Print
ستيفن ده فور

هل يعاني يهود أميركا من أزمة هويّة؟ (2-2)

16 يونيو 2024
ترجمات
ترجمة: عماد فؤاد

غيّرت حرب الإبادة الوحشية التي يشنّها الكيان الصهيوني منذ ما يقرب من تسعة أشهر على قطاع غزة موقف اليهود في الولايات المتحدة الأميركية. هذا صحيح، وما تشهده الجامعات الأميركية والأوروبية من حراك طلّابي مناصر للقضية الفلسطينية اليوم لهو دليل آخر على تغيّر نظرة الشباب في جميع أنحاء العالم إلى جوهر الصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام. في القراءة التالية، يقدّم لنا الكاتب والمحلّل البلجيكي المختصّ بتحوّلات التاريخ الاجتماعي الأميركي المعاصر ستيفن ده فور تحليلًا لحالة الانقسام التي تعاني منها هويّة يهود الولايات المتحدة الأميركية اليوم، على ضوء الأحداث المأساوية الأخيرة في غزة، معتمدًا في تحليله على آراء عدد من المراقبين الأميركيين اليهود البارزين، ومن أهمهم بيتر بينارت، وفرانكلين فوير، وبيتر دريير، مستكشفًا تأثيرات حرب غزة على الانتخابات الأميركية المقبلة، وطارحًا السؤال الصعب: لمن سيكون ولاء يهود أميركا اليوم؟ هل هم قادرون بالفعل على تغيير موازين القوى في الصراع المقبل بين جو بايدن ودونالد ترامب؟
هنا الحلقة الثانية والأخيرة من الإجابة:

أطلق المحلل السياسي اليهودي فرانكلين فوير صرخة إنذار أخرى في مجلة "ذي أتلانتيك" قبل فترة، مشيرًا إلى الارتفاع الحاد في كراهية اليهود، خاصة في الجامعات الأميركية، فقد عبّر له طالب يرتدي الطاقية اليهودية عن مدى العداء الذي أصبح يسود المناخ الجامعي تجاه كل من يعلن عن يهوديته، وعادت ابنة مراهقة إلى منزلها خائفة بعد مظاهرة عفوية عنيفة ضد إسرائيل في مدرستها. يتعلق الأمر هنا بما هو أكثر من الخوف والانزعاج، فقد اعتُقل طالب في جامعة كورنيل بسبب تهديده عبر الإنترنت بقطع رقاب اليهود، وإطلاق النار على مطاعم وجبات الكشير اليهودية. وفي الشهور الثلاثة الأولى التي تلت هجوم حماس القاتل، زادت الحوادث المعادية لليهود لتفوق معدل ما كان يحدث خلال عام كامل، وفقًا لرابطة مكافحة التشهير. وتتراوح هذه الحوادث من تخريب الرموز اليهودية، وتعطيل المجالس البلدية، إلى نظريات المؤامرة التي من الأفضل أن تتوقعها من اليمين المتطرف نفسه: ومنها على سبيل المثال أن الحكومة الإسرائيلية نفسها هي التي نظّمت عمليات القتل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من أجل "الانتقام" من الفلسطينيين.

التعاطف مع الهولوكوست

حنينًا إلى الماضي، يعود فرانكلين فوير بذاكرته إلى سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، عندما لم يكن اليهود متسامحين مع بعضهم بعضًا فحسب، بل كان في إمكانهم حتى الاعتماد على التعاطف معهم في الولايات المتحدة. تلك الحقبة تقترب من نهايتها الآن، كما كتب فوير في قراءته المطولة المصحوبة بصور لرموز من يهود أميركا المشاهير، ومن بينهم: بوب ديلان، وباربرا سترايسند، وستيفن سبيلبرغ، ومادلين أولبرايت، وهنري وينكلر الشهير بـ ذا فونز The Fonz من مسلسل "الأيام السعيدة" الكوميدي، والقاضية روث بادر غينسبيرغ. تلك السنوات التي ارتدى فيها كثير من الأميركيين ملابس رالف لورين، وشاهدوا مسلسل "ساينفيلد"، واستمعوا إلى الدكتورة روث للحصول على نصائح جنسية.

تظاهرات ليهود يطالبون بوقف إطلاق النار في غزة

وفقًا لفوير، بدأت تلك الذروة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أدى التعاطف مع الهولوكوست إلى انخفاض كبير في عدد الأميركيين الذين يحملون مشاعر معادية للسامية، ما أتاح لليهود وضع بصماتهم على المجتمع بشكل متزايد، سواء كان ذلك في السينما (بول نيومان، وداستن هوفمان، وودي آلن)، أو في الموسيقى (ليونارد برنشتاين، وSimon & Garfunkel، وبوب ديلان)، أو في الأدب (سول بيلو، وفيليب روث، ونورمان ميلر)، أو في العلم (ألبرت أينشتاين، وروبرت أوبنهايمر، وغيرهما). فإلى جانب تقدير مساهمة اليهود في المجتمع الأميركي، ارتفع أيضًا تقدير إسرائيل، وكان لذلك علاقة كبيرة بحرب الأيام الستّة عام 1967، عندما استولت إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان من جيرانها، وقد استهوى كثير من الأميركيين أن دولة صغيرة انطلقت بقوة ــ بأسلحة أميركية ــ في منطقة معادية.
لذلك ليس من قبيل المصادفة أن أفلامًا موسيقية مثل "عازف الكمان على السطح" (1971) و"ينتل"(1983) وغيرها مما تناول قصصًا عن اليهود التقليديين، جذبت الجماهير إلى السينما، وكانت أبرز تلك الموجة هي ليلة عرض هابطة في الذكرى الثلاثين لقيام دولة إسرائيل، بثتها قناة ABC الأميركية في وقت الذروة عام 1978، وغنّت في الحفل أسماء كبيرة مثل باري مانيلو، وسامي ديفيس جونيور، وهنري وينكلر، وتصدرت النجمة باربرا سترايسند المسرح. وفي الختام، تم بث لقاء مباشر على الهواء مع رئيسة وزراء إسرائيل آنذاك غولدا مائير.
اختفت، أو تراجعت، معاداة السامية إلى الهامش الأميركي، وبدا أن ديفيد ديوك، الزعيم السابق لجماعة كو كلوكس كلان/Ku Klux Klan، والمعادي الشرس للسامية، كان في طريقه إلى مجلس الشيوخ عام 1990، ولكن المؤسسة الجمهورية منعت ذلك جزئيًا. ولكن مع بداية الألفية الجديدة بدأت المشاعر المعادية لليهود تنتعش من جديد. ووفقًا لفوير، كان هنالك دور للوزراء اليهود في ذلك، مثل بول وولفويتز، في إدارة جورج دبليو بوش المذمومة، والأزمة المالية التي أشير فيها كالعادة إلى الدور الرئيسي لليهود في القطاع المصرفي، كما كانت هنالك نظرية المؤامرة التي اخترعها الفرنسي رينو كامو حول "الاستبدال العظيم"، والتي انتشرت بشكل كبير بين الأميركيين اليمينيين، الذين أصبحوا أكثر تشددًا مرة أخرى بعد انتخاب دونالد ترامب، حتى أن هتافات النازيين الجدد في شارلوتسفيل كانت تقول: "لن يحل اليهود محلنا"!




النجاح... والغيرة

يستطيع بيتر دريير تقدير مقال فوير، على الرغم من أن لديه تحفظات بشأنه: "أجد أنه من الغريب أن يجعل تلك الفترة الذهبية تبدأ بعد الحرب العالمية الثانية، ففي نهاية المطاف كانت معاداة السامية لا تزال منتشرة تمامًا حتى الستينيات، ولم يُسمح لوالديّ بشراء منزل في حيهم المفضل في نيويورك في الستينيات. ولكن الجالية اليهودية أصبحت مقبولة بشكل متزايد بفضل الأعمال الاستعراضية والفنية في المقام الأول، حتى أن باربرا سترايسند رفضت إجراء عملية تجميل لأنفها اليهودي، قائلة: "هذا الأنف جزء من هويتي، ومع ذلك أصبحت نجمة مشهورة"". ويشرح دريير: "لطالما كان نجاح اليهود في القطاعات البارزة سلاحًا ذا حدين، جاء ذلك إلى حد كبير بدافع الضرورة، فأولئك الذين حُرموا من فرص العمل في عدد من القطاعات بسبب التيار المعادي للسامية في المجتمع كانوا يبحثون عن مكان آخر في مجال المال وصناعة الترفيه. وقد جعل ذلك الجالية اليهودية فخورة وحذرة في الوقت نفسه، لأن النجاح يولّد الغيرة، لذلك لا يدرك كثير من الأميركيين أن عددًا من اليهود يعملون في متاجر صغيرة، أو سائقي سيارات الأجرة، أو معلّمين، أو اختصاصيين اجتماعيين". ولا يعتقد دريير أن معاداة السامية ستختفي تمامًا، لكنه يقول إنها أصبحت ظاهرة هامشية: "تقبلت غالبية الأميركيين اليهود وسطهم، بوصفهم جزءًا من وعاء الخضروات المختلط الذي تمثله الولايات المتحدة، أو يجب أن تكون عليه، لقد غزت أجزاء من الثقافة اليهودية هذا البلد، فليس من الضروري أن تكون يهوديًا لتحب أكل الكعك، أو تضحك على نكاتنا اليهودية الساخرة".

من احتجاجات جامعة كولومبيا 

ولكن ماذا عن المشاعر المعادية لليهود في الجامعات في الأشهر الأخيرة؟ يجيب دريير بتشكك إلى حد ما: "لطالما كانت معاداة السامية في الولايات المتحدة حكرًا على اليمين المتطرف، ولذلك يشعر بعض اليهود بالصدمة من أن أشياء غاضبة تُقال الآن فجأة عن إسرائيل من قبل اليسار أيضًا". ويعتقد المحلل السياسي أن هذا التهديد مبالغ فيه بشكل كبير: "إنها تمطر استطلاعات للرأي العام حول معاداة السامية، ولكن للأسف معظمها يأتي تلبية لأوامر من منظمات مثل ADL، والتي ترى أن انتقاد إسرائيل أيضًا معادٍ للسامية، حتى أنهم يصفون الآن اليهود الذين ينتقدون حكومة بنيامين نتنياهو أنفسهم بأنهم معادون للسامية، وهنالك كثير من هذا القبيل، فعندما يتم إلصاق الصلبان المعقوفة على المعابد اليهودية، فإن ذلك بالطبع أمر صادم، ولكن مع استثناءات قليلة، لم يؤدّ ذلك حتى الآن إلى أعمال عنف ضد الأفراد، ومن الغباء وضع المظاهرات اليسارية ضد بنيامين نتنياهو تحت اللافتة نفسها التي وضعوا تحتها الهجوم الذي شنه أحد النازيين الجدد على كنيس بيتسبرغ، والذي أسفر عن مقتل 11 شخصًا عام 2018".

الحراك الطلابي المناصر لفلسطين

يدرك دريير جيدًا أن شباب الصهاينة يشعرون بالتوتر الشديد عندما يسمعون زملاءهم الطلاب يهتفون "فلسطين حرة"، أو "من النهر إلى البحر" في حرمهم الجامعي: "هذا أيضًا لأنهم نشأوا على أن مثل هذه العبارات تدخل ضمن معاداة السامية، ومع ذلك أعرف عددًا من الأشخاص الذين يعتقدون أن احتلال الأراضي الفلسطينية وصمة عار، ويقارنون السياسة الإسرائيلية بالفصل العنصري، ومع ذلك لديهم أصدقاء يهود، حتى أن هنالك منظمات طلابية يهودية تفكر بهذه الطريقة، مثل منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام/Jewish Voice for Peace، وقد علّقت جامعة كولومبيا في نيويورك تلك المنظمة". ويعتقد دريير أن هذا أمر مخزٍ: "لقد حققوا مع رؤساء الجامعات الأميركية الثلاث على خلفية التظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية في جلسات استجواب بمجلس النواب، بطريقة تذكرنا بصيد الساحرات التي قام بها السيناتور مكارثي في الخمسينيات".

منظمات مثل "منظمة الصوت اليهودي من أجل السلام" تشارك بقوة في التظاهرات

كما تصاعدت الضغوط في الحراك الطلابي من الجهة المعارضة للحق الفلسطيني، بما في ذلك منظمة "أمهات ضد معاداة السامية في الحرم الجامعي" Mothers Against Campus Antisemitism الجديدة: "تأسست هذه المنظمة بعد حادثة قام فيها طالب بلصق نجمة داود على ملابس أحد الطلاب، ووصفه آخر بأنه "صهيوني قذر"، لا بد أن ذلك لم يكن لطيفًا بالنسبة للشخص المعني، ولكن دعونا نضع كل شيء في نصابه: في فيرمونت تم مؤخرًا إطلاق النار بدم بارد على ثلاثة طلاب من أصل فلسطيني في الشارع".
كيف يرى دريير تطور موقف جو بايدن؟ يقول: "أعتقد أن بايدن نأى بنفسه بشكل جيد عن نتنياهو في الأشهر الأخيرة، فعدم استخدام الولايات المتحدة لحق النقض (الفيتو) عندما دعا مجلس الأمن الدولي إلى وقف فوري لإطلاق النار قبل أيام كان تغييرًا أكثر عمقًا في مساره مما يعترف به منتقدوه، وكذلك كان الخطاب الذي وضع فيه زعيم مجلس الشيوخ تشاك شومر، وهو يهودي، نتنياهو في موقف حرج، لذا فإن الضغط على إسرائيل يتزايد بالفعل".
ومع ذلك، تواصل الولايات المتحدة تزويد إسرائيل بالأسلحة بعد كل ما حدث؟
يجيب دريير: "بايدن سياسي من المدرسة القديمة، تربّى على فكرة أن دعم إسرائيل واجب عليه بسبب كل ما تعرض له اليهود، لكنه سيجرؤ على الضغط على إسرائيل أكثر إذا أعيد انتخابه، وأتصور أنه يستطيع أن يكون أفضل رئيس أميركي عرفه الفلسطينيون على الإطلاق لو أعيد انتخابه، فقط بعد أن يتخلص من حذره الراهن خوفًا من تداعيات قرارته على حملته الانتخابية المقبلة".


(*) ستيفن ده فور (1965): كاتب ومحلّل بلجيكي مختص بالسياسة والتأريخ لتحوّلات المجتمع الأميركي المعاصر.