Print
أرمان أحمد

لماذا لا تكون الأشياء لا بأس بها فحسب؟

9 يوليه 2024
ترجمات

ترجمة: سارة حبيب

 

منذ بضعة أيام، سألتُ صديقي إن كان عليّ أن أذهب إلى صالة السينما لأشاهد الفيلم المستقل الجديد المعروض هناك أم لا. "كيف كان؟" سألتُه.

"هل تعتقد أني سأحبه؟".

"إما أنك ستحبه، أو ستكرهه"، أجابني. "واحدٌ من هذين الاحتمالين".

قبل مرور أقلّ من يومين على ذلك كان صديق يرشّح لي كتابًا وختم كلامَه بالجملة ذاتها. مع هذا، لم أفهم يومًا مثل ذلك الرأي. إنه لا يبدو غير منطقي فحسب (إما ستحبه أو ستكرهه؟)، بل هو كذلك مفرطٌ في التبسيط. شيئًا فشيئًا، بدأتُ ألاحظ هذا المنطقَ، منطق "الحدود القصوى فحسب"، في مواضع تتنوع بقدر تنوعِ ثقافة البوب (الشعبية) بالنسبة إلى الأكاديميين. فما أن يُكتَشف هذا المنطق، لا يعود ثمة سبيل لتجنّبه: اقترحَ لي فيديو على يوتيوب لتوه: "أندرويد أو آيفون- أيهما أفضل حقًا؟"؛ عنوان أغنية فيفتي سنت الذي يعلن: "اكرهْه أو أحِبَّه"؛ لو كوربوزييه قائلًا عن التخطيط لمكان بناء "الدير" الذي يُشتهر به: "في اختيار الموقع، ارتكبتُ إما فعلًا شنيعًا أو جديرًا بالثناء"؛ والـ"إما/أو" الخاصة بكيركيغارد.

بوسع مثل تلك الأمثلة أن تملأ كتابًا وكتابًا غير ممتع فوق ذلك.

لكن، لماذا لا تكون الأشياء لا بأس بها فحسب؟

لماذا علينا دائمًا أن نذهبَ أتوماتيكيًا إلى إحدى أقصيّ طيف الاحتمالات، نستبعدَ المنتصف، ونفترض ضمنيًا أثناء ذلك أن الذائقة البشرية مجردة من الفوارق الدقيقة؟ إن منطق "الحدود القصوى فحسب" ليس إلا عارضًا لمرض أكبر، ملموسٍ أقل، ومعاكسٍ للطبيعة البشرية: تسطيحُ الفروق الدقيقة إلى تقريباتٍ ترتبط بها ظاهريًا لكنها تكون إجمالًا غير دقيقة.

المخاطر عالية هنا. و، نعم، المجال الواضح الذي تمكن الإشارة إليه في هذا المنحى هو السياسة. فالتقسيم الطبقي السياسي، مضافًا إلى حاجة ظاهرية إلى رسالة موحدة، يُنتج جملًا عديدة تبدأ بالطريقة ذاتها: "كلّ ما يحدث هو خطأ المسلمين"؛ "كل ما يحدث يعود إلى الصراع الطبقي"؛ "كل شيء يحدث بمشيئة الله"؛ "كل الأمر يعود إلى مسألة ليبراليين/محافظين"؛ "كل شيء فوضى لا معنى لها"؛ "كل شيء يعود إلى التغيير المناخي"، إلى آخره، إلى آخره.

بالطبع، لا شيء، ما عدا ربما الفيزياء الأساسية، هو "كلّ" (وحتى الفيزياء الأساسية، بعد الكوانتم، باتت غير متبلورة). مع ذلك، يبدو أننا باستمرار نختزل، نقرّب، ونبسّط إلى درجة أننا نمزق كليًا الخيط الذي كان أساسًا مهترئًا والذي يصلُ بين الفروق الدقيقة للعالم ومراجِعها. هكذا، وبعيدًا عن السياسة، يطرح هذا الموقف العقلي المعوّج الكثيرَ مما يجب علينا إصلاحه.

أن نسمح لشيء بأن يكون "لا بأس به فحسب" يعني أن نتقبّل الفروق الدقيقة للعالم ولعقولنا. في حقيقة الأمر، إذا كان ثمة فارق حاسم بين العقل والحاسوب فهو بكل تأكيد الفارقُ الدقيق. فالحاسوب، مهما بلغت درجة تعقيده، يعمل ضمن نظام ثنائي (ثنائيات)؛ 1 أو 0. وشات جي بي تي GPT، مهما بلغت درجة تطوره، يبقى تكراريًا؛ نوعٌ من متوسطِ معلومٍ مقنع، إنما من المهم أنه ليس ناشئًا. أما العقل فيُعرَّف بالفوارق الدقيقة؛ إنه قادر على أن يتخذ عقليًا حشدًا من وجهات النظر بوصفها صحيحة وخاطئة في الوقت ذاته. إنه مصمَّم لأجل التناقض.

يطيح الفارق الدقيق بالخلاصات، بالرضى، بالنهايات. إنه مكان يخضع لعملية صيرورة مستمرة، مكان لا يستطيع سوى البشر ربما العيش فيه. في مقدمته لكتاب بارت "خطابُ عاشق"، يصف واين كويستنباوم الفارقَ الدقيق على أنه "وميض يتجاوز الخير والشر، يتجاوز التحري، يتجاوز النظام... إنه لا يحترق قط. الفارق الدقيق لا يقدم وجهةً قائمة بذاتها بل تململًا" (1). كذلك، كتب غريغوري سيجورث وميليسا غريغ أن "الحيادي، بالنسبة إلى بارت، ليس مرادفًا بتاتًا للإذعان الجاهز، الحيادية السياسية،[أو] السقوط في الرمادية"(2). إنه، في الواقع، العكس تمامًا- الألوان كلها!

هذا ما علينا أن نسعى جاهدين إليه، وإذا كان مثل ذلك السعي يبدأ بترشيحِ كتاب ينتهي بقولنا: "إذًا، بصورة عامة، كان الكتاب لا بأس به فحسب"، فليكن. مع ذلك، الـ"لا بأس به" هي أكثر من ذلك بكثير. إن الحدود القصوى تبدو قوية. وهي، للوهلة الأولى، تشغل الكثير من حقل رؤيتنا بحيث تتركنا مع وهمِ أنه لا يوجد سوى خيار واحد آخر فقط؛ الحد الأقصى الآخر. لكنّ "قوتها" يجب أن يُنظر إليها كنوع من قوة أولية، مثل قطعة حلوى لذيذة مذاقها قوي ومتجانس، لكنه لا يُقارن بحلوى الأفوغاتو.

رغم أن الـ"لا بأس به" قد لا تبدو قوية، إنها قوية بالفعل. إنها متعددة الطبقات ومتعددة الأبعاد. وإن فيها عمقًا أكثر، جوهرًا أكثرَ، أكثر. إنها واسعة وضيقة. ثابتة ومتحركة. إنها الشيء وعكسه. وانعدام قابلية الاختزال الذي تتمتع بها يجعلها تتفادى الهجوم. يقتبس سيجورث وغريغ هنا عن بارت مرة أخرى مشيرين إلى أن الحيادي "يتفوق على باراديم المتناقضات وضروب النفي... بالإضافة إلى تفاديه الترسيخَ العرضي للمعنى الذي يسعى الحيادي ذاته (بوصفه "نشاطًا مندفعًا متقدًا") إلى تبديده" (3).

أعطانا بارت تلميحًا: "قسّم الإدراك إلى مسابقة بين معان متنافسة؛ أحيانًا معنيين، أحيانًا ثلاثة. لكنه لم يرد أن يدخل الشجار الدائر بينهم" (1979 ,Getty, Paris) 


بالطبع، ليست صفة الـ"لا بأس به" مجرد استراتيجية بلاغية أو آلة ضباب وجودية، بل هي قبل كل شيء مقاربة أفضل للواقع. وأكثرَ من القوة، اللون، أو التعقيد، الدقة هي القوة الخارقة التي تتمتع بها الـ"لا بأس به". معظم الأشياء ينتهي بها المطاف في المنتصف؛ كلّ من درس علم الإحصاء في المدرسة الثانوية لاحظ وسيلة الإيضاح الشائعة التي تُسقَط فيها عشرات الكرات الصغيرة في لوح موتّد شبيه بلعبة الباتشينكو، ما ينتج عنه ما أسمته الرياضيات "منحنى التوزيع الطبيعي". بالتالي، حتى بشكل عشوائي، تتجه الأشياء نحو المنتصف. مع هذا، لأسباب واضحة تتعلق بلفت الانتباه، لا تزال صيغ التفضيل هي السائدة (جوائز غرامي! جوائز الأوسكار!). وفي هذه المرحلة نرى أنها سادت لفترة طويلة لدرجة أنها شوّهت المنتصف ذاته، ما يعني "العالم ذاته".

إذًا، كيف بوسعنا أن ننتقل انتقالًا كاملًا إلى عالم الـ"لا بأس به" السائلِ على نحو جميل؟ كيف نتقبّل تعقيد العالم، بكل مجده ذي الفروق الدقيقة، مجده الغامض، الميديوكر، ونسبح فيه؟ لقد أعطانا بارت تلميحًا: "قسّم الإدراك إلى مسابقة بين معان متنافسة؛ أحيانًا معنيين، أحيانًا ثلاثة، لكنه لم يرد أن يدخل الشجار الدائر بينهم. بل أراد أن 'يتفوق عليه باللعب'؛ أن يتركَ مباراة المصارعة تستنزف نفسها، وتنتج زهرة َموقفٍ بديل، انعدامَ تعيين للمكان، هالةً عائمة من دون موقع" (4)، وأن يتبوأ كذلك "لحظاتِ تعليقِ الحكم تلكْ التي يتوقف فيها الإدراك"(5). إن الجواب يكمن في التردد.

في بنيتنا الفوقية الرأسمالية حيث نسعى لتوفير الوقت وتحقيق الفعالية لأجل الوقت والفعالية، يُعدّ الإبطاء هرطقة، لكنه مع ذلك، الطريقة الوحيدة لنتبوأ "لا بأسيّة" العالم؛ أي العالم ذاته. كتب برغسون: "الوقت هو ما يعيق كل شيء من أن يُعطى دفعة واحدة"(6)؛ نقطة واضحة جدًا جديرة بالتكرار. بدورها، المختصة في الفينومينولوجيا (علم الظواهر) عليا الساجي في مقالتها "فينومينولوجيا التردد" قدمت التردد بوصفه "تصحيحيًّا - ربما نقديًا وأخلاقيًا-  للبنى المُجسِّدة" (7)؛ قدمَتْه كطريقة "تبقي الأشياء مفتوحة" (8)، تسمح بدخول أشياء، تطيل الأمد، تعقّد، وتضع الفورية ذاتها بين قوسين. الـ"لا بأس به" صيرورة، حدوثٌ، بينَ بينْ لم يحدث بعد. والوقت- التردد- هو الإسفين في الباب، الإسفين الذي يسمح للمزيد بأن يدلف من خلال الباب، مُعلِّقًا عملية الإغلاق، مُعلَّقًا الحسميّة.

لذلك، دعونا نتردد، نحتار، ونعيش في الـ بين بين، في الـ لا بأس به، في الـ ربما. نعم، صحيح أن علينا أن ننشئ نماذج عقلية مبسطة للعالم لكي نوجد فيه، ولئلا نغرق في غموض مفرط. لكننا في الوقت الحاضر بعيدون جدًا، في الحد الأقصى الآخر من الطيف. لذلك، في المرة القادمة، قبل أن تبدأ جملتك بقولٍ حتمي مثل: "إنه كذلك"، خذ ربما دقيقة أطول، ترددْ، وانظر فيما إذا كانت هذه الـ"كذلك" تتحول إلى "يمكن" "من الجائز" أو "ربما"، إنما بالتأكيد ليس إلى: "ليس كذلك".

هل بلوتو كوكب؟ كوكب صغير للغاية؟ ليس كوكبًا أبدًا؟ لماذا لا يكون بلوتو فحسب؟

 

مراجع:
(1) واين كويستنباوم ورولان بارت. "دفاعًا عن الفارق الدقيق". "خطاب عاشق: شذرات".
Koestenbaum, Wayne, and Roland Barthes. “In Defense of Nuance.” A Lover’s Discourse: Fragments, Hill and Wang, New York, 1995. P XI.
(2) غريغوري سيجورث وميليسا غريغ. "فهرس لضروب الوميض". قارئ نظرية التأثير.
Gregg, Melissa, and Gregory J. Seigworth. “An Inventory of Shimmers.” The Affect Theory Reader, Duke University Press, Durham, 2010. P 10.
(3) المرجع السابق. اقتباس: رولان بارت وتوماس كليرك. الحيادي: محاضرة في كلية فرنسا.
Quoted: Barthes, Roland, and Thomas Clerc. The Neutral: Lecture Course at the College de France. Columbia University Press, 2007. P 7.
(4) واين كويستنباوم ورولان بارت. "دفاعًا عن الفارق الدقيق". "خطاب عاشق: شذرات".
Koestenbaum, Wayne, and Roland Barthes. “In Defense of Nuance.” A Lover’s Discourse: Fragments, Hill and Wang, New York, 1995. P X.
(5) المرجع السابق. ص. XVI.
(6) هنري برغسون. "العقل المبدع: مدخل إلى الميتافيزيقا.
Bergson, Henri. The Creative Mind: An Introduction to Metaphysics. United States, Dover Publications, 2012. P. 75.
(7) عليا الساجي. "فينومينولوجيا التردد".
Alia Al-Saji. “A Phenomenology of Hesitation: Interrupting Racializing Habits of Seeing.” Living Alterities: Phenomenology, Embodiment, and Race, SUNY Press, Albany, 2015. P 144.
(8) المرجع السابق. 

(*) أرمان أحمد: كاتب، ومصور، مقيم في بروكلين، نيويورك. يعد حاليًا رسالة ماجستير في الفلسفة والفن في جامعة ستوني بروك بعد أن نال إجازة بتركيز على "تجربة الإبداع". يركّز عمله عمومًا على طبيعة الإبداع: ما هو حقًا، من أين يأتي، وكيف يعمل؟

رابط النص الأصلي:

https://thephilosophicalsalon.com/just-ok/