}

ذكرى خوان غويتيسولو.. أعرف أنك لا ترحل

ميسون شقير 25 يناير 2020
استعادات ذكرى خوان غويتيسولو.. أعرف أنك لا ترحل
خوان غويتيسولو (1931- 2017)
ولد خوان غويتيسولو (1931- 2017)، الذي حلت ذكرى ولادته هذا الشهر، كما ولد الفلسطيني، ثم السوري، ثم العراقي، واليمني، كما ولدنا جميعا، في زمن الكارثة.

كبر خوان كما تكبر الورود، والمجازر أيضا، وكبرت فيه صورة أمه ضحية إحدى جرائم فرانكو، كما تتنامى فينا صور أمهاتنا المطعونات في القلب كالصبار.
كبرت فيه الصورة، وحوّلته لعدوّ كل الدكتاتوريات في العالم، ولأشد معارضي فرانكو.
وكلما كبر أكثر، كلما حفر في الذات البشرية محاولا فهم تلك الأسباب التي تقود إلى وجود أفكار توصل الى أن يرضى الإنسان يوماً بهذا الاستبداد.

مفهوم الأنا الأوروبية المتضخمة
أيقن خوان مبكرا الدور الرئيسي لمفهوم الأنا الأوروبية المتضخمة لدى الشعوب المتفوقة، أو الغنية، وخاصة الأنا المتورمة لدى الشعوب الأوروبية.
استوعب خوان مبكرا دور الأساطير المؤسسة للقومية الإسبانية، بشكل خاص في صناعة إنسان عنصري عنيف، لذا فقد عرى سقوطها الأخلاقي وزيفها الحضاري، ومن أكثر ما انتقده خوان الباحث دائماً عن الحقائق، هو الإهمال الممنهج الرسمي الذي تقوم به المؤسسات الثقافية الرسمية في إسبانيا، للدور الأساسي والمحوري للثقافة العربية في بناء ملامح الشخصية الإسبانية، وبناء بنيتها المعرفية والحضارية.

اعتبر أن إسبانيا قد ارتكبت جرما حضاريا، وقد عبر عن ذلك في كل لقاءاته، وحواراته، وأعلن أن أسوأ ما قامت به إسبانيا، منذ بدء تشكلها، هو طرد العرب المورسكيين من أراضيها، وأنها بطردها لهم من قبل فكر ديني متطرف قد طردت أهم وأجمل ما تحمله الشخصية الإسبانية، وجعلت الإنسان الإسباني يعاني فقداً حاداً في هويته، وخسارة عميقة في تركيبته النفسية والفكرية والإبداعية. واعتبر أن هذا الطرد هو تعد على التاريخ، واغتيال للحضارة، وقد كرس كل حياته لإثبات هذا الدور من خلال ما قدمه من كتب بحثية تاريخية، كان أهمها كتاب "وقائع إسلامية" الذي انتقد  فيه بشدة القيم الرسمية الكاثوليكية التي قامت عليها إسبانيا في عهد فرانكو،  والتي لم تزل موجودة في الوجدان الإسباني حتى الآن، كما أن سيرته الذاتية "ملوك الطوائف" كانت أوضح الأمثلة على إقراره بشدة إعجابه بالثقافة العربية الإسلامية وبدور هذه الثقافة في بلورة تجربته الأدبية.
أدخل خوان عمق معرفته بالصوفية الأندلسية وبالأدب الصوفي الأندلسي في كل رواياته، ولعل رواية "فضائل الطائر المتوحد" هي من أمتع ما يمكن لعربي ضاعت أندلسه منه وفيه، أن يقرأ. فكم هو ملفت أن نقرأ لروائي إسباني ما لا نعرفه نحن عنا، وأن نكتشف في ما ترك لنا، الحضارة الرائعة التي أنجبتنا، فالرواية هي حكايات متتالية متقاطعة ومعقدة تتشابك وتتفرد ضمن طروحات فلسفية وشعرية لابن عربي، ولابن الفارض. أما رواية "الأربعينية" - أو ما سميت "برزخ"- فقد تسببت بزلزال نقدي حولها وقد سماها الكثير من النقاد بأنها الرواية الحديثة الرديفة لرواية "الجحيم" لدانتي ولعل أكثر ما يدهش فيها هو بناء كل أحداثها على المكان الذي عاش فيه خوان أجمل أيام عمره، والذي كان أقرب الأمكنة إلى روحه؛ إنه ساحة جامع الفنا في مراكش، وقد شكل المكان مع البعد الفلسفي التصوفي، حالة من الدهشة ضمن مزج رشيق لكل محتوياته مع إسقاطات تاريخية وفلسفية خطيرة تجعل من الأنا الأوروبية العرقية مجرد أسطورة فاشلة.
ترك لنا خوان إرثا غنيا من روايات مميزة ومتفردة بطريقة سرديتها، وبعمق معالجتها للقضايا الكبرى والمفصلية في تاريخ البشرية، ولقد صارت تلك الروايات من أهم الروايات الأوروبية الحديثة. وستبقى تشكل لنا، نحن العرب المحكومين بالقهر، مرايا مدهشة لنتفرج فيها على أنفسنا، ولنرانا في مراياه أجمل.

روايته "الأربعينية"  تسببت بزلزال نقدي حولها وسماها الكثير من النقاد بأنها الرواية الحديثة الرديفة لرواية "الجحيم" لدانتي


















مدينته الحقيقية
وأخيرا، في مدينته مراكش، المدينة التي أهدى إليها جائزة "ثرفانتس للآداب"، المدينة التي قال إنها "مدينته الحقيقية التي استقبلت شيخوخته المتعبة"، تمدد خوان غويتيسولو، بين كتابات تصل القلب وتثير زلزالاً من دهشة وسؤال، وتركنا معلقين بحبل أحلامنا، نكتشف ثقافتنا في كتب لكاتب هو أشهر كتّاب إسبانيا الحديثين، وأجمل من بحث عن ثقافة عمرها آلاف السنين كانت قد عمّرت في إسبانيا منجزاً معرفياً وحضارياً كاملاً.

لا يرحل خوان غويتيسولو، الإسباني العربي المغربي.
لا يرحل من ترك ظله مستلقياً، صامتاً كعادته، متعففاً عن كل السطوح اللماعة، طاعناً في جرأته، وفي حزنه الشفيف، لا يرحل بل يستريح قليلاً من حمل صليبه الثقيل ثم يعود على شكل سحابة من معنى.
لا يرحل من تبنى عدالة القضية الفلسطينية أكثر مما تبناها العديد من الكتاب العرب، ودافع عن منظمة التحرير الفلسطينية وعن حقها في نضالها المشروع كأنه ابن حيفا الذي لا يخون البرتقال.
لا يرحل من دخل إلى الذات البشرية بكل ما فيها من تناقضات مختارا الطريق الوعر والبعيد في الوصول إلى ذئب المعرفة، وغزالة الإبداع.
لا يرحل من رفض بكل ما أوتي من أدوات، سلطة الديكتاتورية والقمع السياسي والفكري في كل مكان، لا يرحل من رفض فرانكو، ديكتاتور إسبانيا، ومن حول نفسه إلى حالة كاملة من المواجهة التي لا تتعب، حالة من الدفاع الشرس عن كل ما هو حر وحقيقي فينا، حالة من التبني الكامل لتعرية كل ما يظلم الآخر، وكل من يقصيه، وكل من يزيّف التاريخ والأدب والمعرفة والسياسة لأجل مطامع سياسية، أو شخصية، أو لأجل أسباب دينية هشة.
لا يرحل من وقف مع حق الجزائريين في الاستقلال، ومن أعلن عداءه لحكومة فرنسا المستعمرة.


لا يرحل من كان ضد مذابح سراييفو، وضد مذابح الشيشان.
لا يرحل من رفض، وبكل شدة، جائزة القذافي للآداب برغم كبر قيمتها المادية، لأنها جائزة من طاغية.
كما رفض عدة جوائز أخرى، وفي هذه الحالة عاش خوان عمره الكامل بالصدق الذي يلزم لكي يبقى نقياً، كماء المطر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.