Print
إسكندر حبش

مارغريت دوراس و"مسارات كتابة": في تحرير الكتاب من مؤلفه

3 يوليه 2024
ترجمات

 

يُشكل الحوار المترجم هنا، مع الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس، الفصل الثالث من كتاب "الشغف المعلق" (La Passione sospesa)، الذي كان صدر العام 1989، عن منشورات (La Tartaruga) في إيطاليا، وهو جزء من سلسلة حوارات أجرتها يومها صحافية إيطالية شابة تدعى ليوبولدينا بالوتا ديللا توري مع "سيدة الأدب الفرنسي" (يومذاك). كتاب يدور حول الكتابة والطفولة والأدب والسينما، وغيرها من المناخات والموضوعات التي شغلت دوراس طيلة حياتها، لتتحدث فيه بصراحة مطلقة، معطية آراءها في كلّ ما يشكل هذا الفضاء الذي تحركت ضمنه. وقد أثار هذا الكتاب يوم صدوره، الكثير من التعليقات والمقالات الصحافية التي، أقل ما قالت فيه، إنه "كتاب ممتع" و"مليء بالشغف".

كانت دوراس يومها في الخامسة والسبعين من عمرها، وتتمتع بوضوح عقلي واضح، بمعنى أن العمر لم يكن قد مارس تأثيره عليها بعد. أجوبتها واضحة جدًا، وتذهب عميقًا إلى قلب عملها وتفكيرها ورؤيتها للثقافة والكتابة والسينما، وكل ما شغلها طيلة حياتها. لهذا تأتي شروحاتها لتشير إلى تناقضات شتى، هي تناقضاتنا نحن لا هي. ومع هذا الوضوح في الإجابات، ثمة تدفق في الكلام، وكأن كل شيء واضح أمام عينيها وفي عقلها.  

فصول عدة تنتظم في هذا الكتاب، لتقدّم لنا صورة بانورامية عن واحدة من أكثر الكاتبات الأوروبيات إشكالية، من حيث أسلوبها وموضوعاتها وطريقتها في العمل، كذلك الروابط التي توحّد الواقع والإبداع والمتخيل. لهذا يأتي الكتاب وكأنه مكمل أساسي لفهم عمل دوراس نفسه بشكل أفضل، لذلك، على الرغم من أنه غير متساوٍ بعض الشيء، ربما (لكن كل هذا يتوقف على اهتمامات القارئ)..




الفصل الذي نترجمه، بعنوان "مسارات كتابة":

  • ما هي الأسباب التي دفعتك إلى الكتابة؟

الحاجة إلى استعادة شيء ما على الورقة البيضاء، شعرت بإلحاحها من دون أن أمتلك القوة للقيام بذلك بشكل كامل. كنت أقرأ كثيرًا في ذلك الوقت، وكان من المحتم أن أندفع إلى الكتابة لدرجة أنني لم أكن على دراية بكلّ ما أثر بي. فقط، مع الكتاب الثاني، نبدأ نرى بوضوح اتجاه كتابتنا، من خلال الانفصال البطيء عن الانبهار الذي تمارسه علينا فكرة الأدب.

  • كيف بدأت؟

في الحادية عشرة من عمري، كنت أعيش في كوشينشين، كانت الحرارة، تصل كل يوم، إلى ثلاثين درجة في الظلّ. كتبت قصائد – بهذا نبدأ دائمًا – عن العالم، عن الحياة التي لم أكن أعرف عنها شيئًا.

  • يعود تاريخ كتابك الأول، الوقحون Les Impudents، إلى عام 1943. كان عمرك تسعة وعشرين عامًا.

كان يتحدث عن الكراهية التي شعرت بها تجاه أخي الأكبر. لقد أرسلت المخطوط إلى ريمون كونو – لم أكن أعرفه – الذي كان يعمل في غاليمار. دخلت مكتبه وأنا مرتبكة، لكنني كنت واثقة من نفسي. كان الكتاب قد رُفِض من قبل جميع الناشرين الآخرين، لكنني كنت متأكدة من أنه سيتم قبوله هذه المرة. لم يقل كونو إنه جميل، بل قال ببساطة وهو يرفع ناظريه، "سيدتي، أنت كاتبة". في العام التالي نشر كتاب "الحياة الهانئة". كان مبنيًا بشكل سيء للغاية، وبواقعية قوية، وساذجًا للغاية.

لغاية كتاب "موديراتو كانتابيلي"، بدا الأمر كما لو أنني لا أطلع على الكتب التي كتبتها. لا تزال كتب مثل "سدّ على الباسيفيكي" أو "مهور تاركينيا" كتبًا ممتلئة للغاية، حيث قيل فيها الكثير. لا شيء متروك لخيال القارئ. قد تكون هناك علاقة مع ما أعتبره الآن مرحلة النضج الخاصة بي، إذا لزم الأمر مع جوانب معينة من "بحار جبل طارق": امرأة تعيش في انتظار البحار اللانهائي، بحب لا يمكن الوصول إليه. شيء مشابه جدًا لما أكتبه الآن.

لسنوات، كنت أمتلك حياة اجتماعية، وانعكست السهولة التي التقيت بها مع الناس أو تحدثت معهم في كتبي. لغاية أن عرفت رجلًا، وشيئًا فشيئًا، اختفت كلّ هذه الأمور الدنيوية. لقد كان حبًا عنيفًا، مثيرًا للغاية، أقوى مني، لأول مرة. حتى أنني أردت أن أقتل نفسي، وقد غيرت طريقتي في صنع الأدب: كان الأمر أشبه باكتشاف الفراغات، والثقوب التي كانت في داخلي، وإيجاد الشجاعة لقولها. كانت الزوجة في كلّ من "موديراتو كانتابيلي" و"هيروشيما حبي"، هي أنا: كنت منهكة من هذا الشغف، الذي لا أتمكن من الاعتراف به شفهيًا، لذا قررت أن أكتبه، ببرودة تقريبًا.

  • في عام 1950، جاء دور "سدّ على الباسيفيكي"، الكتاب الفعلي عن مراهقتك.

وهو أيضًا الأكثر شعبية، الأسهل. بيعت منه خمسة آلاف نسخة. كان كونو متحمسًا، مثل طفل، وقد قام بدعاية كبيرة له، وكدت أفوز عنه بجائزة غونكور. لكنه كان كتابًا سياسيًا مناهضًا للاستعمار، وفي ذلك الوقت لم يكن تمنح الجوائز للشيوعيين. حصلت عليها بعد أربعة وثلاثين عامًا، مع "العشيق" الذي يتناول أيضًا الموضوعات عينها: حياة المستعمرات الفقيرة، والجنس، والمال، والحبيب، والأم والإخوة.

  • ما الذي شعرت به وأنت تكتبين "العشيق"؟

شعرت بسعادة ما. لقد خرج الكتاب من العتمة – العتمة التي تركت فيها طفولتي – وكان خاليًا من النظام. سلسلة من الحلقات غير ذات الصلة وجدتها وتركتها من دون توقف، من دون الإعلان عنها، من دون البحث عن خاتمة لها.

  • ما الذي دفعك إلى سرد هذه القصة التي تعرفينها بنفسك على أنها لا توصف؟

دفعني المرض والإرهاق، اللذين كنت أتعافى منهما، إلى العودة إلى نفسي بعد فترة طويلة. إنه أكثر من إلهام، أفضل أن أرى فيه الشعور بالكتابة. "العشيق" هو نص جامح: وهذا الجانب الوحشي الذي لديّ في داخلي، إنه يان أندريا في كتابه M.D. الذي جعلني أكتشفه.

  • هل ثمة شخصيات ومواقف في الرواية تتوافق مع الواقع؟

كان عليّ أن أكذب لسنوات حول العديد من قصص الماضي. كانت والدتي لا تزال على قيد الحياة، ولم أكن أريدها أن تعلم أشياء معينة. بعد ذلك، وذات يوم، كنت وحدي فقلت لنفسي: لماذا لا أقول الحقيقة الآن؟ كلّ شيء في الكتاب صحيح: الملابس، غضب أمي، الطعام الحلو الذي جعلتنا نبتلعه، سيارة الليموزين الصينية.

  • حتى المال الذي كان يعطيك إيّاه؟

كنت أشعر أنه من واجبي أن آخذها من ملياردير وأعطيها للمنزل. كان يقدم لي الهدايا، ويدعونا جميعًا إلى أغلى مطعم في سايغون. على الطاولة، لم يكن أحد يوجه له الكلام، كانوا عنصريين بعض الشيء، في المستعمرات، وقالت عائلتي إنها تكرهه. بالطبع، عندما يتعلق الأمر بالمال، كانت تغض الطرف. على الأقل لن نضطر إلى بيع الأثاث أو رهنه لنأكل.

  • هل من ذكريات أخرى عن هذا الرجل؟

لم يكن يعجبني جسده الصيني، لكنه جعل جسدي يحظى بالمتعة. وهذا هو الشيء الوحيد الذي اكتشفته يومها.

  • قوة الرغبة؟

نعم، بشكل كامل، يفوق الإحساس، بطريقة غير شخصية، عمياء. لم يستطع أن يخبر نفسه. لقد أحببت، في هذا الرجل، حبه لي وهذه الإثارة الجنسية، التي كانت تتأجج في كلّ مرة بسبب هذا الإبهام العميق.

  • بيعت مليون ونصف مليون نسخة من "العشيق" في فرنسا وحدها. تُرجم إلى ستّ وعشرين لغة. كيف تفسرين هذا النجاح الهائل؟

أعتقد أن ناشري جيروم ليندون قد طبع، في البداية، خمسة آلاف فقط! في غضون أيام، استنفدت كلها بالفعل. في غضون شهر، ارتفع العدد إلى عشرين ألفًا وتوقفت عن الاهتمام بالأمر. تركته هناك، من دون الرجوع للأمر مرة أخرى، مثلما أفعل دائمًا. قيل لي إن الحب موضوع يضمن النجاح. لكن لم يكن هذا ما كان يدور في خلدي عند كتابته. كنت متأكدة تمامًا من الملل أو الإزعاج الذي سيصيب بعض القراء بسبب الموضوعات التي عالجتها. في أيّ حال من الواضح أنني لم أتوقع أنه من خلال وجودي في هذه الصفحات، سيقوم الناس بتحويلها إلى نوع من الروايات الشعبية.

  • ما هي المكونات الأخرى التي أفضت إلى مثل هذا النجاح الباهر؟

الكتاب، على ما أعتقد، ينقل هذه المتعة الهائلة التي شعرت بها، لمدة عشر ساعات في اليوم، أثناء كتابتها. عادة، يخلط الأدب الفرنسي بين جدية الكتاب وحقيقة أنه ممل. وبالفعل، إذا لم يكمل الناس الكتب التي قرأوها، فذلك لأنها كلها مليئة بالادعاءات، والادعاء الغبي بالرغبة في الإشارة إلى شيء آخر...

  • هل تعلمين أنك الآن شهيرة في جميع أنحاء العالم بهذا الأمر بالذات – وأحيانًا بسببه فقط – وهي أنك كتبت "العشيق"؟

أخيرًا، لم يعد بإمكانهم أن يقولوا الآن، إن دوراس تكتب "أشياء مثقفة"...

  • هل تشعرين بالرغبة في الإشارة – عن "العشيق" – إلى هذا المفتاح التأويلي أو ذاك؟

إنها رواية، نقطة على السطر. لا تقود إلى شيء، ولا تذهب إلى أي مكان. القصة لا تنتهي، ينتهي الكتاب فقط. الحب، المتعة، ليسا "قصصًا"، والقراءة الأخرى، القراءة الأعمق، إن وجدت، لا تظهر. يمكن للجميع اختيار رؤيتها على طريقتهم.

  • برأيك، ما هي أكثر التغييرات جذرية التي حدثت في أسلوبك منذ "العشيق"؟

لا شيء. كتابتي كانت دائمًا هي عينها منذ البداية. هنا، أكثر ما فعلته، هو أن أسمح لنفسي بالذهاب قُدما من دون خوف. لم يعد الناس الآن خائفين مما يبدو، على الأقل ظاهريًا، غير متماسك.

  • منذ "العشيق" أصبحت كتاباتك أخف وزنًا بشكل متزايد.

الذي تغير هو صوت الكلام، مقارنة بما كان عليه من قبل: مثل شيء اكتسب نوعًا من البساطة اللاإرادية.

  • هل يمكن أن تشرحي أكثر.

 "العشيق" كتاب مليء بالأدب الذي يتراءى، وبشكل متناقض، على أنه في مكان بعيد. إننا لا نراه، لا يمكن لنا أن نرى الزينة الاصطناعية، هذا كلّ شيء.

  • أنت تصرين على عدم الرغبة في الحديث عن "أسلوب" هذه الرواية.

أسلوب "مادي"، إذا أصررنا عليه. وُلدت رواية "العشيق" من سلسلة من الصور التي تمّ العثور عليها بالصدفة، وقد بدأت بكتابتها وأنا أفكر في وضع النص على مسافة ثانوية لصالح الصورة. لكن الكتابة أخذت مكانها، كانت تتقدم أسرع مني، وفقط من خلال إعادة قراءتها أدركت كيف تم بناؤها على الكنايات. هناك كلمات مثل "الصحراء" و"الأبيض" و"الاستمتاع"، والتي تبرز وتدل على القصة بأكملها.

  • لكي نصل إلى نجاح آخر من نجاحاتك، ما رأيك في جودة كتاب مثل "الألم"؟

حقيقة أنني اخترت من وجهة نظري الخوف من اضطرار المرأة للتحدث عن الحرب، وليس فقط عن مواضيع عامة. أننا نروي حقائق دقيقة تهم حتى فسيولوجيا الإنسان في معظم جوانبه الحيوانية، مثل جسد زوجي المتهالك عند عودته من داخاو، أو قصة بيير رابير من الغستابو، الذي أراد أن ينام معي، وقد استغليته إلى أقصى الأمر لأتمكن من التنديد به. أو ذاك الأمر، وهو الأكثر فظاعة، من الاستجواب الذي جعلت مخبرًا ألمانيًا يخضع له.

"الألم" نص شجاع، مزيج من الرعب والمقدس، وهو أحد أهم النصوص التي كتبتها. الكتابة صعبة وحديثة بمعنى أنها تلتقط جميع الأحداث بدقة. لقد قيل لي إنها تذكرني بــ باتاي [جورج]. لكن هذا ليس أدبًا، أكرر. إنه شيء أكثر وأقل.

  • هل استفدت حقًا، من أجل مادة الكتاب، من تلك الدفاتر التي ملأتها أثناء الحرب والتي عادت إلى الظهور بأعجوبة من الخزانة؟

لم يصدقني كثير من النقاد في فرنسا. يمكنني أن أريهم يومياتي، إن أرادوا ذلك. لا أتذكر التاريخ الذي بدأت بكتابتها، فأنا أعرف فقط أنها مسودات، وشظايا، وملاحظات عن الروايات التي كنت أخطط لها في ذلك الوقت، "البحار"، "سدّ...". وبعد ذلك، كما ترين، يمكنك أن تكذبي بشأن أشياء كثيرة، ولكن ليس حول هذا الشيء، حول جوهر الألم.

  • في أحد إصداراتك الأخيرة، تدّعين بين السطور قالب السيرة الذاتية لكتاب مثل "العيون الزرق، الشعر الأسود" – قصة العاطفة المستحيلة بين امرأة ومثلي الجنس – والتي مع ذلك تنتج مجددا نواة كتاب آخر، سرديات "مرض الموت".

قصة حقيقية، نعم. لكن لا، ليس منذ زمن بعيد، إذا كان هذا ما تريدين معرفته... طلب ​​مني بيتر هندكه ولوك بوندي، من أجل "الشوبهون" في برلين، اقتباس "مرض الموت". بعد يومين من إرساله إليهما، اتصلت لأطلب منهما إعادته إليّ. أثناء كتابة النص المسرحي، أدركت أنني وقعت في جميع الفخاخ التي كنت أرغب في تجنبها: أي، إعطاء شكلّ "مبنيّ" لنص لا ينبغي أن يكون كذلك، نص لن "يكتمل" أبدًا، وقد استمد قوته على وجه التحديد من هذا النقص. كان لدي انطباع بأنني ضحية قدرية شكلانية فأعدت كتابة الاقتباس ثلاث مرات من دون أن أجد مخرجًا.

تحدثت عن ذلك مع يان، أخبرته أنني لم أعد أستطيع الكتابة. بينما هو، الذي يعرف طريقتي في العمل – الأزمات والندم والمراجعات – لم يصدقني. ثم في إحدى الأمسيات في يونيو، كان ذلك في عام 1986، في تروفيل، بدأت الكتابة بهذه الطريقة، عن الحرارة، عن ليالي الصيف. وجاءت القصة.

  • هل كان يان أندريا متورطًا في قراءة النص؟

كان يمر بأزمة كبيرة، كان يغازل في السيارة، لمدة تصل إلى عشر ساعات في اليوم. عندما توقف، بكى وألقى باللوم عليّ. بدا وكأنه يريد أن يصرخ لي بشيء لا يستطيع حتى شرحه لنفسه. ثم كان يخرج من جديد، لم أكن أعرف إلى أين هو ذاهب: إلى العلب الليلية، على ما أظن، ليبحث عن رجال، في الحانات، في قاعات الفنادق الكبيرة، كلهم ​​يرتدون ملابس بيضاء. بينما كنت أكتب قصة امرأة في حالة حب مع رجل يكره رغبته عن غير قصد.

  • في عام 1985، أخرج بيتر هندكه فيلمًا، انطلاقًا من النص.

بناءً على رأيي وبناءً على حكم بلانشو [موريس]، أعاد صياغة النص. حتى أنه استولى عليه. الفيلم أكثر رومانسية بكثير مما قدمته طيلة القصة كاملة. مرض الموت الحقيقي، بالنسبة إليه، بين الرجل والمرأة، هو فقط نقص الشعور.

  • ما الذي دفعك إلى نشر "الحياة المادية"، هذا النقل الحرفي لمقابلات حول السيرة الذاتية – أو بالأحرى هي ارتباطات معينة مع أفكار من ذاكرتك – التي أعطيتها لـــ جيروم بوجور؟

الرغبة في أن أكون قادرة على قول أشياء أفكر فيها ولم أكتبها مطلقًا في حياتي، وهي الأشياء التي جعلتني سعيدة أو قلقة، لكنّ أحدا لم يسألني عنها أبدًا في المقابلات التي أجريتها بشكل عام.

  •  كنا نتحدث، منذ بعض الوقت، مع روب – غرييه، انطلاقًا من آخر جزء من مذكراته، "أنجليك أو التعويذة"، عن "السيرة الذاتية الجديدة"، أي كما نقول "الرواية الجديدة". يشير [في حديثه] إلى "ضد سانت – بوف" كتاب بروست مستشهدًا عدة مرات بحالة "العشيق"، لقد تبنى روب غرييه هذا التعبير من أجل الإشارة إلى أنماط جديدة من كتابة السيرة الذاتية، لا تعتمد كثيرًا على البيانات المستقرة أو المتماسكة من الذاكرة بقدر ما تستند إلى هذه السلسلة من "الأجزاء المتحركة والعائمة في النص والتي من شأنها أن تعيد على وجه التحديد عدم الاستقرار وعدم موثوقية الذاكرة".

لتأخذي نصًا مثل "سافانا باي": هناك امرأة عجوز على خشبة المسرح تسترجع ماضيها المشوش، الذي لم يتبق منه سوى صورة صخرة بيضاء مشتعلة. الماضي الذي يختلط بالحاضر، غير واقعي لدرجة أنه ربما تم تغيير شكله، أو حتى اختراعه.

  • وروايتك الأخيرة، "إميلي ل."، هي أيضا عانت من مخاض عسير.

وكيف لا! ومع ذلك، هناك شيء شيطاني في داخلي، يجعلني أحيانًا أؤلف كتبًا في أسبوع... حيث أشعر بالسهولة عينها التي عرفتها حين كنت أكتب مواضيع الإنشاء في الصف.

أشعر أحيانًا أنني لست الشخص الذي كتب "إميلي ل." بأنني كنت أشاهد عملية تأليف الكتاب. كانت إيرين ليندون، ابنة جيروم [صاحب منشورات مينوي]، هي التي أصرت على أن أنتهي من ذلك. كانت تأتي إلى منزلي كل يوم تقريبًا لالتقاط الصفحات، وتطبعها، ثم تعيدها إليّ لتصحيحها.

  • أنت نفسك قلت إن هذا الكتاب يشبه في بعض نواحيه "انخطاف لول ف. شتاين".

الفرق هو أن هناك امرأة تراقب قصة شخص آخر من دون أن تتورط فيها بشكل مباشر: ما من شيء حصل قد أثر في – وهو على العكس مما حدث مع "لولا فاليري شتاين" – واقع المرأة الأخرى، إميلي، التي كانت جالسة في المقهى.

  • تُعتبر "لول ف. شتاين" أكثر رواياتك تعقيدًا – من وجهة النظر الأسلوبية، كما بسبب بعض تداعيات موضوعاتها. حتى أن لاكان نفسه قد خصك بصفحات في ندواته.

كنت يومها أتخلص من السموم (آثار الكحول) عندما كتبتها. وسأربط الكتاب إلى الأبد بالخوف من العيش من دون كحول.

"انخطاف..." هي رواية في حدّ ذاتها، قصة امرأة تحولت إلى مجنونة من جراء حبّ كامن، لا يظهر أبدًا، ولا يتخذ أي خطوة [إلى الأمام]. بعبارة أخرى، منذ اللحظة التي رأت فيها لول، في حفلة "أس. تالا"، خطيبها مايكل ريتشاردسون، وهو يغادر مع امرأة أخرى، آن – ماري ستريتر، تكورت حياتها كلّها حول هذا النقص الشديد، هذا الفراغ الكبير. كانت لول سجينة، ومجنونة من كينونة لا تنجح في أن تحياها.

  • الفراغ الذي أشرت إليه للتو هو هذا "النقص" الذي يرى فيه لاكان أصل كل الوجود ونهايته. عدم وجود نظام، مركز حيث يمكن للذات، المنفصلة بشكل لا يمكن إصلاحه، أن تجد نفسها.

هذا صحيح، كل كتبي تولد وتتحرك بدقة حول صندوق يتمّ استحضاره دائمًا وفقدانه دائمًا. هذا هو الأمر بالضبط. ثمة دائمًا شخصية لا تتحدث وهي غير موجودة هنا (آن – ماري ستريتير، الصيني، بحار جبل طارق، المرأة في "مرض الموت")، كما ثمة حدث لا يحدث (كما في "الساحة"، "الباخرة نايت"، "موديراتو كانتابيلي"، "مهور تاركينيا")، وهما من يُشعلا القصة. حنين القصة.

  •  لكي نعود إلى "انخطاف.."، ما علاقتك بــ لاكان؟

حدثني عن فرويد على الفور. بدءًا من الوقت الذي ادّعى فيه أن الفنانين يسبقون المحللين دائمًا في البحث والتحليل. حاولت أن أشرح له أنني أنا نفسي لا أعرف نشأة لول هذه.

لقد كان يحترمني، بلا شك، بتصرفه المعتاد كرجل مثقف – يحكم على المرأة.

بالنسبة إليّ، لا أقرأه. بصراحة، لا أفهم عليه كثيرًا.

  • هل التقيتما مرارًا؟

التقينا ببعضنا، ذات مساء، وأذكر ذلك، في مقهى في وسط باريس. انهال عليّ بالأسئلة لمدة ساعتين، وبالكاد كنت أجيب، إذ لم أكن أتابعه طيلة الوقت. قال لي إن لول، كانت المثال الكلاسيكي للهذيان الإكلينيكي – وهو دراما استحضار المشهد البدائي بين الوالدين والطفل – لأنه كان مقتنعًا بأن مفتاح كل شيء يجب العثور عليه داخل هذا الاسم، وهذا ما قمت به بذكاء، إذ كنت أخفيته من أجل هذه المرأة المجنونة الصغيرة (petite folle): لول ف. شتاين (Lol V. Stein)، وهذا يعني، سأفك الشيفرة: "أجنحة من الورق"، بالإضافة إلى حرف V. الذي يعني "المقص" (وفقًا للغة الصم والبكم) أما Stein فيعني "الحجر". وخلص إلى أن الرابط كان فوريا: le jeu de la mourre، أي "لعبة الحب". وأضاف أنك "مختطفة". أما نحن القراء "فمبتهجون".

  • هل تؤمنين بالتحليل النفسي؟

كان فرويد كاتبًا كبيرًا، سهلًا، إن أردت. أما بالنسبة إلى الفرويدية، فهي نظام محنط يدور حول نفسه، ويستخدم لغة خاطئة مقارنة بالرمز العادي، ويتداخل بشكل أقل فأقل مع العالم الخارجي. في نهاية الأمر، لا يهمني التحليل النفسي كثيرًا. لا أعتقد أنني بحاجة إليه، ربما لأنني أكتب أيضًا. لكن بالنسبة إلى المصابين بأمراض عقلية، لا أعتقد أنه يكفي أن يكونوا مدركين لعصابهم حتى يتعافون.

  • منذ عام 1943 نشرت حتى الآن خمس عشرة رواية، ناهيك عن السيناريوهات والمسرحيات. ما الذي تشعرين به في كلّ مرة يصدر لك فيها كتاب؟

طالما أنه لا يرى النور، فإن الكتاب شيء لا شكل له ويشعر بالخوف من أن يولد أو أن يخرج. مثل الكائن الذي يحمله المرء داخل نفسه، فإنه يدعو إلى التعب والصمت والوحدة والبطء. ولكن بمجرد الخروج، سيختفي كل ذلك في لمح البصر.

  • ليصبح ماذا؟

لينتمي إلى الجميع، إلى كلّ أولئك الذين، وبإمساكهم به بين أيديهم، يريدون أن يحتكروه. يجب أن نحرر الكتاب من قفص الكتابة، وأن نجعله حيًا وقادرًا على التنقل، وأن نجعل الناس يحلمون. قيل لي إن كتاب "هيروشيما حبي" ألهم بعضهم بأغنية.

  • صحيح، تغنيها فرقة إنكليزية، "الترافوكس"...

أنا سعيدة بذلك. أحبّ أن يستولوا على أغراضي.

  • بالنسبة إلى كتاب "الحب"، قمت بتغيير الدار المعتادة التي تنشر أعمالك (فلترينللي وإينودي) للذهاب عند "موندادوري".

أشعر دائمًا بالسعادة حين يدفعون لي أكثر.

  • لكن العنوان ليس متفردًا...

قررت ذلك بعد أن انتهيت من كتابته، كرد فعل على جميع الكتب الأخرى التي تحمل العنوان ذاته. إنها ليست قصة حب، ولكنها قصة كل شيء، في العاطفة، يبقى معلقًا، لا يمكن ذكر اسمه. معنى الكتاب موجود بالكامل في هذا القطع الناقص.

  • فيما يتعلق بالكتابة، يتحدث غراهام غرين عن "إعاقة الكاتب" الحقيقية، كوضع لا بدّ أن يقع كل كاتب ضحيته عاجلًا أم آجلًا. هل تتذكرين أي لحظات مماثلة؟

لقد تحدثت بالفعل عن الأزمة التي مررت بها وأنا أقتبس "مرض الموت". قبل عام 1968 في أي حال، كنت أكتب بانتظام، كل يوم، وأنا جالسة إلى هذه الطاولة، تمامًا كما يذهب المرء إلى مكتبه. ثم، بدءًا من تلك الفترة، فجأة، كانت الأزمة: لمدة عام تقريبًا، توقفت مخيلتي.

وأخيرًا جاءت [رواية] "التدمير قالت"، مثل صاعقة البرق، لم أعمل عليها لأكثر من خمسة أو ستة أيام. منذ ذلك الحين، كان الأمر دائمًا على هذا النحو: تخرج الكتب بعد فترات صمت طويلة لا نهائية.