Print
مريام فان هيه

الشِّتاء في الجنوبِ وقصائد أخرى

30 ديسمبر 2024
ترجمات

ترجمة: عماد فؤاد


متحف المدينة

نتبعُ دربًا زجاجيًا لم نعتده
ننحني على كتيّب خريطة المدينة
نجلب منه الأماكن
لنعود بها إلى البيت
تلك التي تبدو لنا كضوء النهار في الليل
ها هي بين مكتب البريد
والمتنزّه الصغير المتهالك
هنا تقف تلك الصفصافة التي كان لا بدّ من قطعها
وهناك باحة اللعب وحمّام السباحة
يملؤنا الشوق، ونرتجف كما لو كنّا هناك الآن
في أحذيتنا البلاستيكية المؤقّتة
نتفحّص جوانب الشوارع المعتمة
بيت جوار السكة الحديدية
لم نصبح فيه مريضين
بل أكبر سنًّا
توقف طفونا في الهواء
توقف بحثنا عن تواصل
وهناك، على الناصية أمام المكتبة
كثيرًا ما انتظرنا الترام هناك
وأثناء انتظارنا
بدأت الثلوج تنهمر فوق كل شيء
وفوقنا.

***

ليلة في دون لاوهاير[1]

(1)
روت السيدة اللاتفية
عن المصير الذي آلت إليه الشعوب
دفع الفنلنديُّون الألجمة بثبات
نحو الشَّمال
وقاتل البروسيون بضراوة
لا بدّ ستسمع أنهم هلكوا جميعًا
في غزواتهم
لماذا هنالك القليل
من القصائد المضحكة؟
تنهدت السيدة اللاتفية
قبل أن تومئ للنادل وتطلب المزيد من الويسكي
ثم نظرت إلى الخارج
وقالت إنه لم يبق أحد يتكلّم البروسية.

(2)
كان البحر والسماء قد امتزج أحدهما في الآخر
وكانت المنارات لا تزال تشير إلى الأفق
تومئ لا كأب أو كصديق
بل إيماءة الحياة الأبدية
حيث حرية الذهاب والإياب
نهاية، لم يكن في الإمكان رؤية شيء
سوى النخيل في الضوء القادم من غرف الفندق
وعلى مسافة أبعد
كان في استطاعتنا سماع خبط الحبال
على الصواري
ثمّة ديكور لكل شيء
للّقاء مجددًا، للوداع
وللانتظار.

(3)
العالم كبير، قالت السيدة اللاتفية
أوروبا وأميركا، وفي سيبيريا
مات أبي
نتحدَّث أقدم لغة في أوروبا
ونحن قليلون
لذا نتكلم كثيرًا
كانت أمي تقول: يجب على الناس
غسل أفواههم بالصابون
أين أمي الآن...
لماذا لا أتمكَّن من الصمت...
لماذا لا أستطيع البكاء؟
قالت السيدة اللاتفية: الحياة طويلة
وما من أحد يبادلها معي.

(4)
من موضع جلستي، رأيت جزيرة
تشرق عليها الشمس، من حين إلى حين،
كما تشرق عليَّ.
طيور النورس في الأسفل تصدر أصواتها شاكية
قلقة ومتوترة: كأنها في أوطانها.
تلوَّنت الجزيرة بالرمادي الداكن
ثم عادت خضراء بقوة
كما لو أنها خجلت
وعندها أدركت أن الشمس عُبِدَتْ ذاتَ يوم
بدا الأمر وكأنك تحظى بالاهتمام منها أيضًا،
حتى ولو كنت وحيدًا
تمامًا.

***

فيلم

(1)
حدث ذات مرة أن شاهدت فيلمًا ولم أفهمه
حتى رأيت نهايته
بعد أن قضيت ساعات أطوف في مساحة معتمة بلا ألوان
أستمع إلى أحاديث عن الفراغ والحقيقة
والوحدة بين الناس.

حينها
وصل المصوّر إلى بيت تحيطه حديقة،
أرجوحة وقطة على العشب
أذكر أشجار البلّوط والصنوبر
وخيطًا من الضوء في الغابة، وخضرة
ما زلت أرى المشهد، الأخضر كان الختام
بعد كل الرمادي والأسود والأبيض،
اُخترع اللون الأخضر، معجزة الفناء،
مختصرًا، وعاجزًا عن الكلام.

(2)
فاتنا القارب إلى الجزيرة
والطريق لم تطابق الخريطة،
مررنا بمنازل العطلات الفارغة
وعلى الجانب الخطأ من الجدول
أصداء أصوات الطيور في أعالي الأشجار
كان ربيعًا مُدَوِّخًا
فجأة انكشف أمام أعيننا سهل
نوع من السهول الأذربيجانية
التي كانت تطلّ على البحر، سهل طويل
شيء ما في البعيد يتحرك، حصان
ببطء اقتربت سحابة الغبار
هل كانت هذه النهاية حقًّا
أم البداية

بحثت عيوننا عن حصان ثانٍ
فوجدناه، راقدًا، قريبًا نسبيًا من الأول
بقعة صغيرة داكنة في الزمن
قرّرنا الانتظار
حتى يحرّك الثاني ذيله أيضًا
في الضوء الخافت
للنهار البطيء.

(3)
ببطء... صعد الضيوف المنحدر
نراقبهم، ونرى بالأعين ذاتها
الهوة التي اختفت فيها الشمس قبل قليل
نسمع أصواتهم... ها هم الآن يستقلّون مركباتهم
نسمع أبواب السيارات، ونبقى واقفين على حافة الليل
الذي يمتدّ بلا نهاية
مثل المياه الزرقاء الداكنة
الآن يشعلون الأضواء، يغادرون
وما من شيء يشير إلى تغيرّ كبير
تهتزّ الأشجار بهدوء، وبين الحين والحين
تنعق بومة من بعيد
لا نهاية... ولا بداية
ونحن لا نذوب... لا يمكننا الاختباء
نسمع كيف يبدأ صرصار في مكان ما، قريبًا منَّا، في أغنيته
متعثرًا في البداية، ثم بشجاعة وبلا عائق
لا نعثر عليه
لكننا نبحث...
نبحث.

***

الشِّتاء في الجنوبِ

تخيلتُ الرِّياحَ
دون أَجَماتٍ أو أشجارٍ
والشَّمسَ دونَ جلودِنا
ثمَّ رأيتُكَ تمشي
وذراعاكَ بعيدانِ عن جسدِك
كما لو كنتَ على وشك مغادرة الأرضِ
كما لو كنتَ تجرب الرِّيح
لا بدَّ أن يكون البحر هناك
في موضع ما
بعيدًا خلف الجبال
لكنَّنا لم نره
وظننتُ أنَّ كلَّ شيء طبيعي هكذا
زرقة السماء الحميمة
وظلالنا الأرجوانية
فوق الثلوج.

***

نهاية الصيف على نهر "لايه"[2]

هذا ما قد يراه رسّام ما:
الحافة العشبية الشاحبة، الكستناء وأشجار الليمون
ضوء المساء الدافئ لكن العابر
وعلى الضفّة الأخرى
عدّاء أمام السياج، وأفكاره،
كيف ترسم تلك الصورة
والنوارس فوق الماء
وجلال اليخت بين الضوء الأخضر الفاتح والداكن
تحوّل الأشياء، والاتجاهات
حتى المياه نفسها حيث نجلس
لا يمكنكَ رؤيتها
وما زلت أتساءل: كيف تَرسم المسافاتَ؟
بألوان أخفّ فأخفّ ربما، حتى لا يتبقّى لك سوى البياض
وكيف ترسم الماضي
حين كنتَ لا تزال تسير هناك
كيف ترسم معنى أنكَ لن تسير هناك مرة أخرى
وأنت تحاول الانفلات تمرّدًا
من يدي أبيك.

هامش:
(*) مريام فان هيه: شاعرة ومترجمة بلجيكية، ولدت في مدينة غنت عام 1952، حيث درست فقه اللغات السلافية، لتصبح أستاذة أكاديمية في تدريسها في جامعة أنتويرب، والترجمة عنها. نشرت فان هيه حتى اليوم 12 مجموعات شعرية، بدأتها عام 1978 بمجموعة "الوجبة الضئيلة"، والتي حصلت عنها على جائزة الشرق الفلمنكية للآداب، وأتبعتها بعدد لافت من العناوين الشعرية التي نالت جوائز مهمة، من بينها: "غرف داخلية وقصائد أخرى" (1977 ــ 1980)، "مكسو بالثلوج" (1984)، "نبتات مقاومة للصقيع" (1988)، "مال الرحلة" (1992). إضافة إلى مجموعة "خلف الجبال" (1996) التي نالت عنها جائزة الثقافة الفلمنكية للشعر عام 1998. وفي العام نفسه جُمعت قصائدها تحت عنوان "الرابط بين الأيام: قصائد" (1978 ــ 1996)، ثم توالت مجموعاتها الأحدث: "قطاف التوت الأسود" (2002)، "في الخارج" (2007)، "هناك أيضًا يسقط الضوء" (2013)، "كما لو تم استدعاؤنا إلى مكان ما" (2017)، وأخيرًا مجموعتها الشعرية الصادرة عام 2022 تحت عنوان "لمن يمر عليه الوقت". وقد تُرجمت مجموعة كبيرة من أعمال مريام فان هيه إلى أكثر من 10 لغات، ومن أهمها الفرنسية، ما دفع مجلة Littéraire إلى اعتبارها "الاكتشاف الشعري الأهم في السنوات القليلة الماضية". كما ترجمت فان هيه أعمالًا شعرية لعدد من الشعراء الروس البارزين، من بينهم أوسيب ماندلستام، وأنّا أخماتوفا.

إحالات:
[1] دون لاوهاير Dún Laoghaire- مدينة ساحلية في ضواحي مقاطعة دبلن في أيرلندا، وهي المركز الإداري لمقاطعة دون لاوجير راثداون.
[2] نهر لايه DE LEIE (بالفرنسية Lys)- نهر ينبع في مدينة ليسبورغ الفرنسية ويصب في مدينة غنت البلجيكية، وهو أحد روافد نهر سخيلده ويبلغ طوله حوالي 200 كيلومتر، عابرًا الحدود البلجيكية الفرنسية.