Print
حسونة المصباحي

عن الواقعية السحرية: ماركيز جعلها فنًّا قائمًا بذاته

29 سبتمبر 2024
تغطيات
قال غابرييل غارسيا ماركيز ذات مرةٍ بأنّ مساره كروائيٍّ قد يكون تحدَّد قبل بلوغه سنَّ العاشرة. لذا يجدر بنا أن نعود إلى طفولته، وأيضًا إلى سنوات شبابه، لكي نكتشف التأثيرات الأولى التي كانت حاسمةً في نحت شخصيّته الأدبيّة، وفي تشكيل وتعميق رؤيته للحياة والوجود بصفةٍ عامّة.
وُلِد ماركيز عام 1928 في بلدةٍ كولومبيّةٍ صغيرةٍ تُدعى "أراكاتاكا"، تُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ "ماكاندو"، تلك القرية المُغبَّرة التي فيها تدور أهمّ أحداث "مائة عام من العزلة". وباستثناء الشركة المختصّة في تجارة الموز التي أنشأها الأميركيون الشماليون، لم يكن هناك في تلك البلدة الصغيرة التي تكاد تكون مقطوعةً عن العالم، غير بيوتٍ بائسةٍ، وشوارع حزينةٍ تحرقها الشمس طوال النهار. بين وقتٍ وآخر، يأتي مغامرون، وبغايا بائساتٌ وسخاتٌ. وقد أمضى غارسيا ماركيز سنوات طفولته الأولى مع جدّه وجدّته وخالاته. لذا سيكون لهم تأثيرٌ كبيرٌ عليه فيما بعد. بل إنّ البعض منهم سوف يتحوّلون إلى شخصيّاتٍ رئيسيّةٍ في رواياته، وفي قصصه القصيرة. وكان الجدّ الذي يُدعى نيكولا ماركيز ليبراليًّا متحرّرًا. لذا شارك بصفته العسكريّة كعقيدٍ في الحروب الأهليّة التي خاضها الليبراليّون ضدّ الأنظمة المحافظة والرجعيّة، والتي كان ضحاياها يُعدّون بالآلاف. وكان شديد الإعجاب بالزعيم الإيطالي غاريبالدي (1807-1882)، موحِّد إيطاليا. كما كان مُعجبًا بفلاسفة الأنوار الفرنسيّين، فولتير، وروسو، وديدرو، وأيضًا بالجنرال رافائيل أوريبا، القائد الكولومبي الذي شنّ المعارك والحروب إلى جانب الليبراليّين ضدّ المحافظين والرجعيّين. وفي العديد من الحوارات التي أُجريت معه، اعترف ماركيز بأنّ شخصيّة أورليانو بيوندا في "مائة عام من العزلة" تُشبه إلى حدٍّ كبيرٍ شخصيّة الجنرال المذكور، مُضيفًا: "إنّ العقيد أورليانو بويندا لا يُشبه جدّي في شيءٍ... بل أقدر أن أقول إنّه نقيضه تمامًا. فجدّي كان متوسّط القامة، أكولًا، وزير نساءٍ. وهذا ما علمته فيما بعد. أمّا العقيد بويندا فقد رسمته على صورة رجلٍ نحيلٍ، مُتقشّفٍ في حياته مثل الجنرال أوريبا. وأنا لم أرَ هذا الأخير إلّا أنّ جدّتي روت لي في أكثر من مرّةٍ وأنا طفلٌ بأنّه مرّ ببلدتنا، وأنّه اجتمع بأنصاره في مكتب جدّي، ومعه شرب البيرة". وسيظلّ غارسيا ماركيز يحتفظ في ذاكرته بصورة جدّه وهو جالسٌ في باحة البيت الكبير أواخر النهار، أو هو يطوف معه في البلدة الصغيرة، أو في ضواحيها. وبصوته الحزين كان يقول له بعد أن يُطلق زفرةً طويلةً: "أنت لا تعرف يا ولدي الصغير كم هي ثقيلةٌ جثّة الميّت". وسوف يظلّ يتذكّره أيضًا عندما كان يأخذه معه إلى الشلّالات النازلة من أعالي الجبال فيشاهد المياه الصافية المتدفّقة بسرعةٍ هائلةٍ بين الصخور الكبيرة البيضاء كما لو أنّه "بَيْضُ ما قبل التاريخ"، كما يقول في مطلع "مائة عام من العزلة". وخلال الجولات في الغابات، كان الجدّ يتحدّث إلى حفيده عن الحرب الأهليّة، وعن المدافع التي تجرّها البغال، وعن الجرحى الذين يحتضرون تحت الشمس الحارقة، وعن رجالٍ يُعْدَمون بالرصاص وظهورهم إلى أسوار المقابر. وكان الجدّ يستمع بانتباهٍ شديدٍ إلى ما يقوله حفيده. وكان يُجيب على جميع الأسئلة التي كان يطرحها حتى ولو كانت مُحرجةً. بين وقتٍ وآخر، كان يفتح القاموس الضخم المُغبَّر ليبحث معه عن معاني الكلمات. وعند قدوم السيرك إلى البلدة الصغيرة الخامدة، كان يأخذه ليتفرّج على البهلوانيّين. وفي أواخر المساءات، كان يُمسك بيده، ويمضي إلى مقهى "أنطونيورا سكونتي" الذي سيُصبح "بياترو سكيبي" في "مائة عام من العزلة". وهناك يلتقي بأصدقائه القدامى الذين قاتلوا معه في الحروب، ومعه يستحضر سنوات الرعب والموت والنضال بهدف ترسيخ الأفكار التحرّريّة والليبراليّة في كولومبيا. وكان الطفل غابرييل غارسيا ماركيز يجد متعةً كبيرةً في الاستماع إلى حكايات الشيوخ عن الماضي البعيد، وعن السنوات العسيرة التي عاشوها في الجبال، وفي الغابات وهم في مواجهةٍ يوميّةٍ مع الموت.
أمّا الشخصيّة الثانية التي سيكون لها تأثيرٌ على شخصيّة غارسيا ماركيز في سنوات الطفولة فهي جدّته دونا ترانكيلينا التي كان لها نفوذٌ هامٌ في تسيير شؤون البيت والعائلة. وهي تنتمي إلى منطقة "غولجيرا" التي يسكنها الهنود والسحرة والمهرّبون، وليس فيها "حدودٌ بين الأموات والأحياء" كما سيكتب ماركيز فيما بعد. وكانت تلك الجدّة القصيرة القامة، والزرقاء العينين، والتي تتمتّع بحيويّةٍ خارقةٍ، تُحبّ أن تروي قصصًا وحكاياتٍ غريبةً، مُحوِّلةً الواقع إلى عالمٍ عجائبيٍّ، يفوق ما يمكن أن يُصوّره الخيال. وعندما تقدّم بها العمر، أخذت تتحدّث إلى الأموات وهي هائمةٌ في البيت الكبير شبحًا قاتمًا. وحين يهبط الليل الساخن، المُفعم بروائح الناردين والياسمين، كانت تسكن عن الحركة، وتجلس على الكرسيّ لتواصل حديثها المبهم عن الأموات، خصوصًا عن مارغريتا ماركيز التي كانت فائقة الجمال، والتي اختطفها الموت وهي في ريعان الشباب. وكان الطفل غابرييل يذهب إلى فراشه وبه شعورٌ أنّه مُحاطٌ بالأموات. وستظلّ مشاعر الرهبة والخوف تُعذّب روحه حتى بعد أن أصبح كاتبًا عالميًّا. ومُتحدّثًا عن جدّته، قال ماركيز ذات مرّةٍ: "كانت طريقة جدّتي في رواية القصص والحكايات هي التي فتحت أمامي الطريق، وغذّتني بأشياء مهمّةٍ للغاية منها استفدتُ كثيرًا عندما أصبحت كاتبًا. بالنسبة لها كانت الأساطير والخرافات ومعتقدات الناس الخفيّة، عناصر أساسيّةً في حياتها اليوميّة. وحين أفكّر فيها الآن، أشعر أنّها لم تبتكر شيئًا، ولم تفعلْ غير التقاط أشياء من عالم السحر والمعتقدات والخرافات المنتشرة عند الناس في أغلب بلدان أميركا اللاتينيّة. مثلًا أنا أفكّر في أولئك الرجال الذين كانوا يتوصّلون إلى استخراج الدود من أذن البقرة بتلاوة الصلوات... كلّ حياتنا في بلدان أميركا اللاتينيّة مليئةٌ بمثل هذه الأشياء. والشيء الذي سمح لي بكتابة "مائة عام من العزلة" هو اكتشافي لهذا الواقع الذي هو واقعنا من دون تلك الحدود التي أراد ويريد العقلانيّون والستالينيّون (نسبةً إلى الزعيم الروسي ستالين) فرضها علينا".




وأمّا والد غابرييل غارسيا ماركيز فقد كان ساعي بريدٍ. وقد اختار هذه المهنة بعد أن فشل في دراسة الطب. وفي البداية، رفض العقيد نيكولا ماركيز تزويج ابنته من هذا الموظّف البسيط، إلّا أنّه انصاع في نهاية المطاف للأمر الواقع. ويقول ماركيز بأنّ حبّه المبكّر للأدب قد يكون ناتجًا عن الإقبال النَّهِم للقراءة، والذي تميّز به والده إذ كان هذا الرجل الذي لم يكن يُدخّن، ولا يشرب الكحول، يقرأ كلّ ما كان يقع بين يديه من كتبٍ، ومن مجلّاتٍ، وجرائد يوميّةٍ. وفي سنوات شبابه، قَرَض الشعر، وعزف على الكمنجة.
إلى كلّ هذه التأثيرات التي فعلت بقوّةٍ في تكوين غابرييل غارسيا ماركيز، تنضاف تأثيرات الحياة في منطقة البحر الكاريبي. وعن ذلك هو يقول: "أعتقد أنّ العالم الكاريبي علّمني كيف ألقي نظرةً أخرى على الواقع، وأن أتقبّل العناصر الخارقة والعجيبة كما لو أنّها تنتمي إلى حياتنا اليوميّة... إنّه عالمٌ خاصٌّ. وأوّل عملٍ سحريٍّ بنظري هو يوميّات كريستوفر كولومبس... ففيها يتحدّث عن نباتاتٍ أسطوريّةٍ، وعن عوالم سحريّةٍ... نعم... إنّ تاريخ منطقة الكاريبي مليءٌ بالسحر الذي جاء به الزنوج الأفارقة، وأيضًا القراصنة السويديّون، والهولنديّون، والبريطانيّون الذين كانوا قادرين على بناء أوبرا، وعلى تزيين أسنان النساء بالجواهر... والتناقضات التي توجد في المنطقة المذكورة لا توجد في أيّ مكانٍ آخر من العالم. وأنا أعرف كلّ الجزر، وأعرف الخلاسيّين الذين لهم لون العسل، وعيونٌ خضراء، والذين يغطّون رؤوسهم بأغطيةٍ مدوّرةٍ، أو صينيّين لهم جذورٌ هنديّةٌ، يغسلون الملابس، ويبيعون التعاويذ، وهندوسًا يخرجون من محلّاتهم المليئة بالعاج لكي يتبرّزوا في الشوارع أمام الناس، وقرًى مغبّرةً تحرقها الشمس.



وحين تندلع العواصف، تتطاير البيوت فُتاتًا في السماء. وأخيرًا أقول بأنّني حين أشرع في الحديث عن العالم الكاريبي، أجد نفسي عاجزًا عن التوقّف... فقط أقول بأنّه العالم الذي علّمني كيف أكتب. ثمّ إنّه المنطقة الوحيدة في العالم التي أشعر فيها بأنّني لست غريبًا".
بعد أن توفّي الجدّ وهو في الثامنة من عمره، شعر الطفل غابرييل غارسيا ماركيز بفراغٍ هائلٍ، وبدا له أنّه لن يحدث أيّ شيءٍ مهمٍّ بعد ذلك. غير أنّ حياته سوف تشهد وهو على عتبات الشباب، تغيّراتٍ وتحوّلاتٍ هائلةً تقوده إلى الكتابة. ففي البداية أبدى رغبةً في دراسة الحقوق ليصبح محاميًا، إلّا أنّه سرعان ما انقطع عن التفكير في ذلك ليعيش حياة الصعلكة والبطالة في العاصمة بوغوتا، وفي العديد من المدن الكولومبيّة الأخرى. وخلال تلك السنوات الصعبة، أقبل على القراءة بشكلٍ محمومٍ، وبدأ يلتهم كلّ ما كان يقع بين يديه من رواياتٍ، ومن دواوين شعريّةٍ، ومن مؤلّفاتٍ تاريخيّةٍ وفلسفيّةٍ وغيرها. وفي تلك الفترة، اكتشف كتّابًا من فرنسا مثل فلوبير وفيكتور هوغو، ومن ألمانيا مثل توماس مان، ومن إسبانيا مثل خوان رامون خيمينيث، ومن تشيلي مثل بابلو نيرودا. كما عشق جمعيّةً أدبيّةً أسّسها أدباء وشعراء شبّان، وأطلقوا عليها "حجر وسماء"، ومن خلالها راحوا يدعون إلى ضرورة بعث أدبٍ جديدٍ يقطع مع الماضي، ومع الأفكار الرجعيّة والمحافظة. عنهم كتب غابرييل غارسيا ماركيز يقول: "لقد كانوا إرهابيّي تلك الفترة... من دونهم ربّما لن يكون باستطاعتي أن أكون كاتبًا". ثمّ يضيف قائلًا: "لقد كانت فترةً رائعةً بالمعنى الحقيقي للكلمة... وكانت أيضًا فترةً ثريّةً بالاكتشافات، ليس فقط في المجال الأدبي، وإنّما في الحياة أيضًا... فقد كنّا نمضي الليالي في السهر حتى الصباح ونحن نتحدّث حول الأدب. وفي كلّ ليلةٍ، كنت أكتشف عنوانًا جديدًا أو عنوانين لم يسبق لي أن سمعت بهما... وكان هناك إسبانيٌّ يُدعى رامون فينيس له معرفةٌ واسعةٌ بآداب العالم... وهو الذي ساعدني على التعرّف على ويليام فوكنر، وعلى جيمس جويس، وفرجينيا وولف، وفرانز كافكا، وعلى آخرين من أمثال همنغواي، ورامبو، وغراهام غرين، وجوزيف كونراد".




لكن لضمان قوته اليومي، شرع غارسيا ماركيز في العمل في الصحافة. وفي الآن نفسه كان يكتب قصصًا ورواياتٍ لن تلبث أن لفتت انتباه أصدقائه في الحلقات والأوساط الأدبيّة التي كان يتردّد عليها. لكنّه لم يتمكّن من فرض وجوده ككاتبٍ إلّا بعد مرور سنواتٍ عدّةٍ عرف خلالها الجوع والعذاب والتشرّد خصوصًا في العاصمة الفرنسيّة باريس حيث أقام في فندقٍ حقيرٍ كانت ترتاده بغايا كان أحيانًا يُطلعهنّ على مخطوطاته لكي يحصل على ما يسدّ الرمق. وبسبب الحرب المشتعلة في الجزائر آنذاك، أوقفته الشرطة أكثر من مرّةٍ للشبه الكبير بينه وبين العمّال الجزائريّين.
لكن ذات يومٍ وهو يقود سيّارته القديمة في المكسيك، شعر أنّ فكرة الرواية التي شغلته على مدى خمسة عشر عامًا، قد تشكّلت في ذهنه. لذلك انعزل عن الناس لكي ينهيها. وعندما أنهاها لم يكن يعلم أنّ تلك الرواية التي اختار لها عنوان "مائة عام من العزلة" سوف تحقّق له شهرةً عالميّةً واسعةً، وبفضلها سيفوز بجائزة نوبل للآداب عام 1982.
لكن ماذا أراد ماركيز أن يقول من خلال هذه الرواية التي أحدثت "ثورةً" في مجال الكتابة الروائيّة، لا في أميركا اللاتينيّة وحدها، وإنّما في جميع أنحاء العالم؟
فهل أراد أن يروي تاريخ البشريّة كما ظنّ البعض ذلك؟
أم هل أراد أن يروي بطريقته العجائبيّة الموغلة في الخيال، تاريخ أميركا اللاتينيّة، أو بالأحرى تاريخ بلاده كولومبيا كما حاول أن يثبت ذلك البعض من النقّاد؟
وقد أجاب ماركيز على هذين السؤالين قائلًا بأنّه لم يفعل لا هذا ولا ذاك، بل كان هدفه الأساسي من خلال هذه الرواية الملحميّة التي تعجّ بالحروب، وبالنكبات والفواجع، أن يقدّم "مخرجًا أدبيًّا تامًّا وكاملًا لجميع التجارب التي أثّرت في طفولته بطريقةٍ أو بأخرى". وهو يضيف قائلًا بأنّه أراد بكلّ بساطةٍ أن "يترك شهادةً شعريّةً عن عالم طفولته التي أمضاها في بيت جدّه الكبير والحزين، برفقة أختٍ كانت تأكل التراب، وتتنبّأ بالغيب، وتقرأ المستقبل، وأقاربٍ كانوا يحملون نفس الاسم تقريبًا مثل أفراد عائلة بويندا، وأبدًا لم يكونوا يقيمون حدودًا بين السعادة والجنون".
أمّا عن أسباب اختياره لـ"العزلة" في عنوان الرواية، فيقول ماركيز: "عائلة بويندا التي تحرّك الأحداث الأساسيّة للرواية من البداية إلى النهاية، لا تعرف معنى الحبّ. وأنا أذكر أنّ آخر ابنٍ للعائلة الذي يُدعى أورليانو كان له ذيل خنزيرٍ. وهو الابن الوحيد الذي كان ثمرة قصّة حبٍّ حقيقيّةٍ. لهذا أقدر أن أقول بأنّ العزلة هي السمة الأساسيّة في حياة بويندا. وكما نحن نعلم، العزلة هي عكس التضامن".
وقد اعتبر النقَّاد أنَّ "مائة عام من العزلة" هي أفضل رواية منحت مفهومًا واضحًا لـ"الواقعيَّة السحريَّة". وقد يكون هذا التوصيف غير صحيح تمامًا إذ أنَّ آداب الشعوب القديمة تزخر بأعمال شعريَّة ونثريَّة تذهب بعيدًا في الخيال، وفي الغرائبيَّة. يكفي أن نذكر "الأوديسه"، و"الإلياذة" لهوميروس في أدب اليونان، و"ألف ليلة وليلة" في أدب العرب، و"الشاهنامة" في أدب الفرس، و"تريستان وأيزولت" في الأدب الأوروبي. وهناك أدباء من أميركا اللاتينيَّة قد يكون غابرييل غارسيا ماركيز مدينًا لهم. ففي رواية "بادرو باراما" للمكسيكي خوان رولفو ينطلق بطل القصَّة، وهو شاب في حوالي العشرين من عمره، في رحلة عجيبة في منطقة تحرقها الشمس بحثًا عن والده مُحاورًا الأموات والأحياء على حدٍّ سواء ليكشف حقائق مُغَيَّبة، ومخفيَّة. وفي رواية "السيد الرئيس" يغوص بنا الغواتيمالي ميغال أنجيل أستورياس في واقع بلاده التي تعيش وحشيَّة الاستبداد ومظالمه ومحنه المريرة في كل يوم، بل في كل ساعة، مُحطِّمًا الحواجز القائمة بين الواقع والخيال حتى أنَّنا نعجز عن التمييز بينهما. إلَّا أنَّ ميزة ماركيز هو أنَّه جعل من الواقعيَّة السحريَّة التي بدأت تتردَّد على ألسن النقَّاد انطلاقًا من نهاية الستينيَّات من القرن الماضي، فنًّا قائمًا بذاته. ومثلما ذكرت آنفًا، فإنَّه اعتمد على الواقع في بلاده، وفي بلدان أميركا اللاتينيَّة عمومًا. وهذا الواقع يزخر بأشياء خارقة. وهذا ما نلاحظه من خلال مستكشف أميركي قام برحلة عجيبة في نهاية القرن التاسع عشر إلى الأمازون في البرازيل حيث شاهد مياهًا حاميةً منها يتصاعد البخار، ومكانًا يُسبِّبُ فيه الصوت البشري تهاطل الأمطار. وفي "كومودورو ريغادافيا" بأقصى جنوب الأرجنتين، حملت رياح قطبيَّة سيركًا بكامله. وفي اليوم التالي، عاد صيَّادو الأسماك ومعهم جثث نمور وأسود وزرافات. لذلك سمح ماركيز لنفسه بأن يروي لنا في "مائة عام من العزلة"، أحداثًا غريبة، مقدِّمًا لنا شخصيَّات لها ذيل خنزير، وأخرى تطير إلى السماء بشراشف بيضاء، وحولها تحلِّق فراشات بمختلف الألوان، وتستعيد شبابها بعد أن تتجاوز سنَّ السبعين، أو الثمانين، أو هي تعود من العالم الآخر لتروي حكايات مرعبة عن عالم الأموات. وبالنسبة للبطل الرئيسي في "مائة عام من العزلة"، أعني بذلك خوزيه أركاديو، يمكن أن نقول إنَّه شبيه بآدم. فهو يعطي الأوامر في مطلع موسم البَذْر، ونصائح لتربية الأطفال، ومع الجميع يساهم في الأعمال اليوميَّة اليدويَّة. لكن ذات يوم، ينفصل عن شخصيَّة الإنسان البدائي الأوَّل الذي هو آدم ليتحوَّل إلى كائن مجنون، مُقيَّدَ اليدين والرجلين تحت الشمس الحارقة، مُطلقًا أصواتًا غريبة شبيهة بأصوات الحيوانات المعذَّبة. وفي البداية، تكون "ماكاندو" مقطوعة عن العالم، ولا مقبرة لها لأنَّها لم تعرف الموت حتى ذلك الحين. وكان سكَّانها قليلين، ولا مفاجآت فيها إلَّا عندما يأتي الغجر، ومعهم حيواناتهم وأدباشهم الوسخة وتعاويذهم وطلاسمهم وحكاياتهم العجيبة. ثمَّ تتتابع الحروب والفواجع، ويتقاتل الإخوة الأعداء حتى الموت. وفي النهاية تتحوَّل "ماكاندو" إلى زوبعة رهيبة مثل إعصار من الغبار والدمار يذكِّر بـ "غضب توراتي عاصف". ولعلَّ صحيفة "نيويورك تايمز" كانت محقَّة عندما علَّقت على "مائة عام من العزلة" قائلة: "تصحو بعد قراءة هذه الرواية الرائعة كما تصحو من حلم، عقلك وخيالك جامحان، بل ملتهبان، وأمامك غابرييل غارسيا ماركيز العملاق كخياله وعظمته".