دعا غابرييل ماتزنيف في عام 1990، المشتبه به في إساءة معاملة الأطفال. كان الكاتب يقدم روايته الجديدةAmours décomposées، وقد افتخر مطولًا بمغامراته مع "الفتيات الصغيرات"، فما كان على دينيس بومباردييه، كاتبة مشاركة إلا أن قالت: "يبدو لي السيد ماتزنيف شخصًا مثيرًا للشفقة"، وكادت تشتعل "الحرب" فوق بلاتوه التصوير.
على الرغم من انتهاء حلقاته لتدخل في الذاكرة، إلا أن بيفو بقي نشطًا للغاية، مثلما بقي مدافعًا عن "الإملاء". إذ أنشأ عام 1985 بطولة "الإملاء" الفرنسية، وقد أصبحت تعرف لاحقًا باسم "ديكو دور" (Dicos d'or). إملاءات هائلة، فشل فيها عدد من الكتّاب، الذي شاركوا فيها، ما دفعه مرة إلى تحية المحررين في دور النشر الذين يصححون أخطاء الكتّاب الإملائية. بين عامي 2014 و2019 ترأس أكاديمية غونكور (التي تمنح جائزتها الشهيرة في الرواية، حيث انتخب عضوًا في لجنتها عام 2004، وتنازلت رئيسة اللجنة إدموند شارل رو عن منصبها لصالحه عام 2014) مثلما لم يتوقف عن كتابة مراجعاته النقدية في صحيفة "جورنال دو ديمانش".
***
لو قيّض لي أن أنهي هذه الكلمات بقصة شخصية، لاستعدت الذاكرة: أتاح لي عملي الصحافي أن ألتقي ببرنار بيفو مرات عدة، الأولى كانت في بداية التسعينيات، حين جاء إلى بيروت، بعد توقف الحرب، لتصوير حلقة من "بويون دو كولتور". كانت بيروت تنهض من حربها ودمارها، لتدخل في أحلامها الكثيرة. كان مشروع إعادة الإعمار قد بدأ. فأطلق على حلقته ــ التي استضافت عددًا من الكتّاب اللبنانيين، وصوّرت في حديقة "قصر الصنوبر" (مركز إقامة السفير الفرنسي) ــ عنوان "بيروت أكبر ورشة إعمار في العالم". لم يكن المقصود إعادة الإعمار المادي فقط، بل إعادة الإعمار الفكري الذي باعد بين اللبنانيين.
المرة الثانية كانت في عام 2000. كنت في باريس أحتفي مع الكاتب الصيني غاو زينغ يان (وناشرته الفرنسية وأصدقائهما) بفوز غاو بجائزة نوبل للآداب. كنت أعرف غاو من منتصف التسعينيات، بعد أن كتبت عنه مقالة في "السفير" (قبل نوبل بسنوات). ولهذا السبب دعتني الناشرة لحضور الاحتفال (وإجراء مقابلة معه) بكوني من أوائل الذي انتبهوا لكتابات غاو، وكتبوا عنه بالعربية. تشاء الصدف أن يدعى غاو لتصوير حلقة مع بيفو الذي دعاني بدوري لحضور تصوير الحلقة. وحين طلبت من بيفو، بعد الحلقة، إجراء مقابلة معه، اعتذر بلطف كبير، لأن وقته لن يسمح له، في الأيام القليلة المقبلة، لارتباطه بعمل ما، مثلما كنت سأغادر العاصمة الفرنسية بعد يومين، واعدًا إياي بذلك في لقاء مقبل إن حدث. هذا اللقاء المقبل حدث بعد خمس سنوات، في صالون الكتاب بباريس عام 2005، حين التقيت به في أحد ممرات الكتب، وذكرته بالموضوع. قال نتحدث غدًا على العشاء. وهذا ما حدث.
ربما اللقاء الأهم، من الناحية العملية، مع بيفو كان في عام 2012، حين اتصلت بي مارتين جيليه (المسؤولة يومها عن معرض الكتاب الفرنكوفوني ببيروت) قائلة يجب أن نتحدث. التقينا مساء ذلك اليوم، وأخبرتني أنها ترغب في نشاط ما، مختلف، بمناسبة العيد العشرين لمعرض بيروت، وتتمنى أن أفكر معها. أول ما طرأ على بالي كان التالي: "لتدعُ لجنة غونكور كي توزع الجائزة من بيروت". بعد يومين قالت لي على الهاتف: "سيأتون لإعلان اللائحة النهائية من بيروت، لأن قانونهم يحتم عليهم إعلان اسم الفائز من فرنسا". وفي لقائنا ذلك المساء طرأت على بالنا الفكرة التالية، لماذا لا يصار إلى "اختراع جائزة" أدبية لبنانية لها ارتباط بغونكور. وأيضًا، بعد يومين، قالت رحبوا بالفكرة، وقد اقترح بيفو أن تكون على غرار الجائزة التي تمنح في بولندا، وعلى علاقة بغونكور. أنشئت الجائزة، بالتعاون بين المركز الثقافي الفرنسي والوكالة الفرنكوفونية وأكاديمية غونكور. هنا التقيت ببعض أعضائها، وعلى رأسهم بيفو، الذي كان سعيدًا بذلك. تم تعييني "نائب رئيس دائم" (لا أكتب بالفرنسية، على أن يكون رئيس الدورة مختلفًا كل سنة، ويكتب بالفرنسية). لكن المغامرة لم تستمر، إذ استقلت بعد عدة أشهر من توزيع الجائزة الأولى، التي جرت في بيروت، وكان من ضمن وفد الأكاديمية بيفو، وديدييه دوكوان، وريجيس دوبريه، وإدموند شارل رو، والطاهر بن جلون... وغيرهم.
كان اعتراضي لسببين: اختيار اسم "لائحة غونكور ــ خيار الشرق"، وقد عللت وجهة نظري بأن اسم خيار الشرق قد يتيح مستقبلًا لدولة الاحتلال أن ترغب في المشاركة، وثانيًا اعتراضي على قرار الرئيس الفرنسي أولاند، ورئيس وزرائه فابيوس، بقصف دمشق بالطائرات يومها (يمكنكم مراجعة ذلك على https://al-akhbar.com/Literature_Arts/58043).
ما يهم من كل ذلك، الآن، هو لقاءاتي مع بيفو. إنها الذاكرة التي تعود. وكأننا نعيش لكي نتذكر. ربما كان الشاعر الترينديادي ديريك والكوت محقًا حين قال: "نعيش نصف حياة، أما النصف الثاني، فعبارة عن ذكرى". من قال "إن الإنسان من النسيان"؟
كان بيفو يومها، ومثلما صرح مرارًا، يقرأ ما بين عشر ساعات، واثنتي عشرة ساعة، يوميًا، والأهم أنه عرف كيف يتحدث عن الأدب لعامة الناس. إذ كانت فكرة البرنامجين الأساسية هي معرفة كيفية جذب الناس (المشاهدين) إلى القراءة. نجح برهانه، الذي ارتكز أساسًا على طبيعته الطيبة والواضحة، وجانبه المفعم بالحيوية. اكتشف المشاهدون فيه شخصًا محبًا للنبيذ، وخبيرًا فيه (علينا أن لا ننسى أن مسقط رأسه هي منطقة "البوجوليه"، التي أعطت اسمها لنوع من أنواع النبيذ الفاخر)، كما أنه عاشق لكرة القدم، ومطلع على أدق تفاصيل اللعبة، والأندية، ومتابع لها (وثمة صور تظهره أيضًا بلباس المنتخب الفرنسي وهو يلعب الكرة مع اللاعبين في مركز التدريب). ربما ذلك كله جعله قريبًا من المشاهدين، الذين بدأوا ينتظرونه فعلًا مساء كل جمعة، وهو اليوم الذي كان يعرض فيه برنامجه، حتى وإن جاء في وقت متأخر نسبيًا. ربما أهم الميزات التي جعلته قريبًا من الجميع أنه لم يظهر متحذلقًا أبدًا، بل بقي محافظًا على تواضعه وابتسامته على الرغم من أن "عروضه" (فيما لو جاز القول) كانت تجتذب ما يقرب من 6 ملايين مشاهد في السهرة الواحدة. وعلى الرغم من أنه أثر على ثلث مبيعات الكتب في ثمانينيات القرن الماضي، إذ ثمة إحصائية نُشرت يومها أن الكتاب الذي يمر في حلقة لبيفو، يُباع منه 3 آلاف نسخة في صبيحة اليوم التالي. لدرجة أن المؤرخ الكبير بيير نور، كتب في مجلة "لو ديبا" (التي كان يترأس تحريرها، وهي من أهم وأكثر المجلات الفكرية الفرنسية رصانة) كتب عن "ظاهرة بيفو" قبل أن يعود ويحاوره في كتاب كامل هو "مهنة الكتابة".
***
ولد برنار بيفو في مدينة ليون عام 1935، وبدأ حياته المهنية صحافيًا في جريدة "لوفيغارو" اليومية، قبل أن يطلق مجلة "لير" (الشهرية) في عام 1975 مع جان لوي ــ سيرفان شرايبر؛ في ذاك العام أيضًا بدأ برنامجه "أبوستروف" الذي حظي بحضور حقيقي، منذ الحلقة الأولى. هذا الحضور تأكد بقوة، في حلقة 11 أبريل/ نيسان 1975، إذ استطاع بيفو أن يقوم بـ"ضربته الإعلامية الأولى"، حين استقبل الكاتب الروسي ألكسندر سولجنتسين (نوبل للآداب عام 1970)، في حلقة عُدَّت تاريخية. ومن أسباب هذا الاعتبار أن سولجنتسين لم يتحدث إعلاميًا منذ أن طُرِد من "الاتحاد السوفياتي". لكن عاد بيفو واعترف بعد سنوات، في أحد كتبه، أن خطأه في هذه الحلقة كان في دعوة كتّاب آخرين للمشاركة في الحلقة، لذلك منعت "هذه المجموعة من الكتّاب الجامحين" في إعطاء فكرة حقيقية عن مؤلف "أرخبيل الغولاغ"، حيث لم تظهر مكانة سولجنتسين الحقيقية. الإنجاز الثاني، الذي أعقب هذه الحلقة هو ذهاب بيفو للقاء نابوكوف في قصر "مونتروي" (حيث كان يقيم)، ليطلب منه المشاركة في حلقة من حلقات أبوستروف. وخلافًا لكل التوقعات، قبل مؤلف "لوليتا" الظهور على شاشة التلفزيون، ولكن بشرطين: أن ترسل إليه الأسئلة مسبقًا، وأن يكون تحت تصرفه قنينة ويسكي، "متنكرة داخل فنجان الشاي أمام الكاميرات". ونجحت المحاولة في أن تكون الحلقة واحدة من أفضل المقابلات التي تحدث فيها نابوكوف.
أمام ذلك كله، بدا برنامج أبوستروف يفسح مكانة له، في قلب الحياة الثقافية، ولم يعد مجرد برنامج تلفزيوني لتقضية الوقت واستهلاك ساعة من ساعات البث. بدأ الكتّاب الكبار بالتوالي على الظهور أمام الكاميرا: الفيلسوف يانكليفتش (ومعرفته المدهشة بالموسيقى)، مارغريت يورسنار (تشكل الحلقة وثيقة نادرة عن هذه الكاتبة الاستثنائية)، باتريك موديانو (الذي ظهر متلعثمًا وخائفًا، كما عادته لغاية اليوم) رولان بارت، جورج سيمنون ــ وهي حلقة للذكرى ــ تم تصويرها في منزله بمدينة لوزان السويسرية. عديدون هم الأشخاص الذين تمت دعوتهم إلى هذا الصالون الأدبي: من رجال سياسة، ومغنين وفنانين، وممثلين، ورياضيين، لنذكر منهم فرانسوا ميتران، سيرج غينسبورغ، جين فوندا، محمد علي كلاي... وإذا استعملنا تعبير "كاستينغ"، أي كاستينغ أعظم بالنسبة إلى برنامج تلفزيوني من هؤلاء الذين يجعلون الناس تحلم بأشياء كثيرة.
ثمة كثير من المشاهد بقيت عالقة لغاية اليوم في الذاكرة. من يستطيع أن ينسى تشارلز بوكوفسكي وهو يغادر موقع التصوير، في منتصف الحلقة، وهو يترنح من السكر (بعد أن ابتلع قنينة من النبيذ الأبيض)، إذ أراد الكاتب الأميركي أن يضع يده على فخذ الكاتبة التي كانت موجودة في الحلقة، وحين علا الصراخ، لم يجد بُدًّا من المغادرة، ليقول بيفو ــ الذي بدا عليه الارتياح من رحيل بوكوفسكي ــ جملة بقيت حاضرة لفترة طويلة في الأوساط الثقافية: "أخيرًا، حتى أنه لا يستطيع تحمل قنينة، هذا الكاتب الأميركي".
ربما شكلت المشاهد هذه عددًا من "اللحظات الكبيرة" في حياة أبوستروف، وفي حياة بعض المشاهدين، لكنها في الواقع (في رأيي) ليست اللحظات الأكثر عمقًا. ثمة بعض السحر حين نرى ونشاهد حلقته مع الممثلة الأميركية جين فوندا "التي وقعت في غرامها ما إن دخلت إلى استديو التصوير"، كما مارغريت دوراس وهي تتحدث في حلقتها الخاصة (صُورت في منزلها في منطقة النورماندي) عن "درب الجلجلة" الذي مشته للتخلص من سموم الإدمان على الكحول. أو أيضًا حلقة جورج دوموزيل (عالم فقه ولغوي فرنسي ومؤرخ للأديان وعالم أنثروبولوجيا؛ 4 مارس/ آذار 1898 ــ 11 أكتوبر/ تشرين الثاني 1986)، وكأننا كنّا أمام شيخ جليل صاحب طريقة، إن جاز القول، وعلى الرغم من أنه يقرأ ما يقارب السبعين لغة (نعم!!!) فقد بقي متواضعًا "أمام عظمة الثقافة" ــ (كتب بيفو عن ذلك كله، في أحد أعداد مجلة "لير" القديمة، بعنوان "اللحظات الكبيرة") ــ أو حتى أمام الكاتبة الشابة (يومها) فيرجيني ديسبانتيس، التي كانت حاضرة في إحدى الحلقات مع روايتها الأولى، حين صرخت، للدلالة على "حضورها المختلف"، قالت: "أريد مزيجًا من القوة الجنسية والاجتماعية الآن". وأيضًا هيرفيه غيبير، الذي تحدث عام 1990 عن مرضه بالسيدا (الإيدز). جاء ليشهد بأمانة مذهلة، وبلطف، عن الألم الذي ينخر داخله. كان غيبير يومها قد أصدر كتابه "إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي"، وقد شكل الكتاب أولى الشهادات عن شخص كاتب مصاب بالإيدز. ولم نعرف، إلا لاحقًا، بعد سنوات قليلة، أن "الصديق" الذي نقل إليه هذه العدوى (والذي لم ينقذ له حياته) لم يكن في الواقع سوى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو.
برنار بيفو خلال توزيع جائزة "غونكور - خيار الشرق" في دورتها الأولى في بيروت عام 2012 (إسكندر حبش إلى يمين الصورة) |
لعب برنامجا "أبوستروف"، و"بويون دو كولتور"، مع بيفو، قوة إرشادية كبيرة، إذ مارسا تأثيرًا لا يستهان به على القارئ. أصبح البرنامج نقطة انطلاق فعلية وبخاصة للروائيين الجدد، الذين كانوا ينشرون كتبهم الأولى. بمعنى آخر كان الظهور إلى جنب بيفو، نوعًا من أنواع التكريس. هكذا بدت الحلقة التي استقبل فيها بيفو "الفلاسفة الجدد" في السبعينيات (برنار هنري ليفي وعصابته)، وفي عام 1996، مثلًا، حين ظهرت آن ــ لو ستايننغر، مع كتابها الأول "مرض أن تكون ذبابة". كانت شبه مجهولة تقريبًا. بعد أسبوع أفردت لها الصحف والمجلات الفرنسية صفحات من النقد الإيجابي.
شبه الاحتكار هذا، إن صحّ القول، أثار عددًا من الانتقادات؛ في عام 1981 مثلًا اتهم ريجيس دوبريه، الذي كان يومها مستشارًا ثقافيًا للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، برنار بيفو، بممارسة "ديكتاتورية" في سوق الكتاب. بعد تلك الحادثة بعامين، أشارت دراسة أجراها معهد إبسوس لاستطلاعات الرأي إلى أن ثلث مشتريات الكتب في فرنسا تتأثر بشكل مباشر ببرنامج أبوستروف، وفق ما ذكرته صحيفة "لوموند". ومن دون شك انسحبت هذه الهالة على غالبية البلدان الفرنكوفونية، الناطقة باللغة الفرنسية.
لكن أيضًا علينا الاعتراف أن ثمة حلقات لم تكن موفقة. وبالتأكيد، يعود ذلك إلى الضيف الذي يشطح في خطابه، ربما. تحدث بيفو مرة عن فشل حلقته التي أرادها تحية للمرأة في يومها العالمي، لكن دلفين سيريغ، وكارول روسوبولوس، أظهرتا كراهية كبيرة للنساء، دفعت الجالسين للتعبير عن اشمئزازهم. أيضًا، عبّر بيفو، قبل سنوات قليلة، عن أسفه وندمه الشديدن لأنه دعا غابرييل ماتزنيف في عام 1990، المشتبه به في إساءة معاملة الأطفال. كان الكاتب يقدم روايته الجديدةAmours décomposées، وقد افتخر مطولًا بمغامراته مع "الفتيات الصغيرات"، فما كان على دينيس بومباردييه، كاتبة مشاركة إلا أن قالت: "يبدو لي السيد ماتزنيف شخصًا مثيرًا للشفقة"، وكادت تشتعل "الحرب" فوق بلاتوه التصوير.
على الرغم من انتهاء حلقاته لتدخل في الذاكرة، إلا أن بيفو بقي نشطًا للغاية، مثلما بقي مدافعًا عن "الإملاء". إذ أنشأ عام 1985 بطولة "الإملاء" الفرنسية، وقد أصبحت تعرف لاحقًا باسم "ديكو دور" (Dicos d'or). إملاءات هائلة، فشل فيها عدد من الكتّاب، الذي شاركوا فيها، ما دفعه مرة إلى تحية المحررين في دور النشر الذين يصححون أخطاء الكتّاب الإملائية. بين عامي 2014 و2019 ترأس أكاديمية غونكور (التي تمنح جائزتها الشهيرة في الرواية، حيث انتخب عضوًا في لجنتها عام 2004، وتنازلت رئيسة اللجنة إدموند شارل رو عن منصبها لصالحه عام 2014) مثلما لم يتوقف عن كتابة مراجعاته النقدية في صحيفة "جورنال دو ديمانش".
***
لو قيّض لي أن أنهي هذه الكلمات بقصة شخصية، لاستعدت الذاكرة: أتاح لي عملي الصحافي أن ألتقي ببرنار بيفو مرات عدة، الأولى كانت في بداية التسعينيات، حين جاء إلى بيروت، بعد توقف الحرب، لتصوير حلقة من "بويون دو كولتور". كانت بيروت تنهض من حربها ودمارها، لتدخل في أحلامها الكثيرة. كان مشروع إعادة الإعمار قد بدأ. فأطلق على حلقته ــ التي استضافت عددًا من الكتّاب اللبنانيين، وصوّرت في حديقة "قصر الصنوبر" (مركز إقامة السفير الفرنسي) ــ عنوان "بيروت أكبر ورشة إعمار في العالم". لم يكن المقصود إعادة الإعمار المادي فقط، بل إعادة الإعمار الفكري الذي باعد بين اللبنانيين.
المرة الثانية كانت في عام 2000. كنت في باريس أحتفي مع الكاتب الصيني غاو زينغ يان (وناشرته الفرنسية وأصدقائهما) بفوز غاو بجائزة نوبل للآداب. كنت أعرف غاو من منتصف التسعينيات، بعد أن كتبت عنه مقالة في "السفير" (قبل نوبل بسنوات). ولهذا السبب دعتني الناشرة لحضور الاحتفال (وإجراء مقابلة معه) بكوني من أوائل الذي انتبهوا لكتابات غاو، وكتبوا عنه بالعربية. تشاء الصدف أن يدعى غاو لتصوير حلقة مع بيفو الذي دعاني بدوري لحضور تصوير الحلقة. وحين طلبت من بيفو، بعد الحلقة، إجراء مقابلة معه، اعتذر بلطف كبير، لأن وقته لن يسمح له، في الأيام القليلة المقبلة، لارتباطه بعمل ما، مثلما كنت سأغادر العاصمة الفرنسية بعد يومين، واعدًا إياي بذلك في لقاء مقبل إن حدث. هذا اللقاء المقبل حدث بعد خمس سنوات، في صالون الكتاب بباريس عام 2005، حين التقيت به في أحد ممرات الكتب، وذكرته بالموضوع. قال نتحدث غدًا على العشاء. وهذا ما حدث.
ربما اللقاء الأهم، من الناحية العملية، مع بيفو كان في عام 2012، حين اتصلت بي مارتين جيليه (المسؤولة يومها عن معرض الكتاب الفرنكوفوني ببيروت) قائلة يجب أن نتحدث. التقينا مساء ذلك اليوم، وأخبرتني أنها ترغب في نشاط ما، مختلف، بمناسبة العيد العشرين لمعرض بيروت، وتتمنى أن أفكر معها. أول ما طرأ على بالي كان التالي: "لتدعُ لجنة غونكور كي توزع الجائزة من بيروت". بعد يومين قالت لي على الهاتف: "سيأتون لإعلان اللائحة النهائية من بيروت، لأن قانونهم يحتم عليهم إعلان اسم الفائز من فرنسا". وفي لقائنا ذلك المساء طرأت على بالنا الفكرة التالية، لماذا لا يصار إلى "اختراع جائزة" أدبية لبنانية لها ارتباط بغونكور. وأيضًا، بعد يومين، قالت رحبوا بالفكرة، وقد اقترح بيفو أن تكون على غرار الجائزة التي تمنح في بولندا، وعلى علاقة بغونكور. أنشئت الجائزة، بالتعاون بين المركز الثقافي الفرنسي والوكالة الفرنكوفونية وأكاديمية غونكور. هنا التقيت ببعض أعضائها، وعلى رأسهم بيفو، الذي كان سعيدًا بذلك. تم تعييني "نائب رئيس دائم" (لا أكتب بالفرنسية، على أن يكون رئيس الدورة مختلفًا كل سنة، ويكتب بالفرنسية). لكن المغامرة لم تستمر، إذ استقلت بعد عدة أشهر من توزيع الجائزة الأولى، التي جرت في بيروت، وكان من ضمن وفد الأكاديمية بيفو، وديدييه دوكوان، وريجيس دوبريه، وإدموند شارل رو، والطاهر بن جلون... وغيرهم.
كان اعتراضي لسببين: اختيار اسم "لائحة غونكور ــ خيار الشرق"، وقد عللت وجهة نظري بأن اسم خيار الشرق قد يتيح مستقبلًا لدولة الاحتلال أن ترغب في المشاركة، وثانيًا اعتراضي على قرار الرئيس الفرنسي أولاند، ورئيس وزرائه فابيوس، بقصف دمشق بالطائرات يومها (يمكنكم مراجعة ذلك على https://al-akhbar.com/Literature_Arts/58043).
ما يهم من كل ذلك، الآن، هو لقاءاتي مع بيفو. إنها الذاكرة التي تعود. وكأننا نعيش لكي نتذكر. ربما كان الشاعر الترينديادي ديريك والكوت محقًا حين قال: "نعيش نصف حياة، أما النصف الثاني، فعبارة عن ذكرى". من قال "إن الإنسان من النسيان"؟