Print
باربرا إتش. روزينواين

قصة "قصة الحب"

14 يوليه 2024
ترجمات
ترجمة: سارة حبيب
لم يفهم أيّ من علم النفس، أو الأنثروبوجيا، الحبَ تمام الفهم: وحده التاريخ يرى أن الأمر كلّه متعلق بالفترة الزمنية وبالسرد.

كانت الأغنية التي حققت المركز الأول في قائمة بيلبورد ‏لموسيقى ريذم أند بلوز عام 1967 هي أغنية جاكي ويلسون (حبك يرفعني دائمًا) أعلى وأعلى. كان ويلسون ذات مرة (كما يقول في الأغنية) "كئيبًا"، ثم وجد فتاة مميزة. والآن هو يطير عاليًا.
تاليًا، لنقارن شعور الحب في أغنية ويلسون بشعور الحب عند أوديسيوس في ملحمة هوميروس "الأوديسة". البطل الذي تحمل الملحمة اسمه لا يريد أن يطير. وعندما تحاول الإلهة الجميلة كاليبسو أن تبقيه كشريك فِراش لها، يرفض طلبها، رغم أنها تعده بالخلود؛ مكانٌ إلى جانب الآلهة. إنه يريد أن يرجع إلى المنزل، إلى زوجته. يريد أن يكون موصولًا بالأرض ــ بالمعنى الحرفي تمامًا ــ بما أن سرير الزفاف الذي يمارس هو وبينيلوبي الحبَّ عليه مبني حول شجرة زيتون عميقة الجذور.
من ثم، هنالك الحب الذي تكنّه الفيلسوفة كاري جنكينز لزوجها، وفي الوقت ذاته، لصديقها الحميم، ممضية وقتها مع واحد منهما، أو مع الآخر. ترى جنكينز حبها شكلًا من الحب الرومانسي، لكنها تعرف حقّ المعرفة أنه ليس النوع الذي يحتفي به ويلسون، أو هوميروس. إنها تدعوه "تعدّد الشركاء" (الذي يتضمن وجود أكثر من شريك عاطفيًا، أو جنسيًا، ويكون بموافقة ومعرفة جميع الأطراف).
بالكاد تغطي هذه الأمثلة المشاعرَ المختلفة اختلافًا واسعًا التي يُفترض أن تغطيها كلمة "حب" البسيطة. لكنّ مثل تلك الاختلافات من شأنها أن تشكّك بـ"نظرية المشاعر الأساسية" التي أقرّها غالبية علماء النفس اليوم. يؤكد هؤلاء أن ثمة ستة مشاعر، أو نحو ذلك، تُعدَّد غالبًا على أنها: السعادة، الحزن، الغضب، الاندهاش، الاشمئزاز، والخوف. هذه مشاعر عالمية وفطرية؛ نتاج تطور طويل الأمد تحقق بشق الأنفس. أما المشاعر الأخرى فهي مركّبات من المشاعر الأساسية، أو ليست مشاعر على الإطلاق.
لاحظوا أن الحب ليس بين هذه المشاعر. ليس للحب تعبيرُ وجه قابل للتمييز، في حين أن كلًا من المشاعر الأساسية (كما يقول مؤيدو نظرية المشاعر الأساسية) يدل عليها تعبير وجه لا يتغير. قد تحاول بعض الثقافات أن تخفي ذلك التعبير، لكنه رغم ذلك سوف يتسرب من خلال "تعابير متناهية الصغر".
تعود "نظرية المشاعر الأساسية" إلى دراسة أجراها في الستينيات عالما النفس بول إيكمان، ووالاس في. فريزين، ليختبرا فرضيتهما القائلة بأن المشاعر تُفهم عمومًا "من الوجه". اختار إيكمان وفريزين عينتهما من أفراد قبيلة فور غير ذوي الطابع الغربي من بابوا غينيا الجديدة. في البداية، اكتفيا بعرض صور لوجوه اتخذت وضعيات لتعبر عن المشاعر الستة الرئيسية. لكن المستجيبين للاختبار من قبيلة فور لم يتمكنوا من استنتاج ما يُطلب منهم فعله. لذلك، كان على إيكمان وفريزين بداية أن يختلقا قصة لتلائم كل عاطفة. على سبيل المثال، كانت القصة المرتبطة بصور الوجوه التي تظهر عليها ابتسامة عريضة هي القصة التالية: "لقد أتى أصدقاؤه (أصدقاؤها)، وهو (هي) سعيد/ سعيدة". بعد سماع القصة، 100% من البالغين الخاضعين للتجربة من قبيلة فور اختاروا وجه السعادة بدلًا من الوجهين الآخرين اللذين يُظهران (أو بالأحرى يتخذان وضعية) الاشمئزاز، أو الغضب. وهكذا استمر الأمر ــ على نحو مماثل (وإن يكن أقل نجاحًا) مع العواطف الأخرى. استنتج الباحثان أن المشاعر ثابتة عبر الثقافات؛ أساسية وعالمية. وهذه الفكرة تكتسح مخابر علم نفس عديدة اليوم. كذلك، تشير الباحثة روث ليز في كتابها "صعود التأثير" (2017)، إلى أن هذه النظرية مغرية للعلماء على وجه الخصوص، لأنها تستبعد القصدية؛ التي هي شيء أكثر تقلبًا وفوضوية من أن يُقاس.
لكن العلماء الذين يستخدمون وجوهًا تتخذ وضعيات يغفلون حقيقة أن الدراسة الأصلية كانت مضطرة أن تُدخل القصدية ــ بواسطة القصص. ماذا كان تقصد السيدة ذات الابتسامة الكبيرة؟ أن ترحب بأصدقائها. القصة هي من أعطت الحياة للصورة الجامدة، لا تعبير الوجه في حد ذاته.
القصدية كامنة في صميم عاطفة الحب؛ ما يقصده الشخص عندما "يحب" أو "تحب" يجب أن يُعبَّر عنه بالكلمات، بنبرات الصوت والإيماءات. قد تلعب الوجوه دورًا، لكن ليس بالضرورة. قبل إيكمان وفريزين، كان الحب بكل تأكيد يُعدُّ عاطفة. وباستبعاده، كان عالما النفس يعارضان حقًا تقليدًا طويل الأمد لم يجعل الحب عاطفة فحسب، بل أحيانًا العاطفة الرئيسية كذلك. في القرن الرابع قبل الميلاد، كان الحب أحد العواطف الاثني عشر التي حددها أرسطو (رغم أنه عرف أنه بهذا كان يستبعد كثيرًا غيرها). في القرن الثالث عشر ميلادي، جعل القديس توما الأكويني الحبَّ المحركَ الأساسي لكل عاطفة. وفي الستينيات، صنفت ماغدا أرنولد، رائدة النظرية المعرفية، الحبّ كعاطفة "حافز" إيجابية. بالنسبة إلى كل أولاء المنظّرين، كان الحب مثالًا نموذجيًا لكل العواطف الأخرى.
اليوم، الاعتراض الرئيسي على فرضية المشاعر الأساسية يأتي بقيادة "البنائيين النفسيين"، من أمثال ليزا فيلدمان باريت، وجيمس أ. راسل. يناقش هؤلاء أن كلًا من العواطف والإدراكات المعرفية هي "مفهمات" (عمليات بناء مفاهيم). فبينما يراقب الدماغ البشري بيئاتنا الداخلية والخارجية، يفهم ما يلاحظه من خلال تعلم أنماط متكررة مع تصنيفاتها. في العالم المتحدث بالإنكليزية، يتعلم الدماغ ربطَ أحاسيس وعمليات تشكيل أفكار معينة بـ"الحب". في ثقافات أخرى، تتعزز أنماط مختلفة، مرتبطة بمشاعر وتصورات مختلفة، وبالتالي تُفهم وتُسمَّى على نحو مختلف.




تساعد البنائية النفسية في تفسير حيرة أفراد قبيلة فور عندما قُدمت لهم في البداية بعض الصور الفوتوغرافية. إنها أيضًا تؤيد اكتشافات علماء الأنثروبولوجيا القائلة بأنه، في ثقافات أخرى، لا تُصنَّف العواطف بشكل مختلف فحسب عمّا هي عليه في الغرب، بل كذلك "تُحَّس" بطرق يجدها أبناء الغرب غريبة. هكذا، كتب الأنثروبولوجي أندرو بيتي عن القلوب "المُشعِرة" لبعض أفراد قبيلة نِياس الذين تعرّف إليهم خلال رحلة ميدانية لسنتين في إندونيسيا. وفي كتابه "عوالم عاطفية" (2019)، يوضح بيتي كيف تفاوض طرفان على المهر استعدادًا لإتمام زواج باستخدام تعابير عاطفية عديدة غير مألوفة بالنسبة إليه: "نشعر بأننا ’بقلبين’"، نحن "ذابلو القلوب"، "لنكن "صافيي القلوب".
تأخذنا إسهامات البنائية النفسية شوطًا طويلًا يتجاوز فرضية المشاعر الرئيسية، لكنها تستبعد الغِراء الذي يربط الأحاسيس وعمليات تشكيل الأفكار: القصص. إن الفهم الذي يقوم به الدماغ لا يقتضي ببساطة قرْن المشاعر وربطها بالكلمات. إنه يتضمن إيجاد السرديات وخلقها. وهذه السرديات معطيات ثقافية، وهي، في الوقت ذاته، عمليات تشكيل مستمرة؛ إنها تخضع لتعديلات (في حياة المرء، في ثقافة المرء). وهي تبلور الأحاسيس، التجارب، الأفكار، والأفعال (أو على الأقل دوافع الأفعال). إن لها منحنى، ولها، وإن لم يكن دائمًا، بداية، منتصف ونهاية. أخيرًا، إنها تقتضي ضمنًا أحكام قيمة: على هذا النحو يجب عليك/ عليّ/ علينا أن نشعر في هذه الظروف؛ هكذا يجب أن نعبّر عن هذا الشعور. في المقابل، هذا الشعور، أو طريقة الشعور خاطئة، مكروهة، أو مخادعة.
إن القصص مخادعة، لأنها لا تكتفي بأن تجعل ما نشعر به مفهومًا، بل كذلك تشكّل تلك المشاعر، حتى ونحن نحاول جاهدين أن نقولبها وفق حاجاتنا المعينة وضروب فهمنا المعينة. بذلك المعنى، القصص أدواتُ سلطة بقدر ما هي مُنظِّماتٌ حيادية للأحاسيس والتجارب المتباينة التي تمرّ بحيواتنا.
يعثر علماء الأنثروبولوجيا أحيانًا على قصص الحب في الثقافات التي يدرسونها، لكن هذه القصص عمومًا مختلفة تمامًا عن القصص التي ترويها الثقافات الغربية؛ حتى عندما تكون السرديات الغربية (كما يحدث اليوم) قد تسربت إليها. يعود أثر الثقافة الغربية بلا شك إلى هيمنتها السياسية، العسكرية والاقتصادية. لكنه يرجع أيضًا إلى حقيقة أنها تستثمر قدرًا هائلًا من الفكر، الطاقة والعاطفة في الحب (love, amore, amour, amor, Liebe) (بالإنكليزية، الفرنسية، الألمانية)؛ كما هو واضح التعبير الإنكليزي مجرد بديل للبقية. يُعبَّر عن الحب بقلوب، يُنشَر على لوحات الإعلانات ("ستحبون الحبوب التي نصنعها")، يروَّج له على مواقع المواعدة، يُطبَع على بطاقات عيد الميلاد، ويُحتَفى به في عيد الحب "الفالنتاين". كذلك، يُظهر محرك بحث غوغل إنغرام (Ngram) في ما يخص كلمات "حب" و"غضب" منذ عام 1800 (مع كون الغضب العاطفة النموذجية عند كثير من علماء النفس) أن الحب يتفوق على كل شيء بالفعل، خصوصًا اليوم.

تواتر تعابير العواطف في الكتب المطبوعة منذ عام 1800


لا يزال العمل الحقيقي أمامنا. ماذا يعني الحب في الثقافة الغربية؟ قد تكون أرنولد على صواب في قولها إن الحب عاطفة "حافز"، لكن ذلك يبقى بلا معنى إلى أن نعرف ما الذي يثير الحافز، هدفه، كيف يُعاش ويُعبّر عنه، المشاعر المقترنة به، الصفقة الأخلاقية التي يطالب بها. وحتى بعد ذلك، علينا أن نسأل إن كان الجميع يتفق على أن الدوافع ذاتها، الأهداف، الأداء، المشاعر، والقيم الأخلاقية، مفعّلة في كل حالة.
كما أناقش في كتابي "الحب: تاريخ في خمس تخيلات" (2021)، الحب الغربي ليس ــ ولم يكن ــ شيئًا واحدًا، وما من شك في أن الأمر ذاته ينطبق على الثقافات الأخرى أيضًا. إذا كان جاكي ويلسون قد طار عاليًا بفعل الحب، فإن آخرين (في الفترة ذاتها تقريبًا) كانوا يغنون أن "الحب ليس سوى حزن". وإذا كان بعضهم (مثل بيرسي سليدج) يؤكدون أنه "عندما يحب رجل امرأة/ لا يستطيع أن يركز على أي شيء آخر"، فسيكون متعددو الشركاء سعيدين بأن لديهم أكثر من حبيب. مع هذا، يجد آخرون الحب في مكان آخر، في قصص أخرى. وهذه التنويعات تدل على أننا نعيش في جماعات عاطفية تثمّن العواطف، تستخدمها، تسيء استخدامها، وتتصرف بدافعها، بطرقَ تكون مفهومة بشكل رئيسي داخل تلك الجماعة.
بالتالي، لفهم القصص التي تلهم هذه الجماعات العاطفية العديدة، تفسّرها، وتبقيها على المسار الصحيح، من الأفضل إلقاء نظرة على المدى الطويل: التاريخ. وفعلُ هذا يعني الابتعاد عن الميل السائد الذي ينكر أن بوسع الماضي إلقاء الضوء على القلب والدماغ البشريين. لا يصيب هذا النزوع جمهور فرضية المشاعر الأساسية فحسب، بل كذلك، على الأقل كما يُناقش اليوم، البنائية النفسية التي حتى الآن لا تأخذ بعين الاعتبار المصدرَ الذي تستمد منه الارتباطاتَ المحيطة بين الأحاسيس ومفهماتها. إن أولياء الأمور الذين يربّون الطفل، وبالتالي يخلقون عالمه/ عالمها/ عالمهم العاطفي في النموذج البنائي النفسي هم أنفسهم نتاج جماعاتهم العاطفية. وهذه الجماعات العاطفية لم تُبنَ من لا شيء، بل بالأحرى خُلقت عبر الوقت من أجزاء من قصص، تجارب، وأداءات ماضية؛ أجزاء مقبولة، مرفوضة، أو معدَّلة، بدرجات مختلفة.
الماضي بلد آخر، لكنه في البداية قد لا يبدو شبيهًا أبدًا بالبلدان التي يزورها علماء الأنثروبولوجيا. لأن لدى الأنثروبولوجيين (مثل علماء النفس) بشرًا أحياءً أمامهم. أما المؤرخون إجمالًا فليس لديهم ذلك. كل ما لديهم هو الكتابات والمواد التي تركها البشر خلفهم. مع هذا، الفارق ليس كبيرًا جدًا كما يتخيل بعضهم. ليس لدى عالم النفس سوى ما يقوله له الشخص الخاضع للفحص، أو قد يرجع إلى صور أشعة دماغ ذلك الشخص، معدلات النبض، وما إلى ذلك؛ هذه أشياء لا تتحدث، وهي مثل ثقافة الماضي المادية، في حاجة إلى التفسير. حتى الحديث هو في أغلب الأحيان مبهم، ويُخفي بقدر ما يُظهِر. في مختبرات علم النفس، يخضع الحديث غالبًا لضبط وتوجيه عاليين، وذلك أيضًا له مشاكله. فمثلَ الخيار الإلزامي المعطى لأفراد قبيلة فور (ليقرروا القصة الملائمة للصورة من بين ثلاثة خيارات فقط: اشمئزاز، غضب، أو سعادة)، القيود تكبح العفوية. يفهم الأنثروبولوجيون العيوب المتأصلة في بيئة المختبر. لهذا، يعيشون مع أناس لسنوات عديدة ليتمكنوا من اكتشاف ما يقولونه، أو يفعلونه. مع هذا، من ناحيته بيتي، المتيقظ دائمًا لسياقات التعبير، يعترف أنه لم يكتشف قط ما كان أهل قبيلة نِياس يعنونه حين يقولون إنهم يمتلكون "قلبًا مُشعرًا".
إن عجز بيرسي سليدج عن التفكير بأي شيء ما عدا فتاته يرتبط بتقليد غربي يعود لزمن طويل جدًا: الحب بوصفه هوسًا. عرف أفلاطون ذلك النوع. تقام "المأدبة" خاصته خلال حفلة مع مجموعة ذائعة الصيت من الضيوف الذين ينتمون إلى جيل أسبق، بمن فيهم سقراط. الرجال في المأدبة (جميعهم رجال)، متخلّين عن عربدة السكارى المعتادة، وقد قاموا بصرف عازفات الناي، يتفقون على التناوب في الحديث عن طبيعة الحب. ومن الواضح أن النقاش كان ضمنيًا عن المزايدة في ما بينهم بقدر ما كان صراحة عن الإيروس (الحب الحسي، أو الشهوة)، ويبدو أنه ينتهي، كما هو متوقع، بحديث سقراط.
ثم، تمامًا عندما كانت المجموعة على وشك أن تتفرّق، يدخل شخص غير مدعو. إنه ألكيبيادس، ويكون في حالة سكْر شديد ومجنونًا بحب سقراط. هل تريد المجموعة أن تعرف ما هو الحب حقًا؟ يعرض ألكيبيادس أن يخبرهم. إنه شعور أن يقفز قلبك في صدرك، والدموع تجري على خديك. إنه يعني شعورك بالإعجاب، بالرغبة، وبإحباط لا نهائي. وهو يعني أنت تدرك مدى روعة محبوبك، وكيف أنك لا تستطيع أن تضاهيه قط. أن تتمنى ألا تشعر بأنك مرغم على الاستمرار في العلاقة، لكن عليك ذلك. أنت عبد. نعم! ألكيبيادس "ليس لديه فكرة عن ما عليه فعله، لا هدف في الحياة؛ أوه، لا أحد آخر عرف قط المعنى الحقيقي للعبودية".
ألكيبيادس هو خير مثال عن النوع الخاطئ من الحب، وفقًا لآراء جماعة أفلاطون العاطفية. حبه فوضوي ولا عقلاني. إنه يقلب الترتيب الصحيح رأسًا على عقب: في حالة حب الغلمان القديمة، يقع الرجل الأكبر سنًا في حب شاب صغير، يأخذه تحت جناحه، يعلّمه الأخلاق والشجاعة، و(نعم) يمارس الجنس معه، رغم أنه عمومًا ليس بالإيلاج. لكن ألكيبيادس هو الشاب الوسيم وسقراط هو العجوز القبيح. والأسوأ من ذلك، أن نوع الحب الذي يشعر به ألكيبيادس، والذي يُعد فاضلًا في حالة المرأة ــ فكروا مثلًا ببينيلوبي التي بكت لعشرين سنة وهي تتنظر عودة زوجها أوديسيوس ــ يُعد سخيفًا في حالة الرجل. على الرجل أن يتحكم بأهوائه، أما ألكيبيادس فأهواؤه تقوده.
في سياق العالم القديم، حيث كان لرجل مثل ألكيبيادس كثير من العبيد، وكان مذلولًا ليشعر مثل عبد، كان الحب الهوسي يُعد إحراجًا، والعاشق المهووس أحمق. عمّم بيرسي سليدج مشاعره ــ "عندما يحب رجل" تعني "عندما يحب أي رجل" ــ لأنه يعرف أن جمهوره سيتماهون معه بابتهاج. لكن ما من رجل في العالم القديم سيبتهج لشعوره بمثل شعور ألكيبيادس. لم يكن ألكيبيادس رجلًا طبيعيًا، بل رجلًا مريضًا، إنه الصورة المعاكسة لنوع الحب الصحيح ــ النوع الذي يتجاوز الجسد والجمال البشريين ــ الذي كان سقراط قد قدمه لتوه في حديثه.




لكن الآن إذا ذهبنا بسرعة للأمام إلى جنوب فرنسا في القرن الثاني عشر، عندما كان وجودك في خدمة شخص آخر امتيازًا للنُخب، وكانت كلمات الحب تصف العلاقات بين السادة والأتباع. في ذلك السياق، بوسع برنار دو فينتادورن أن يغني بسعادة أنه:
أفضل من شعراء التروبادور الآخرين،
لأني مشدود أكثر للحب
ومعدّ أفضل لأكون تحت أمره.

إنه سعيد بأن يكون عبدًا للحب، رغم أن محبوبته (كما يخبرنا) غير مهتمة به أكثر من اهتمام سقراط بألكيبيادس. إنه حقًا يعتز بعبوديته، يتباهى بطاعته، مهما كانت الظروف:
أيتها السيدة الجميلة، لا أطلب منك شيئًا على الإطلاق
سوى أن تجعليني خادمك.
في أغاني هذا التقليد، الحب الهوسي مؤلم؛ إما لأنه غير متبادل، أو لأن السيدة (أو السيد) بعيدين. لكنه مع هذا يجعل العاشق سعيدًا. إن ألكيبيادس تعيس لأنه أدرك أنه لن يضاهي سقراط قط. لكن بالنسبة إلى برنار، شعور الحب بذاته دليل على فضيلته. إنه يضاهي لأنه يحب. إنه سعيد بكون تعيسًا.
لكن في القرن الثامن عشر، عندما لم يعد كونك في خدمة آخر يحظى بتقدير عال، باتت سردية الحب الهوسي أكثر قتامة. في رواية يوهان فولفغانغ فون غوته "آلام الشاب فرتر" (1774)، يكون البطل الذي تحمل الرواية اسمه واقعًا في حب لوته بلا أمل. إنه يفكر باستمرار في أنه سيغطيها بالقبل لو كانت معه. ولا يتوقف قط عن ارتداء الزي الذي كان يرتديه في لقائهما الأول، وعندما يهترئ الزي، يقتني واحدًا آخر مطابقًا له. لوته تسيطر على كامل مخيلته. إنه يحبها "وحدها"، بعاطفة وبكليّة تجعله لا يعرف شيئًا سواها. إنه مجنون، مثل ألكيبيادس، لكنه يعتز بذلك الجنون. وعندما يقتل نفسه، يفعل ذلك لأنه على المرء أن يفعل المستحيل لأجل الحب.
"المأدبة"، قصيدة برنار، فرتر: هذه أعمال تخييلية. إنها "مختَلقة"، ولهذا قد تبدو أقل واقعية من (مثلًا) استجابات المشاركين في استبيان عالم نفس. لكن، كما اكتشف إيكمان وفريزين، حتى القصص المختَلقة لها تأثير في عالم الواقع. كتب أفلاطون لجمهور من الفلاسفة. (رغم أنه في وقت لاحق، سيغدو توصيف سقراط للحب في "المأدبة" نموذجًا لعلماء الدين الكاثوليك). شعراء التروبادور رفّهوا عن نبلاء الجنوب الفرنسي، وشكّلوا شعر الحب في إسبانيا، إيطاليا، إنكلترا وألمانيا. فرتر كان النموذج المشؤوم لكثير من حالات الانتحار بين الشباب في القرن الثامن عشر. وأغنية بيرسي سليدج لامست ما يكفي من الناس لجعلها الأغنية رقم واحد عام 1966. إن الحب الهوسي اليوم يردّد صدى كل هذه التقاليد.
لكن، كما لاحظنا في بداية هذه المقالة، الحب الهوسي ليس فكرة ــ الشعور الوحيدة للحب اليوم، ولم يكن كذلك في الماضي. لنفكر بالمعاكس له تقريبًا، تعدّد الشركاء. تحدث أفلاطون سلفًا عن هذا على هيئة حديث لباوسانياس الذي قارن بين نوعين من الحب. النوع الجدير بالتقدير كان مرتبطًا كليًا بشريك واحد لمدى الحياة (رجل آخر، حسب رأيه). النوع الآخر الذي كان "مشينًا" ينتقل من شخص إلى آخر؛ أو حتى إلى نساء!
لكن، ما لم يكن مشينًا هو رأي كل الناس في العالم القديم بهذا النوع من الحب. ففي نهاية المطاف، قيل إن الآلهة كانت تقع في الحب واحدًا بعد الآخر. كذلك، على الأواني التي يملكها الإغريق القدماء المحترمون للغاية (ولاحقًا، على جدران الرومان المحترمين للغاية)، صُوّرت كائنات الساتير وهي تلهو بمرح مع الحوريات. في القرن الأول قبل الميلاد، كتب أوفيد بسعادة عن البهجة الكبيرة المرافقة للوقوع في الحب، التخلص من الحب، والمضي قدمًا. لكن في القرن التالي، ألغت الكنيسة المسيحية ببساطة هذا النوع من الحب. لم يكن حبًا في نظرها. أفضل نوع من الحب كان حب الله. وثاني أفضل حب هو الحب في الزواج. كل ما عدا ذلك كان يُعد شبقًا.
لم يتفق شعراء الحب في العصور الوسطى مع رأي الكنيسة. وفي تلك الحقيقة بالذات، نرى تنوع الجماعات العاطفية القروسطية. إنها حتى تبدو أكثر وضوحًا في القرن السادس عشر، عندما كانت المشاعر التعددية في أوجها. يعود هذا في جزء منه إلى تأثير الموقف الأوروبي من الغزوات على منطقة "عذراء"؛ الأميركيتان كانتا ناضجتين للقطف مثل عشيقة، وكان الاكتشاف رائجًا للغاية. كذلك، كان هذا في جزء منه نتاج تراخي قبضة الكنيسة؛ كان مديح "الشبق" وممارسته طريقة جيدة للاحتجاج على تضييقاتها. وما لا يقل أهمية عن ذلك كان الاستحسان الجديد الذي شهده عصر النهضة للأدب والفن القديمين، وكلِّ التعدد الذي يبدو أنهما ينطويان عليه (ناسين في عصر النهضة أن كثيرين في العالم القديم اتفقوا ضمنيًا مع باوسانياس). أخيرًا، أفادت المطابع، كما تفعل وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، في ترديد صدى أفكار ــ مشاعر الأقلية وتضخيمها.
هكذا، احتفى الساخر دائمًا بييترو أريتينو (1492 ــ 1556) بالعشاق العديدين لمحظية تُدعى نانّا. كان لنانّا أسطول من العشاق في دير، ثم أتت الغيرة على واحد منهم، وكان على وشك سلخ جلدها وهي حية. لكن أمها تنقذها، لتجد لها زوجًا. بعد ذلك، ومثل كل الزوجات الأخريات، تتخذ نانّا لها بسعادة عشاقًا كثيرين، تجد أكثرهم خصوصًا بين الرهبان ورجال الدين. في النهاية، تصبح محظية، لتحظى بأفضل حياة على الإطلاق؛ ليس في وسعها أن تحب كل الرجال الذين يعجبونها فحسب، بل كذلك تكسب المال.
إن التعدد اليوم لا يعتمد على قصة ساخرة. بالأحرى، هو مبني (من بين أشياء أخرى) على أفكار الذات الجنسية التي طورها سيغموند فرويد وآخرون في مطلع القرن العشرين؛ على علم الهرمونات الذي اكتُشف في الوقت ذاته تقريبًا؛ و(في بعض المناطق) على فكرة أن البالغين المؤيدين للتعدد قد ينظمون حيواتهم الحميمة كيفما يريدون. لكن، حتى اليوم، ينطوي التعدد على لمسة تمرد ضد معايير الأكثرية.
لا تأتي المشاعر معلّبة مسبقًا في صناديق عليها لصاقاتُ أسماء مثل "حب". إنها تأتي في مركّبات غير مرتبة يجب أن توضع ضمن سردية لكي تكون مفهومة. بعض تسلسلات المشاعر تأتي من داخلنا، ربما تمليها هرموناتنا، لكنها على الأكيد تتأثر بطرقنا الفردية في التفكير والتصرف. لكن كثيرًا منها تأتي من الخارج، من السرديات التي نسمعها ونراها ونقرأها. ما هو الحب؟ الأمر كلّه يكمن في القصة.

باربرا إتش. روزينواين: مؤرخة وأستاذة فخرية في التاريخ في جامعة لويولا في شيكاغو. باحثة في "مركز تاريخ العواطف" في جامعة الملكة ماري في لندن. من كتبها: "الغضب: تاريخ العاطفة المتضارب" (2020)، و"الحب: تاريخ في خمس تخيلات" (2021).

النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/to-understand-what-love-is-read-the-stories-that-history-tells