Print
جيمس كوسن

فن الترفيه المفقود: قفزة هائلة في أعماق الجحيم النفسي

18 يونيو 2024
ترجمات
ترجمة: دارين حوماني

 

كيف فقدنا القيمة الذاتية للترفيه لصالح القيمة الأداتية

 

لم تكن حياة الفلاح في العصور الوسطى سهلة. وكما قال آلان دو بوتون في كتابه "قلق المكانة":

"لقد كانوا فقراء، يعانون من سوء التغذية، يشعرون بالبرد والخوف، ويموتون- عادة بعد قليل من المعاناة- قبل بلوغهم سن الأربعين. وبعد عمر مديد من العمل، قد تكون أغلى ممتلكاتهم بقرة أو ماعزًا أو وعاء. لم تكن المجاعة بعيدة أبدًا وكانت الأمراض منتشرة؛ من بين أكثرها شيوعًا الكساح، القروح، السل، الجذام، الخراجات، الغنغرينا، الأورام والقروح السرطانية"...

هذه هي القصة التي نرويها لأنفسنا نحن الحداثيون عن العصور الوسطى. إنها تتناسب بشكل جيد مع قصتنا عن التقدم: أن الأمور كانت أسوأ في الماضي وتتحسّن باستمرار. لقد أيقظ العلم والتكنولوجيا البشرية من سباتها في الجهل والبؤس.

لكن هذه ليست القصة الوحيدة التي يمكن أن تُروى عن العصور الوسطى (على الرغم من أنها قد تكون الأكثر ملاءمة). هناك قصة أخرى يمكننا أن نرويها عن ذلك الزمن، وهي قصة يجب أن تُروى؛ فلو كانت قصة التقدّم حقيقية، لكان العالم في الماضي مكانًا سيئًا للغاية.

في هذا الجزء، سنروي هذه القصة المنسية عن العصور الوسطى وما الذي نسيه المجتمع الحديث. لا نريد أن نفسد النهاية كثيرًا ولكن ما نسيناه هو معنى الحياة وكيف نعيشها؛ ما نسيناه هو فن الترفيه المفقود.

العصور الحديثة

لكن قبل أن نروي القصة المنسية، دعونا نذكّر أنفسنا لماذا قد نحتاج إلى قصة أخرى. ففي النهاية، إذا كنت تقرأ دعاية المتفائلين بالتكنولوجيا، ستشعر بالحيرة. أليست الأمور ماضية في التحسّن؟

لم يكن هناك قطّ فقر أقل، ومجاعة أقل، ووفيات أطفال أقل، ونوعية حياة أعلى. هذه هي القصة التي تتناسب جيدًا مع اقتباس دي بوتون من بداية المقال عن بؤس العصور الوسطى.

ولكن هناك أيضًا جانب مظلم للحياة الحديثة؛ وكما ناقشنا عدة مرات في "الفلسفة الحية"، فإن كل خطوة إلى الأمام في الرفاهية المادية تأخذنا خطوة إلى أسفل في حفر الجحيم النفسي.

في كتابه "السعادة الحقيقية"، أوضح الرئيس السابق للجمعية الأميركية لعلم النفس، مارتن سيليجمان، أن ثمة مفارقة: في الأربعين سنة التي سبقت نشر ذلك الكتاب في عام 2002، زادت نسبة انتشار الاكتئاب عشرة أضعاف، وانخفض متوسط عمر أول نوبة اكتئاب للشخص العادي من 29.5 سنة إلى 14.5 سنة. تكمن المفارقة في حقيقة أن نوعية الحياة تحسّنت في تلك الأربعين سنة أكثر من أي وقت آخر في التاريخ.

بعد مرور خمس عشرة سنة، يستكشف جونثان هايدت تطور هذا الاتجاه مع أخذ وسائل التواصل الاجتماعي في الاعتبار: لقد ارتفعت حالات إيذاء النفس، والاكتئاب، والانتحار بين المراهقين بشكل كبير. وهو يربط ذلك بظهور وسائل التواصل الاجتماعي، لكن إذا نظرنا بشكل أعمق في البيانات نرى أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تؤدّ إلا إلى تضخيم الاتجاه الأساسي الذي كان موجودًا بالفعل. إنها خطوة أخرى كبيرة إلى الأمام في مجال التكنولوجيا وقفزة هائلة في أعماق الجحيم النفسي.

لذا، من المعقول أن نفترض أنه على الرغم من أن الحياة تحسّنت بلا شك، في العديد من الأبعاد، إلا أنها لم تتحسّن في جميع النواحي، وقد نرغب في استكشاف الأسباب التي قد تكون وراء ذلك حتى نتمكن من تحسين الأمور بشكل أكبر.

ثمة طريقة معقولة للجمع بين هاتين القصتين، هي أن نقول إن التقدم التكنولوجي أدّى إلى تحسين الجانب الخارجي للحياة. لدينا هواتف ذكية، وسيارات كهربائية، وغسالات. وهذا جيد، ولكنه لم يحسّن الجانب الداخلي للحياة. لذا فإن الأمرين صحيحان: نحن نعيش حياة أفضل بأي مقياس خارجي، ونحن أكثر بؤسًا بأي مقياس داخلي.

القصة الأخرى

مع ظل الشك البسيط الذي يُلقى على قصة التقدّم، دعونا نعيد النظر في حياة أسلافنا في العصور الوسطى. بين كل تلك الوفيات بسبب المجاعة والأمراض الرهيبة، وجد سكان العصور الوسطى بعض الوقت ليعيشوا حياتهم، ولكي نكون صادقين، يبدو أنه يمكننا أن نتعلم بعض الأشياء.

ولسنا نتحدث هنا عن الفرسان والدوقات والملوك الذين من الواضح أنهم كانوا يتمتعون بنوعية حياة لائقة، باعتبارهم المستفيدين من عدم المساواة الاجتماعية الكبيرة في تلك الحقبة. نحن نتحدث عن الأشخاص الموجودين في أسفل التسلسل الهرمي الأوروبي - الأقنان والفلاحون.

كما ترون، هؤلاء الفقراء كانوا يمتلكون شيئًا فقدناه- كانت لديهم حياة. العمل كان لا يزال شيئًا تقوم به لأنه كان ضروريًا. الترفيه كان لا يزال هو قاعدة الحياة.

وفقًا للمؤرخين، أمثال غريغوري كلارك ونورا ريتشي، كان المزارع العادي في القرن السادس عشر يعمل لمدة تتراوح بين 150 و180 يومًا في السنة. ومن الجدير بالذكر هنا، أن غالبية الناس كانوا مزارعين - حتى في بداية القرن التاسع عشر، كان 90% من الناس لا يزالون يعيشون على الأراضي الزراعية (وهو العدد الذي انخفض إلى أقل من 1% بحلول القرن الواحد والعشرين).

كانت هناك أعياد دينية وأيام لقديسين يتم الاحتفال بها، ناهيك عن المهرجانات القروية التي تستمر عدة أيام (Ales) للاحتفال بالأحداث المهمة مثل الأعراس والجنازات والحصاد وحتى موسم ولادة الأغنام. لكل نوبة عمل، كانت هناك دعوة لفترة من الاسترخاء المجتمعي.

وفي تلك الأيام التي كانوا يعملون فيها، لم يكن الأمر تمامًا كمثابة قرع أجراس البورصة في وول ستريت. إليك كيف وصف أسقف دورهام أخلاقيات العمل لدى الفلاحين في القرن السابع عشر:

"سوف يأخذ العامل راحته طويلة في الصباح؛ يقضي جزءًا كبيرًا من اليوم قبل أن يأتي إلى عمله. ثم يجب أن يتناول وجبة الإفطار، فإذا لم يحصل عليها في وقته المعتاد، سيكون هناك تذمر وشكوى [...] عند الظهيرة، يجب أن يأخذ وقتًا للنوم، ثم يجب أن يتناول مشروبًا في فترة ما بعد الظهر، مما يستغرق جزءًا كبيرًا من اليوم".

ورغم كل التخلّف التكنولوجي والطبي في العصور الوسطى، كان لا يزال هناك شعور بأن لحياتهم معنى. بالنسبة للفلاح في العصور الوسطى، كان العمل لا يزال شيئًا يتم القيام به لأنه كان ضروريًا. ولكن تعمل اليوم لتحصل على مأوى وطعام ليوم غد.

يعزو عالم الاجتماع لويس مومفورد علاقتنا بالزمن إلى اختراع الساعة الميكانيكية في العصور الوسطى على أيدي الرهبان الذين كانوا يسعون إلى الصلاة بانتظام أكبر (Getty)


كانوا يعملون يومًا واحدًا في الأسبوع على "أرض اللورد" التي من المفترض أن توفر لهم الحماية. لم يكن هناك ادّخار لعشرين عامًا حتى يتمكن ابنهم من الالتحاق بجامعة مرموقة؛ لم يكن هناك ادّخار لأربعين عامًا للتقاعد حيث يمكنهم في النهاية التوقف عن العمل؛ لم يكن لديهم قروض عقارية لمدة ثلاثين عامًا ولم يكونوا مثقلين بالديون الطلابية أو أي ديون. هذا كله "مجال العبد الحديث".

من الواضح للجميع أن نوعية حياة الفلاح في العصور الوسطى كانت أقل بكثير، لكن هناك فوائد نفسية لهذه البساطة التي تتجاهلها ثقافتنا تمامًا. وكما يستكشف أوليفر بيركمان في كتابه "أربعة آلاف أسبوع"، فإن الفارق بين "القنّ الحديث" و"قنّ العصور الوسطى" يتجاوز مجرّد أيام العمل. ما يرقى إليه هو علاقة مختلفة مع الزمن.

لقد حدث هذا التحول في علاقتنا بالزمن في مكان ما خلال القرون القليلة الماضية. يعزو البعض، مثل عالم الاجتماع لويس مومفورد، ذلك إلى اختراع الساعة الميكانيكية في العصور الوسطى على أيدي الرهبان الذين كانوا يسعون إلى الصلاة بانتظام أكبر. بينما يرجع آخرون هذا التغيير إلى الثورة الصناعية وتحوّل العالم المتقدم إلى مجتمعات حضرية. يمكن توضيح هذا التغيير بشكل أفضل من خلال التمييز بين طريقتين للتفاعل مع الزمن. دعونا نطلق على أحدهما "الوضع الجوهري" والثانية "الوضع الأداتي".

في الوضع الجوهري، نحن متحفزون للقيام بالأشياء لذاتها؛ أما في الوضع الأداتي، فنحن متحفزون للقيام بالأشياء بسبب ما تؤدي إليه؛ فنحن لا نقوم بها لأنها ممتعة أو ذات معنى بحدّ ذاتها ولكن بسبب الفائدة التي ستحقّقها لنا في المستقبل.

لا توجد مجتمعات عاشت في الوضع الجوهري تمامًا أو الوضع الأداتي تمامًا. فمثلًا، لا تغلي الماء أو تأخذ ملابسك للتجفيف لأنها أعمال ممتعة في جوهرها، بل تفعل ذلك لأنك تريد فنجانًا من الشاي أو بعض الملابس النظيفة. مع التأثير الموجه نحو الأدوات، نرى الأشياء ذات قيمة بناءً على ما تؤدي إليه. النشاط هو تضحية الآن في مقابل العائد في المستقبل.

من ناحية أخرى، فكّر في الهوايات. ونحن لا نتحدث عن نوع الهواية التي تكون في وقت ما أو قد تصبح جزءًا من دخل جانبي. أتحدث عن الهوايات المحرجة بطريقة قديمة. أتحدث عن رود ستيوارت الذي قضى ثلاثة عقود في بناء مدينة للقطارات النموذجية. أتحدث عن الأشخاص الذين يقومون بالبستنة والتطريز وصنع المحركات البخارية ليس لأنهم يخططون لبيعها أو لأن المنتج النهائي سيجلب لهم بعض الإعجاب الكبير؛ أتحدث عن الهوايات التي تتم لأجل الحب، بسيطة ونقية.

الهواية هي استثناء في الحياة الحديثة. الفارق بيننا كمواطنين في الحياة الحديثة مقارنة بغالبية أقراننا على مر التاريخ هو أن غالبية حياتنا ضحية للأدوات.

حتى وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ضحية لهذه الاتجاهات. في السابق، كنت تقضي وقتًا مع أصدقائك لأنه كان عملًا ممتعًا بحدّ ذاته، ولكن حتى شيئًا بسيطًا مثل هذا تم استعماره بواسطة علم النفس الاجتماعي لوسائل التواصل الاجتماعي، كما وصفه بو بورنهام في العرض الداخلي:

"العالم الخارجي، العالم غير الرقمي، هو مساحة مسرحية فقط يقوم فيها المرء بعرض وتسجيل المحتوى للفضاء الرقمي الأكثر حيوية وواقعية. ينبغي على المرء أن يتفاعل مع العالم الخارجي كما يتفاعل مع منجم الفحم. ارتدِ البدلة، واجمع ما يلزم، ثم عد إلى السطح".

لذا، لا يكفي أن تكون الأدوات قد غزت حياتنا العملية، بل إنها الآن استحوذت على حياتنا الشخصية أيضًا.

لا يصعب ربط استعمار الأدوات وتعميم العدمية، ناهيك عن أزمة الصحة العقلية وأزمة المعنى. الأنشطة الجوهرية هي ذات معنى بحدّ ذاتها. عندما تستمتع، لا تسأل لماذا. فقط عندما يكون كل ما تفعله من أجل مستقبل بعيد غامض لا يأتي أبدًا، ابدأ في التساؤل عن الجدوى من أي شيء.

إن التحول الذي طرأ على علاقتنا مع الزمن جعل البشرية أقرب إلى العظمة. نحن نتجه نحو النجوم، ونحن نولد نوعًا جديدًا من الكائنات مع الذكاء الاصطناعي، ولدينا جميع هذه الأجهزة اللامعة والعطلات الرائعة. نحن أقرب إلى هدف نيتشه من الإنسان الأعلى، ولكننا لم نكن أبدًا بهذه الدرجة من البؤس.

لا يتمتع أحد بالحصانة. ربما يكون الأثرياء أكثر تضررًا من بقية الناس؛ حيث وصلوا إلى مكانتهم من خلال كونهم عظماء في استخدام الأدوات. على عكس الأرستقراطيين في العصور الوسطى أو القديمة، لا تعتبر النخبة الحديثة، الرأسمالية البرجوازية، العمل أمرًا كما لو كان دون كرامة أو لا يليق بهم. هذا لا يمكن أن يكون أبعد من الحقيقة، إنهم حتى أبعد من بقية الناس.

إن السرد حول اليوتوبيا الحديثة لدينا سخيف. لم تكن نوعية حياتنا بهذه الجودة من قبل، ولكن صحتنا العقلية سيئة للغاية. السؤال هو: لماذا؟ إذا كان الاتجاه نحو تحسين نوعية الحياة مقترنًا بحياة داخلية فقيرة، فلدينا مشكلة كبيرة.

لكن ربما يتعلق الأمر بالمقاييس. لقد كانت فلسفة العصر الحديث حتى الآن هي المادية. ترى المادية الحياة من خلال مظهرها الخارجي. وهكذا، الشخص الذي يعيش حياة طويلة ويمتلك غسالة يبدو أكثر سعادة في نظر المادي من فلاح في كوخ. بحسب معايير المادية حققت الحداثة نجاحًا كبيرًا.

ومن ثم، ماذا لو قمنا بتحويل معاييرنا نحو المجال الظاهري - أي ماذا لو قمنا بقياس الحياة الجيدة بحالتها الداخلية بدلًا من حالتها الخارجية؟ هناك العديد من الدلائل التي تشير إلى أن الهيمنة المادية على رؤيتنا للعالم تتضاءل، وقد بدأنا في تقدير قيمة ما هو داخلي، على الرغم من أنه لا يزال مجالًا صعبة للقياس.

إذا كان الأمر كذلك، فإننا لا نحتاج إلى أن نصبح رجعيين يتطلعون إلى العودة إلى العصور الوسطى، بل نحن بحاجة إلى أن نكون مصلحي الحداثة الذين يسعون لتحويل الآلة العظيمة لتحسين الحداثة في اتجاه الحياة الجيدة.

من الصعب أن نصدّق أن العالم الذي تعتمد هويته بالكامل على الناتج المحلي الإجمالي يمكن أن يحقق هذا التحول، لكنه ليس خارج حدود الخيال. وهذا هو الجانب المشرق الذي يمكننا أن نأمل فيه.

 

(*) جيمس كوسن: كاتب أيرلندي، ومحرّر موقع The Living Philosophy

 

نُشر هذا المقال بتاريخ 3-3-2024 على الرابط التالي:

https://www.thelivingphilosophy.com/leisure/