Print
أندريه بونتزِنْ

لماذا لن تنجح الفيزياء في بلوغ نظرية نهائية للكون؟

26 يوليه 2024
ترجمات
ترجمة: لطفية الدليمي

إنَّهُ لأمرٌ شاقٌّ للغاية أن نستخدم مفردات لها القدرة على كشف مبلغ اتِّساع هذا الكون: مئاتُ البلايين من النجوم في مجرَّتنا، وفي الأقلِّ ثمَّة مليارات المجرَّات في الكون. لكن بقدر ما يختصُّ الأمر بالكوسمولوجي (المختصِّ بالفيزياء الكونية) فهنالك أمرٌ آخر أبعد مدى وأكثر إثارة للتفكُّر من الاكتفاء بتأمُّل هذه الأعداد الهائلة من النجوم والمجرَّات في الكون. يكمن هذا الأمر في التساؤل بشأن كيفية نشوء تلك النجوم والمجرَّات خلال مدى زمني يقاربُ 13.8 بليون (مليار) سنة.
هذه حقًّا هي المغامرة الكونية الكبرى التي جرت وقائعها قبل نشوء التاريخ البشري الكلاسيكي المعروف بأطواره المعهودة. لنتأمَّلْ في هذه المتسلسلة الشرطية من الوقائع: الحياة (البيولوجية) لا يمكنُ أن تتطوَّر من غير وجود كوكب، والكواكب لا تتشكَّلُ من غير نجوم، والنجوم تنشأ وسط مجرَّات، والمجرَّات لن تنشأ في غياب كونٍ داعم لها يُشترطُ فيه أن يكون ذا تكوين هيكلي عظيم التعقيد. أصولنا الأولى مكتوبة في كتاب الكون، وأفضلُ ما نستطيعُ تعلُّمه هو كيفية قراءة محتوى هذا الكتاب الكوني.
بدا الأمر في زمن سابق (ابتداءً من عصر النهضة الأوروبية وشيوع العقلانية والفلسفة الإنسانية ــ المترجمة) كما لو أنَّ الكون بكلِّ تعقيده الهائل يمكن فهمه فهمًا كاملًا عبر تطبيق عدد محدود من القوانين الفيزيائية الصارمة. وظَّف نيوتن هذه الفكرة وصاغها في قانون رأى فيه القدرة على بيان كيفية سقوط التفَّاح من أشجاره نحو الأرض، وكيفية دوران الكواكب في مدارات كوكبية حول الشمس.
أبان نيوتن أنَّ السبب وراء هذه الظواهر قوَّة واحدة هي الجاذبية Gravity. هذا النوع من التوحيد المتطرِّف للظواهر الأرضية والسماوية (الكونية) لم يزل شائعًا في تعليم الفيزياء الحديثة على مستوى المدارس الثانوية والجامعات: كلُّ الأعداد الهائلة من الجزيئات والذرَّات والجسيمات دون الذرِّية في الكون يُتوقَّعُ منها الخضوع لذات المجموعة من القوانين (النيوتنية) الكلاسيكية. تقودنا معظم الشواهد إلى أنَّ هذا الافتراض صحيحٌ وينطبق على الحالات الكلاسيكية المعروفة؛ لذا فإنَّ النتيجة المنطقية التي سنقبلُ بها هي أنَّ سعينا البشري لإكمال فهمنا لهذه القوانين الكلاسيكية أمرٌ من شأنه بالضرورة أن يقودنا لحلِّ كلِّ المعضلات المتبقِّية من غير حلٍّ حتى الآن في ما يخصُّ التاريخ الكوني.
لكن برغم هذا الجمال المفاهيمي للافتراض السابق، فإنَّ الأمر لا يعدو أن يكون مغالطة منطقية Logical Fallacy. حتى لو كان في مستطاعنا تخيُّلُ إمكانية اكتشاف الإنسانية يومًا ما "نظرية كلِّ شيء Theory of Everything" التي تستطيعُ توحيد كلِّ الأجسام والقوى المفردة في صياغة رياضياتية موحَّدة، فإنَّ القدرة التفسيرية لهذه النظرية في ما يخصُّ الكون باعتباره كينونة واحدة من المتوقَّع أن تبقى هامشية. على امتداد القرن العشرين كلِّه، وبرغم أنَّ فيزياء الجسيمات كشفت عن كثير من أسرار الذرَّات فقد كان واضحًا أنَّ السلوك الفيزيائي الشامل الذي نختبره على المستوى الكبير Macro Level لا يمكن فهمه من خلال التركيز الحصري على الأجسام المفردة (بمعنى أنَّ سلوك المنظومات الكبيرة لا يمكن دراسته بطريقة اختزالية عن طريق دراسة سلوك الأجسام المفردة المكوِّنة لتلك المنظومة كلًّا على حدة ــ المترجمة).
تقدِّمُ لنا الحشرات ذات السلوك الاجتماعي المميَّز على هذه الأرض مثالًا مفيدًا. من المعروف أنَّ جيش النمل على سبيل المثال يتَّخذ شكل سرب يبحث عن مستعمرات الفرائس التي سيفترسها النمل في ما بعد. عندما يشكِّلُ النمل سربًا فإنَّه يعمدُ إلى القيام بحركات غريبة مدهشة بقصد المشاركة وتكوين فعل جمعي يسعى لتطويع أجساد النمل من أجل تمهيد الطريق أمام السرب القادم، وقد يبلغ الأمر أحيانًا مبلغ أن يقيم بعض النمل في الجبهات المتقدِّمة للسرب جسورًا لعبور النمل في المناطق غير الممهَّدة أو الحاوية على عوائق.




هذا السلوك الجمعي للنمل قد يقودُ البشر إلى تصوُّر مستعمرة للنمل يقودها عقلٌ مدبِّرٌ يرسمُ استراتيجياتها الساعية لبلوغ الفرائس بأكثر الطرق كفاءة؛ لكنَّ الدراسات البحثية المعمَّقة أثبتت عدم وجود مثل "صانع السياسات" هذا في مستعمرات النمل. يوجد أفرادٌ من النمل فحسب، يتبعون قواعد بسيطة لا تتغيَّر من قبيل أن يعمل النمل على تشكيل جسر متى ما حصل ضغط متزايد من أفراد النمل تجاه مقدَّمة السرب حتى يبلغ الضغط حدًّا محدَّدًا، حينها يفهم النمل في الطلائع المتقدِّمة من السرب ضرورة بناء جسر من أجساد النمل لعبور عائق، ومتى ما عبر كلُّ النمل في السرب يعمل بناة الجسر من النمل على تفكيكه!!
التعقيد الجلي في هذه العملية ينبعُ من حقيقة الأعداد الكبيرة التي تتبع هذه القواعد البسيطة، وهذا هو ما أشار إليه الفيزيائي فيليب أي. أندرسون/ Philip A. Anderson بتعبيره البلاغي الفخم "الكثرة تصنعُ الاختلاف/ More is Different".
النظام الشمسي ــ وهو النظام الذي يبدو التمثُّل الأعظم للقدرة البشرية على التنبُّؤ بحركاته مثلما نفعل مع ساعة ميكانيكية ــ سنعجز عن تحديد مستقبله البعيد للسبب السابق في مثال مستعمرة النمل. عندما نتعاملُ مع مكوِّنات النظام الشمسي كلًّا على حدة، وليكن كوكبًا منفردًا؛ فإنَّ هذا الكوكب سيكون له مداره المحدَّد حول الشمس (وهي الأخرى نجم منفرد بذاته)؛ لكنَّ واقع الحال يخبرُنا بوجود كواكب كثيرة كلٌّ منها له تأثيره المباشر ــ مهما كان طفيفًا وغير منظور ــ على الكواكب الأخرى. ما يحصلُ مع تراكم الزمن أنَّ سلسلة من هذه التغيُّرات (التأثيرات) الصغيرة سينتجُ عنها تأثير كبير ربما لن يكون في مستطاعنا التنبُّؤ به بواسطة حساباتنا الكلاسيكية.
ربما تستطيع الحواسيب، وإلى حدود محسوبة محدَّدة، أن تأخذ على عاتقها عبء النهوض بهذه الحسابات عبر محاكاة هذه النتيجة الجمعية غير المتوقَّعة بالاستعانة بقدرتها الفائقة على تجميع التأثيرات الصغيرة مستخدمة نمطًا من الحوسبة/ computing السريعة والموثوقة. تكمن المعضلة في مثل هذه المحاكاة الحاسوبية/ Computer Simulation أنَّ نتائج عمليات المحاكاة المختلفة لا تتَّفق مع بعضها. تتنبَّأ بعض هذه المحاكاة أنَّ النظام الشمسي سيبقى مستقرًّا بغضِّ النظر عن فعل التغيُّرات الصغيرة المستمرَّة؛ في حين ترى نتائج محاكاة أخرى أنَّ كوكب المشتري بعد بضعة بلايين من السنوات قد يتَّخذ مسارًا يجعله يتصادم مع كوكب عطارد، أو حتى قد ينقذف بعيدًا خارج المجموعة الشمسية نحو الفضاء العميق.

يقيم بعض النمل في الجبهات جسورًا لعبور النمل في المناطق غير الممهَّدة أو الحاوية على عوائق (Getty)


عمليات المحاكاة الحاسوبية للنظام الشمسي لا تتَّفق في ما بينها، لأن ليس في مستطاع محاكاة احتسابية منفردة لوحدها التعاملُ بشكل كامل وتام مع كلِّ المؤثِّرات؛ بل حتَّى أنَّ عدم الاتفاق بشأن قيمة المؤثِّرات الصغيرة في النظام الشمسي، وبصرف النظر كم يبلغ الاختلاف من ضآلة قد تبدو تافهة وغير مؤثِّرة؛ فإنَّ هذا الاختلاف البسيط قد يقود إلى نتائج عظيمة الاختلاف. هذا المثال الكوني هو أحد التطبيقات العملية لظاهرة مهمَّة تدعى الفوضى (الشواش) Chaos، وهي ظاهرة مدهشة ومثيرة للقلق في الوقت ذاته: مثيرة لأنَّها تكشفُ لنا أنَّ النظم الكوكبية يمكن أن تعرض سلوكًا أكثر غنى وإدهاشًا ممَّا يفترضه قانون الجاذبية النيوتني البارد والمفتقد إلى حرارة الدهشة والانبهار. أمَّا كونها باعثة على القلق فلأنَّ النظام الشمسي عندما يكون نظامًا فوضويًّا وغير قابل للتنبُّؤ الدقيق بمآله المستقبلي فستكون هذه الحقيقة كابحًا لكلِّ جهودنا الحثيثة وفضولنا البشري في معرفة ما الذي يجري خارج حدود هذا النظام، وأعني بذلك الكون بأكمله. ستبدو دراسة الكون وفهمه محاولة أقرب للعبث غير المجدي وغير المنتج.
تفكَّرْ مليًّا في المجرَّات الكونية. كلُّ واحدة منها هي في المعدَّل تعادلُ عشرات ملايين الأضعاف من حيث حجمها الشاسع بالمقارنة مع نظامنا الشمسي، وهي متباينة كثيرًا بينها في ما يخصُّ الأشكال والألوان والأحجام. أيَّةُ محاولة من جانبنا ككائنات بشرية لفهم الكيفية التي جعلت هذه المجرَّات على هذه الحالة من التباين في ما بينها تتطلَّبُ على الأقلِّ فهمًا مقبولًا لكيفية نشوء النجوم التي تتشكَّلُ منها تلك المجرَّات، فضلًا عن معرفة من أين جاءت تلك النجوم. هنا تنشأ المعضلة الفوضوية. إنَّ تشكُّل النجم عملية فوضوية حيث تتكاثفُ سحبٌ من الهيدروجين والهليوم ببطء في ما بينها تحت تأثير الجاذبية، وليس في حيازتنا اليوم حاسوب فائق القدرة (سوبر عملاق) يستطيعُ متابعة تطوُّر كلِّ ذرَّة من الذرَّات الـ 1057 (واحد وأمامه سبعة وخمسون صفرًا!!) التي تكوِّن النظام الشمسي لوحده. وحتى لو افترضنا قدرة عُدَّتنا الحاسوبية على النهوض بهذه المهمَّة العسيرة، وعلى افتراض جدوى مثل هذه الحسابات فإنَّ ظاهرة الفوضى ستعمل على تعظيم تأثير التغيُّرات الصغيرة على نحو حثيث يكبح قدرتنا على بلوغ نتائج محدَّدة حاسمة. لو بقينا ملتزمين بصرامة قوانين الفيزياء الكلاسيكية عند دراستنا ومحاولتنا فهم الكون فهذه هي نهاية الطريق!! لن نبلغ نتيجة حاسمة أبدًا.




نتناول الآن الحواسيب ذاتها وعمليات المحاكاة فيها. لو أردنا إتمام عملية محاكاة حاسوبية لنظامنا الشمسي، أو لمجرَّة، فيتوجَّبُ علينا التعاملُ مع أعداد هائلة من الجزيئات: نَصِفُ كيف تتحرَّك كل جزيئة منها، وهي في مجاميع كبيرة، وكيف تدفع جزيئة أخرى، وكيف تنتقل الطاقة بينها، وكيف تتفاعل كل جزيئة مع الضوء والإشعاع... إلخ. يتطلَّب هذا الفعل (الملحمي) منَّا أن نكون خلَّاقين، ونُبدي قدرات بارعة في إيجاد طرق من شأنها وصفُ ماهية عدد من العمليات المختلفة. لا مفرَّ في النهاية من اعتماد محاكاتنا الحاسوبية ــ بالضرورة ــ على حسابات تخمينية لخبراء متى ما تناولت المحاكاة الثقوب السوداء، والمجالات المغناطيسية، والأشعَّة الكونية، فضلًا عن المفهوميْن اللذين لم نفهمهما فهمًا مقبولًا حتى اليوم: المادَّة المظلمة Dark Matter، والطاقة المظلمة Dark Energy اللتان تبدوان وكأنَّهما تتحكَّمان بالهيكل الكوني برمَّته.
تبدو المجرَّات في التحليل المعمَّق أدنى من آلات، وأقرب إلى حيوانات (بمعنى كائنات بيولوجية واعية شديدة التعقيد ــ المترجمة)، عصيَّة على الفهم العميق والمفصَّل، تستحقُّ الدراسة المكثَّفة التي تأتي دومًا بعوائد ذهنية ثريَّة؛ لكن في كلِّ الأحوال لا يمكن التنبُّؤ بسلوكها وتطوُّرها اللاحق إلا على نحو جزئي ضيِّق. إنَّ القبول بهذه الحقيقة يتطلَّبُ انزياحًا في منظورنا الكوني، ورؤيتنا لطبيعة النظرية الفيزيائية؛ لكنَّ هذا الانزياح المفاهيمي، ومهما بدا صعبًا وقاسيًا فإنَّه سيجعلُ رؤيتنا الكونية أكثر غنى وثراءً من ذي قبلُ.

قراءات إضافية:
ــ The End of Everything by Katie Mack (Penguin)
ــ Simulating the Cosmos by Romeel Davé (Reaktion)
ــ The Disordered Cosmos by Chanda Prescod-Weinstein (Public Affairs)


هوامش:
(*) أندريه بونتزِن Andrew Pontzenبروفيسور الفيزياء الكونية (الكوسمولوجيا) في الكلية الجامعة University College بلندن. مساهم نشط وكاتب مقالات علمية في مجلات علمية عديدة منها New Scientist. آخر كتبه المنشورة هو The Universe in a Box: A New Cosmic History،  نُشِر عام 2024. 
(**) الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 24 تموز/ يوليو 2023 ضمن سلسلة The Big Idea الأسبوعية. العنوان الأصلي للمادة المنشورة باللغة الإنكليزية هو:
Why the laws of physics will never explain the universe?