Print
رشيد الحاج عبد إغبارية

فيلم "أمور شخصيّة" للفلسطينية مها الحاج: وجع الوجود البارد

30 أكتوبر 2016
سينما

"أمور شخصية" يسبر غور ذوات بشرية في واقع مسلوب الوطن ويمارس ألاعيبه في كشف كل ما تراكم من أوساخ وزيف في أعماقها.

دعونا نتوقف قليلًا أمام كلمة وطن، فنخلع عنها كلّ الحمولات الزائدة من طرف كتب حماسية ومن جانب دكتاتوريات اندثرت أو ستندثر، ونحاول أن نعالجها بعيداً عن فيض المشاعر المزيفة التي تسكب حولها الكثير من الوهم.

ماذا يعني الوطن بالنسبة للإنسان؟

كيف يمكن للبشر تفكيك هذه الكلمة إلى ممارسات يومية تجعلهم يشعرون بهذا الوطن الموجود، وكيف ستصبح حالهم عندما يُفقد هذا الوطن؟

هل نسكن نحن في الوطن أم يسكن الوطن فينا؟

من الجليّ -لي شخصيًا على الأقل- أنّ الوطن يمكن تفكيكه إلى مجموعة لا نهائيّة من الممارسات الشخصية الصغيرة، ابتداء من مشاغل يومية و"أمور شخصيّة" تخلق معادلة سيميائية تبني لنا شعورًا عامًا بالوطن، أو لربما يتحلل الوطن في معادلة تفكيكية تضفي القيمة على أمور حياتنا الشخصية.

ماذا سيحدث إذًا عندما يتشوه هذا الوطن أو ينعدم، وكيف سيؤثر ذلك على علاقتنا بالبحر أو بزوجاتنا وعلاقاتنا الحميمية، وكيف سيؤثّر على أكلة الملوخية التي نرسلها إلى أبنائنا أو على طعم القهوة التي نشربها أو حتى على غطاء غلاية القهوة الذي يرفض أن يبقى خارج مكانه؟

هنا تمامًا تضرب المخرجة الفلسطينية مها الحاج (ابنة مدينة الناصرة) ضربتها المتقنة في استخلاص هذا الوجع، تلك السّموم التي ترشح من كل ما هو شخصي في حياة أبطال فيلمها الأول "أمور شخصية".

عائلة كاملة تعيش وجع وجودها البارد. الأم التي أصبح بطلها كيفانش تاتليتوغ (الشهير بمهند، عارض أزياء وممثل تركي ولاعب سابق لكرة السلة) يسطو على مشهد يومها مثل سجادة كبيرة تكنس تحتها كل تعاستها، وتستوفي نهارها بسدّ حاجة الأم لتطعم أطفالها وتكسوهم وتعتني بهم حتى لو هاجروا إلى دولة ببرودة السويد، ولربما بقيت غريزة الأمّ هي السد المنيع في وجه أي كلمة فضفاضة لتبقى كما هي رغم أي ظرف من الظروف ومهما ابتعدت المسافات، حيث تستطيع مكالمة هاتفية بسيطة اجتياز تلك المسافات برشاقة لتضع الأم في حضن ابنها.


البحر السارق

ألا يوجد هناك خيط رفيع بين الكلب الذي ترفض صاحبته أن يجالس ذلك الغريب القادم من دولة حارّة، وبين سلطة أصبحت كابوس مستعملي برمجيّة "وييز" حين تأخذهم إلى فلسطين التي تجسدت كمرآب للسيارات، وبين طبخة الملوخية التي تريد الجارة السمجة إيصالها عبر "المحاسيم" (الحواجز العسكرية)، ليصل الخيط أخيراً إلى بحر يسرق الزوج من زوجته الحامل ويختطف أحلامه ليصبح هو "الحلم" الذي تحققه مخرجة أميركية بجرّة قلمٍ غير مقصودة معتبرة الحدود نوعًا من "براز الثور".

ترى أليس ذلك التخلخل الكوني في وطن "جورج" المزيف هو الذي حوّل القميص من هديّة جميلة، إلى إشكالية في لقائه الأهم بهوامش الوطن الأصلي؟

بين الناصرة ورام الله ننسى قليلا درب الآلام الممدود بينهما، حتى لنعتقد أنهما حارتان متجاورتان لنقفز إلى جورج وسمر الحامل، والقنبلة التاريخية الموجودة في البيت، الجدّة التي ذابت فيها النكبة حتى صارت هي النكبة التي تأبى أن تذكر نفسها ولا تجد أي حيّزٍ للخروج من حصارها الصغير، لتجد نفسها فقط في أغاني أسمهان ومحمد عبد الوهاب، هي فقط تذكر لون النجمة "الخماسية" التي لم يقتنها والدها كما أرادت تماما، كم من الوقت بقي لنا يا ترى حتى ينتهي جيل "نكبتنا" لنبقى مشرّدين معلقين في شوقنا إلى وهم لم نذق طعمه أبدا؟

وتتوّج "أمور شخصية" بعلاقة ميساء وطارق، يتمازج فيها المرّ بالحلو، ويضيع الـ "واو" في واقع يفرض عليهم صيرورته ليسيروا نحو صدام حتمي سيأتي آجلا كما حدث مع جورج وسمر أم عاجلا على الحاجز ليخلق الـclimax أو الذروة بأقرب ترجمة للعربية، تماما في نهاية الفيلم، حين يرقص البطلان، لكن للأسف هذه الرقصة كما أراها هي رقصة الطير الذبيح قبل أن يستكين، إنها الجمال الفوضوي في إطلالة الوجود الأخير قبل الخلاص. ولربما تذكرني أكثر شيء بطريقة غير مباشرة بنهاية فيلم "leaving Las Vegas".


اسم جورج

بما أننا في زمان التشرذم لا بد لي من أن أتطرق إلى البعد الطائفي، فبرغم أن العائلة مبدئياً يمكن أن تكون في أي بقعة من العالم، إلا إن ذلك البيت الورقي لن يُنجز إلا في واقع مسلوب الوطن، ولا يُسِرّ بديانة أبطال الفيلم سوى الاسم "جورج" حيث كان بالإمكان أن يكون اسمه محمد دون أن يتغير السيناريو قيد أنملة فنحن نتشارك هذا السَلبَ من غير أن يميز الجاني بين ضحاياه. لكن زمن الطوائف يبدو أنه أفرغ الحاجة إلى قاتل مأجور ليدع القتيل يقتل القتيل.

ومرة أخرى وأخيرة: ما هو الوطن؟ 

دعوني أدلي بدلوي في محاولة فاشلة أخرى لتعريف الوطن: الوطن (السويدي) هو سجادة على الحائط تشبه سجادة صلاة عليها رسوم لمعالمه، تقع في كوخ سياحي على ضفاف بحيرة لا يخدش صمتها سوى صفير الرياح وخرير الماء. تعمّدت عدم الخوض في مجريات الفيلم حتى لا أفسد متعة مشاهدته.

باعتقادي، "أمور شخصية" فيلم جدير بالمشاهدة، يسبر غور ذواتنا بمهارة جرّاح قلب عبقري، يشق الصدر بمشرطه ويتفقد الأوعية المغلقة، ويمارس ألاعيبه في كشف كل ما تراكم من أوساخ وزيف في أعماقنا، لكن هذا الجرّاح (المخرجة مها الحاج) مهما بلغت مهارته، لا يملك جميع الأجوبة والحلول، ولا يستطيع حتما إنقاذ حياة مريضٍ استفحل فيه المرض.

مشاهدة الفيلم ستجعلكم تعانون من نوبات ضحك وحزن متزامنة ومن دُوار وجودي ألمّ بي خلال مشاهدته ولم يدعني إلى الآن.


* كاتب من حيفا/ فلسطين 48

(لقطة من الفيلم)