وعلى خلاف كثير من الكتاب، لم يواجه بروست أزمة مع الفقر، إذ ولد لعائلة غنية، غير أن المعاناة جاءت إليه من خلال المرض، إذ عانى الكاتب الفرنسي الشهير من مرض الربو، وبسببه قضى فترات طويلة من حياته في الريف من أجل الاستشفاء، ما ساعده على الانعزال عن المجتمع، والانكفاء على نفسه وقتاً أطول. وفي سن السادسة والعشرين، اشتد المرض عليه، وبات أكثر انعزالاً، إلى أن جاء العام 1905، وهو في سن الرابعة والثلاثين، عندما توفيت والدته ليواجه بعدها بروست أزمة مضاعفة، عضوياً بسبب مرضه، ونفسياً لفراق والدته.
ومستفيداً من قراءاته التي جعلتها العزلة ثرية وكثيرة، بدأ بروست في كتابة عدد من المقالات للصحف الباريسية، فضلاً عن نشر عدد من القصص والكتابات النقدية، غير أن هذه الكتابات لم تحقق ردود أفعال كبيرة، ولم تحظ بالصدى الكبير.
وفي أواخر العام 1913، بدأت مرحلة جديدة من حياة مارسيل بروست، عندما صدر الجزء الأول من "البحث عن الزمن المفقود" ليحقق نجاحاً كبيراً شجعه على إصدار الجزء الثاني الذي حاز عنه على جائزة غونكور الشهيرة والمرموقة، ليتابع بعدها إصدار الجزءين الثالث والرابع من روايته، التي حرمه الموت من استكمال أجزائها الثلاثة المتبقية: "السجين" و"الهارب" و"الأزمنة المستعادة"، حيث كان يهدف بروست إلى إصدار سبعة أجزاء من الرواية، ليقرر شقيقه روبرت أن يجمع مسودات الأجزاء الثلاثة، ويصدرها دون تنقيح كاتبها، ما جعل مقاطعها تبدو متفاوتة الجودة.
وعبر أربعة آلاف صفحة، ومليون ونصف المليون كلمة، وأكثر من ألفي شخصية، نجح
ولأن حياته لم تكن عادية، كتب بروست رسائله التي أتاحت للقارئ الاطلاع بصورة أكثر وضوحاً على عالمه الخاص، والظروف التي أنتج فيها أعماله، خاصة أنه بدأ مشواره كاتباً للمقالات، ثم عكف على ترجمة أعمال الشاعر الإنكليزي جون رسكن إلى الفرنسية، وبعدها أصدر كتاباً يضم بعضاً من مقالاته وأشعاره، بعنوان "المسرات والأيام"، وصدرت الرسائل عن دار الرافدين في 544 صفحة بعنوان "رسائل مارسيل بروست".
وعلى مدى عدة سنوات، تبدأ من 1855، وتنتهي في 1922، كتب مارسيل بروست رسائله، التي كشفت عن معاناته، والجوانب الشخصية لديه، خاصة أنه كان شخصاً متقلب المزاج. ولعل مرضه ووحدته، ورحيل أمه، كانت أسباباً مباشرة في ذلك، رغم أنها أيضاً كانت أسباباً كبيرة لأن ينخرط تماماً في الكتابة، للدرجة التي جعلته يواصل كتابة الأجزاء الأخيرة للرواية وهو على فراش المرض.
ولأن رؤية بروست لفن الرواية كانت مغايرة للجو السائد وقتها، فإنه واجه صعوبات عدة من أجل نشر روايته: "لم تعد دور النشر ترغب في نشر روايات طويلة؛ فضلا عن ذلك، فإن بعض الروائيين يكتبون روايات ذات حبكة موجزة، وشخصيات قليلة. إن ذلك بعيد عن مفهوم الرواية الذي أؤمن به. ما يهمني، من كتابة هذه الرواية، هو أن يفهم الناس ما كنت أحاول فعله؛ رب حدث تافه صغير يكشف لنا عن مرور الزمن وانقضائه، وأن بعض الصور الجميلة تزداد جمالاً على مر السنين".
وكانت علاقة مارسيل بروست مع شخصياته لافتة، وعميقة أيضاً، إذ لم يكن من السهل عليه