علاء يجمع مئات الصور: له ولعائلته ولأصدقائه، لمعارفه المواطنين من الجيرة والبعيدين. تسعى عدسة كاميرته كما هي بصيرته في اقتناص تفاصيل جسد العملاق المتهاوي، وقد تشرذم خارج حدوده نصف سكان البلد مجهزين فقط بحقيبة ذكريات فارغة دامعة، يهيمون على وجوههم مثل فناننا في العراء، عراة من كل شيء خاصة من خارطة الوطن. يضربون في اللامكان والعدم، في أرض الله الواسعة الجديدة.
هو المعرض الثاني في باريس، سبقه عام 2015 معرض "طاولة حوار". من مواليد دمشق عام 1983، ومن خريجي كلية فنون دمشق عام 2005.
تتجول معارضه منذ ذلك الحين بين بعض المونوبولات العربية والغربية. يعانق المعرض الراهن عشر لوحات كبيرة تقع سطوح الأكرليك فيها بين إشارات حقائبه المبسّطة المنفلتة في الفراغ ضمن حومان انفجاري مركزي. يذكر بدرجة بعيدة بطبوغرافية تجريدات بولياكوف. ولكنها أشد تشظياً في الفراغ. ثم ست لوحات صغيرة متجمّعة في ركن حميم، يغلب على أدائها الرسم بالخط الغريزي الصدفوي الموهوب. ترسّخ خبرته في الرسم والكرافيك مهنته الثانية التي تكاد تتفوق على المسطحات اللونية الموادية الأولى. يتصدر المجموعة عرض فيديو دائم مدته أكثر من أربع دقائق يتفوّق تأثيره وحدّة تعبيره وقوّة وثائقيته ليس فقط على المعرض وإنما على كامل تجربته الأخيرة. خاصة وأنه يستشرف بسياقه المتحرك المتحول بالمونتاج جملة من المشاريع المستقبلية لتجهيزات إنشائية بليغة التعبير. تكمن قوّة التأثير التراجيدية في فيلم الفيديو من اختيار هيئة الحقيبة العتيقة، لأنها أقرب بشكلها المنماليست الهندسي المتوازي المستطيلات إلى الرمز المتجذّر في اللاوعي الجمعي الشعبي الدمشقي (كانت تباع في "حي السروجية" وفي "ساحة المرجة" خاصة من الريفيين العابرين). إذن هي حقيبة الفقراء أو الطبقة الشعبية. بتشريحها العاطفي الحميم.
ثم هناك أكوام من الوثائق الفوتوغرافية المهترئة بفعل الحرب والزمن. شظايا من مذكراته وشخصياته الغائبة أو الحاضرة، المغتالة أو النازحة، القريبة أو البعيدة، لكن قوة تعبير الفوتومونتاج جعلت من هذه العلبة السحرية (الحقيبة المغبرة الصماء) أشبه برئة حية تتلقف أكوام الوثائق بشبق الشهيق، وما أن تطفح بحشودها حتى تأخذ "الحقيبة - الرئة" حالة الزفير، تتقيأ أحشاءها المتخمة بالذكريات الدامعة الحدادية. لتعاود بشوق ارتشافها من جديد، ثم تعود لتقذف بحممها الرمزية بطريقة غثيانية بركانية وهكذا..
أما الفيديو فقد وجدته أشد تعبيراً وتفوقاً عن كل ما أُنجزَ من فيديو عن "القيامة الشامية" والمحنة السورية الفظائعية حتى الآن. بتغييرها الديمغرافي وطرد أكثر من نصف سكانها خارج خارطة الوطن. لذا فهو يحتاج إلى إعادة عرضه في موقع أكثر قدرة على إشاعته إعلامياً، مثل معهد العالم العربي أو محطة آرت أو القناة الخامسة الثقافية الفرنسية أو سواها.
معرض يعاند النسيان مثل عنوانه "ذاكرة حقيبة" - تاريخ ما يسبق قرار الانسحاب والنزوح من أسى ولوعة وقهر، وحيرة البحث في اللامكان وفي العدم عن وطن بديل. تحتشد الحقيبة قبل معانقتها احتياجات السفر بالحداد وذاكرة الموتى والمختفين والغائبين تحت التعذيب والحاضرين الندرة. تصبح هذه العلبة السحرية رهينة قرار الرحيل وراء غريزة البقاء، و بعد أن أصبح الاغتيال والإخصاء مصيراً محتماً ديمقراطياً بامتياز. تذكّر ذاكرة هذا الكائن المعلّب بغياب الخيار، لأن المخاطرة بالبقاء في المسلخ الانتحاري ومحاكم تفتيش العصور الوسطى وأدواتها السادية أصبحت مكابرة سوريالية.
يلتاع المعرض بأسفار الخنساء وإلكترا وتكتم حقيبته عويلاً ونحيباً مكبوتاً مخنوقاً، ضمن فانوس علاء الدين، حزنه بحجم الخارطة العملاقة التي تعيث فيها الغربان عبث الشر واستباحة كل المحرمات.
تكتوي شهادة الفيديو المعروض بألوان الغربة والانسلاخ الكافكاوي عن مواطن الطفولة، وأحضان الدهشة الأولى، تحمل زواياها الأربع أوراقاً ثبوتية تخصّ صاحبها اليتيم من فروع شجرته العائلية، ذاكرة إقصاء وبتر، ترمي بمحتوياتها الصورية الكابوسية على ضمير من قرر قسراً الطلاق وغسل الماضي عن المستقبل، والقناعة المهزومة بوجودية الراهن وقدريته الحتمية. حقيبة أشبه ببوابة الجحيم، بوابة عبور من القيامة الشامية ولعنتها الأبدية التي تلاحق حاملها حتى نهاية العالم والكون والفلك الأعلى.
تعلّم حامل الحقيبة من سيزيف كيف يحمل الصخرة العبثية دون هوادة، منخرطاً في دوامة ليل دامس بزمانه المتاهي الحلزوني المنطوي على ذاته، حتى تحوّلت الحقيبة إلى قبر مسافر.