Print
سوسن جميل حسن

رحّالة من النساء: إيميلي باو المرأة الاستثنائية

1 يونيو 2024
تغطيات
لم يعد للرحلة ذلك الوهج القديم، أو تلك الميزات التي اتسمت بها على مرّ العصور، وهي النشاط البارز في حياة البشر منذ القديم، في عصرنا الحالي عصر التواصل المفتوح والخدمات الرقمية والأجهزة الذكية، وعصر العالم الافتراضي ومنصاته المتنوعة والعديدة، صار في إمكان أي شخص القيام برحلاته الافتراضية عبر هذه المنصات والوسائل المتاحة، عدا البرامج السياحية التقليدية التي تقوم بها شركات ومؤسسات نقل، أو سياحة، لمجموعات، إلى بلدان مختلفة، إنما يكون الفرد فيها خاضعًا لبرنامج الرحلة، ولما تقدمه الجهة المنظمة والأدلة السياحيون من معلومات وأماكن ومواقع لزيارتها في البلد المقصود.
ولطالما عدّت كتب الرحلات من أهم الكتب التي مدّت الدارسين بمعلومات كثيرة جغرافية وتاريخية واجتماعية وثقافية، خاصة أن كاتبها كان يدوّن ما شاهده بصور حية ومشاهد مباشرة، وما عاش من تجارب إنسانية في البلدان التي زارها، حتى إن هذه الكتب وجدت لها مكانًا تصنيفيًا في الأدب أطلق عليه في ما بعد "أدب الرحلة"، وهو في الأساس بدأ على أيدي الجغرافيين والمستكشفين الذين اهتموا بتسجيل كل ما كانت تقع عليه عيونهم، أو يلاحظونه من عادات البشر وسلوكهم ومعتقداتهم وحكاياتهم، حتى لو كان خارج نطاق المعقول، ويدخل في باب الخرافة.
يحفل تاريخ الشعوب، في غالبيتها، بأسماء رحالة دوّنوا تجاربهم وملاحظاتهم، ومن بينهم رحالة عرب ومسلمون أيضًا، منهم من كان الفضول وحب المغامرة وفضول المعرفة ما يدفعهم إلى أن يجوبوا الآفاق، ومنهم من كانوا رسل خليفة، أو حاكم، مثل سلام الترجمان، الذي أرسله الخليفة العباسي الواثق إلى حصون جبال القوقاز عام 227 هـ. ومن الرحالة المشهورين في تاريخنا المسعودي، مؤلف "مروج الذهب"، والإدريسي الأندلسي في نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، كذلك البيروني ورحلته المسماة "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة"، وفي مرحلة متقدمة سطع نجم رحالة آخرين، منهم ابن جبير الأندلسي، وابن بطوطة، الرحالة الشهير الذي استمر في ارتحال لمدة نحو ثلاثين عامًا، عاد بعدها إلى المغرب، فكلّف السلطان المغربي كاتبًا هو محمد بن جُزَيّ الكلبي ليسجل ما يروي ابن بطوطة عن رحلاته ويُجمع في كتاب أطلق عليه ابن بطوطة نفسه عنوان "تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، من دون أن ننسى كتاب ابن خلدون عن رحلته شرقًا وغربًا، الذي يعد كتابًا يجمع بين السيرة الذاتية وأدب الرحلة، يصف إقامته في الأندلس ضيفًا على ملك غرناطة، وفي إشبيلية، كما إقامته لمدة ربع قرن في مصر، عمل خلالها في التعليم والقضاء. وهذه أمثلة عن رحالة في التاريخ العربي والإسلامي، وهنالك أسماء أخرى بالطبع.

المرأة رحّالة

فتنت نساء غربيات عديدات بسحر الشرق، فذهبن إليه إما مستكشفات، أو دبلوماسيات، أو سياسيات، بتكليف من حكوماتهن، أو دارسات لغة وثقافة، أو زوجات سفراء، أو علماء آثار. كتبت الباحثة الإسبانية كريستينا موراتو عن سبع نساء رحالة في الدول العربية، في كتابها "سيدات الشرق ــ نساء رحالة في الدول العربية"، ترجمة أكرم سعيد. صدر الكتاب عن "تموز للطباعة والنشر والتوزيع" في بداية عام 2023، ويحكي عن تلك السيدات اللاتي وقعن في حبّ الشرق، وكان لهن دور بارز في توسيع المعرفة الجغرافية لتلك البلدان، والتعريف بثقافاتها وعاداتها، وغير ذلك.




لكن المرأة الرحالة لم تُعرف في التاريخ العربي والإسلامي، وربما هذا يعود إلى مكانة المرأة وفق منظومة الأعراف والتقاليد والدين، فهي لا تستطيع الخروج والسفر من دون موافقة الزوج، أو وجود محرم معها.
كذلك في أوروبا لم تكن المرأة تتمتع بمكانة اجتماعية منصفة حتى وقت قريب، لكن هنالك نساء تمردن على الصورة النمطية، وسعين خلف أحلامهن وطموحاتهن، منهن رحالة يقام حاليًّا لإرثها الغني من الصور واليوميات والتقارير معرض في دارمشتاد في ألمانيا يستمر حتى تشرين الأول/ أكتوبر المقبل، إنها إيملي باو.
ولدت إيميلي باو، أو ميلي كما كانت تنادى، في عام 1906، في مدينة دارمشتاد. كان والدها رجل أعمال، وكان لها شقيقان. سمح لشقيقيها بالدراسة، بينما حُرمت منها، شأن الفتيات حينها. لكن إيميلي كانت تضمر أحلامًا كبيرة، وأسئلة كبيرة بدأت باكرًا في عمرها الطويل، فلقد هربت من المنزل في عمر الخامسة لتعرف من أين تشرق الشمس.
شغفت باللغات، وسافرت إلى بولونيا في عمر العشرين كي تتعلم الإيطالية هناك في مدرسة للغات، ثم تزوجت في عام 1932 من المدير في شركة سيمنز، فالديمار باو، وانتقلت معه للعيش في مدينة هامبورغ، حيث سعت هناك إلى التواصل مع العلماء والمثقفين، وفي عام 1948 تم تكليفها من قبل الإدارة الانتقالية البريطانية بتقديم تقرير من بلدان بعيدة لصحيفة هامبورغ "Die Welt"، التي كانت قد تأسست حديثًا في عام 1945. جنبًا إلى جنب مع متسلق الجبال والمصور هانز إرتل، وجيولوجي وباحث في علم الحشرات، وطبيب، بدأت في أول رحلة استكشافية في أميركا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت المرأة الوحيدة في الرحلة. كتبت حينها في دفترها ملاحظات عن الرحلة، مثلما دونت مشاعرها أيضًا، إذ كتبت: "نحن الطيور المهاجرة الستة، الذين سيشاركون في رحلة استكشافية واسعة النطاق إلى أميركا الجنوبية كمجموعة ألمانية، نشعر في هذه اللحظة كما لو أننا هربنا من قفص، نتذوق طعم الحرية واتساع العالم". كما كانت لديها روح عالية تتسم بالشجاعة وحب المغامرة، فهي تقول في إحدى ملاحظاتها: "إذا خنقتني أفعى، أو ابتلعني تمساح، أو إذا سقطت على جبل، فيجب ألّا أندم".

عاشت إيميلي باو في طهران سبع سنوات

ولّدت هذه الرحلة في نفسها فضول السفر والاستكشاف، لم يثنها موت طفلها صغيرًا، الذي كانت قد أنجبته بعد سنوات من زواجها، ولا مرض زوجها في ما بعد، عن اللحاق بحلمها، فهي كانت قد أخبرت زوجها بأن عليه أن يتأقلم مع وجودها "زوجة" لمدة ثمانية أشهر في العام معه، وباقي أشهر السنة ستكون لرحلاتها، وبالفعل، ابتدأ مشروعها الحقيقي وهي في الخمسين من عمرها، في عام 1956، وبعد وفاة زوجها، باعت كل ما تملك، واشترت سيارة فولكس فاجن صالون، وعدلتها وجهزتها كي تكون صالحة للتخييم والنوم، ثم انطلقت، لكن إلى أين؟ لقد كان يسحرها طريق الحرير منذ طفولتها، خاصة مع تلك القصص ذات الصور التي تحكي عن طريق الحرير، تأخذها رحلتها أولًا على متن سفينة من ميناء هامبورغ إلى بيروت، حيث تواصل ميلي بحافلتها فولكس فاجن عبر سورية والعراق وإيران وباكستان والهند ونيبال. يستغرق الأمر أربع سنوات قبل أن تطأ ميلي الأرض الألمانية مرة أخرى. خلال رحلتها كانت تواصل الكتابة لصحيفة "Die Welt"، وتجري مقابلات، منها مثلًا مع رئيس الحكومة التايوانية شيانغ كاي شيك، وكانت تسافر بمفردها لساعات، أو حتى أيام، في مناطق تشبه الصحراء، من دون أن تقابل أي شخص، أو حتى رؤية جمل، أو شيء من هذا القبيل. ما تراه ومن تلتقي به، تلتقط له الصور. تسجل اليوميات وتقارير السفر والرسائل التي ترسلها إلى الأصدقاء، وتنجز عددًا لا يحصى من الصور التي تلتقطها مع كاميرا Rolleiflex. لم يكن هذا الأمر سهلًا بالتأكيد، التقاط الصور كان مكلفًا، ويلزمه تقنيات وتحضيرات، بينما اليوم يمكن للشخص أن يبث، ليس صورًا فحسب، إنما أيضًا مقاطع فيديو لحظية يشاهدها العالم أجمع.




عاشت في طهران سبع سنوات كمراسلة أجنبية للصحيفة نفسها، وتعرضت للهجوم بسبب ذلك، خاصة من قبل الطلاب الإيرانيين المقيمين في ألمانيا، على خلفية ثنائها على الشاه هناك، في الوقت الذي كان فيه أطفال في شوارع متربة، وفقر، بينما الطبقة الحاكمة، أو النخبة، تعيش حياة أخرى. في أحد كتبها، تثني على النظام، للتقدم الصناعي الذي يمضي فيه، وتثني على الشاه الذي سمح لها بإقامة معسكر في فناء القصر. غادرت إيران في عام 1973.
لم يكن السفر والترحال سهلًا، بل كان شاقًا في غالبيته، فقد عانت من ندرة المال أحيانًا، وتعرضت لبعض الإصابات أحيانًا أخرى، فقد كسرت ساقها مرة في الصين التي سمح لها بدخولها وكانت محمية تمامًا ومغلقة في ذلك الوقت، صورت رسامي الملصقات هناك، وأشخاصًا في حمام السباحة، وروضة أطفال، ووثقت الحياة بتفاصيلها الصغيرة. كانت تريد أن تقول للجميع في العالم في ذلك الوقت: أنظروا، هؤلاء الناس يعيشون حياتهم، يرجى احترام ذلك، فأنت لست أفضل في الولايات المتحدة، في أوروبا، من مزارعي الأرز في تايوان، وجامعي الشاي في المرتفعات الصينية. كذلك تعطلت سيارتها في الهند فتركتها وتابعت بالقطارات، تجوب الآفاق، وتلتقط الصور، وتسجل يومياتها، وتوثق حياة الناس.
مؤرخة الفن في برلين، جوليكا نوروزي، التي تحتفظ بذكريات كثيرة عن ميلي باو، إذ عرفتها وهي في السنة الخامسة من عمرها، فقد كانت صديقة مقربة لوالدتها، وكان عالم باو يدهشها، ألفت عنها كتابًا "ميلي باو: طريق الحرير 1956 ــ 1974". وتروي عنها أنها كانت تقول "لا يوجد مكان سيء في العالم لمقابلة أشخاص طيبين". ودائمًا ما كانت تردد: "أولًا، وقبل كل شيء، يجب أن تعيشي أحلامك بالتأكيد. لم يفت الأوان بعد للقيام بذلك". فهل كانت الرحلة على طول طريق الحرير المغامرة الأخيرة في حياة ميلي المثيرة؟ بالطبع لا، بل يمكن القول إن حياتها لم تتوقف عن الإثارة حتى آخر أيامها، فهي سافرت إلى سيبيريا في عمر التسعين، وتوفيت بعد أن استقرت مرة أخرى في مدينتها دارمشتاد عن عمر 99 عامًا، في تشرين الأول/ أكتوبر 2005، تاركة إرثًا كبيرًا من الصور بشكل خاص، بعد أن تلقى متحف فرانكفورت ميزانية للرقمنة الكاملة وجرد صورها في عام 2021، من أجل جعلها في متناول الجمهور في هذا المعرض المقام لإرثها.