}

صاروخان.. من أوائل فناني الكاريكاتير في البلاد العربية

فيصل خرتش 14 فبراير 2020
استعادات صاروخان.. من أوائل فناني الكاريكاتير في البلاد العربية
صاروخان وكاريكاتير يمثل عرفات والسادات والأسد أمام كيسنجر

كان صاروخان فناناً أصيلاً يعرفُ كيف يضع الفكرة بعين خبيرة في الصورة الهزلية الساخرة، وينظر إلى عيوب المجتمع بعين نافذة إلى أعماق نفسية هذا المجتمع.
وُلِدَ ألكسندر هاكوب صاروخان في قرية "أردانوش" في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1898، وهي قرية تقع في محافظة "باطوم" الجورجية على البحر الأسود، حيث درس الابتدائية فيها، ثم انتقل مع أخيه إلى تركيا/ إسطنبول، التحق بمدرسة أرمنية كانت تتبع للنمسا، وعاش فترة فيها، ثم انتقل إلى النمسا بين عامي 1922 – 1926، ودرس في أكاديمية الفنون (قسم الغرافيك)، والتقى بصحافي مصري اكتشف ما لدى هذا الشاب من موهبة في فن الكاريكاتير، فشجعه على التخصص في هذا الرسم، ثم استقر في الإسكندرية، حيث تمت مواهبه واكتملت.
ويذكر مصطفى أمين عن وصول صاروخان إلى الإسكندرية فيقول: "رأيته أوّل مرّة عام 1927 في ورشة الحفار الأرمني برباريان. وجدته يبتسم في وجهي من دون أن يعرفني!.. ثم أمسك ورقة وقلماً وراح يرسمني بسرعة مدهشة، وبعد دقائق قدّم لي صورتي الكاريكاتيرية!... لم يكن يعرف كلمة واحدة من اللغة العربية، لكن رسومه كانت تتكلم وتبتسم وتضحك، وعرفت أنه رسام مفلس!... ضحية شاب مصري من المنصورة كان قد قابله في مدينة فيينا عاصمة النمسا، وأوهمه أنه صاحب جريدة كبيرة في مصر، واتفق معه على أن يعمل رساماً في جريدته بمرتب كبير. صدّق صاروخان هذا النصاب، وركب الباخرة إلى الإسكندرية، ونزل إلى الميناء، حيث لم يجد أحداً في استقباله، وصار يسأل الناس عن شاب اسمه محمّد، فضحك الناس عليه، وقالوا له: إنّ نصف سكان مصر اسمهم محمّداً، ومشى متسكعاً متشرداً في شوارع الإسكندرية، إلى أن وجد مطعم فول يملكه أرمني، فدخله وأكل مجاناً، وبحث عن فندق يملكه أرمني، فلم يجد، فنام على مقعد في إحدى الحدائق".

كاريكاتير يمثل صاروخان بريشته (مصر العربية)

استطاع صاروخان أن يتعرف إلى بعض المصريين في الإسكندرية الذين أمنوا له ثمن تذكرة إلى مدينة المنصورة، فقابل محمّد الشناوي، واكتشف أنه ليس صحافياً، ولا صاحب جريدة، كما ادعى له، وإنما هو طالب فاشل. فذهب إلى القاهرة، وفيها تعرّف على صديق لعمه، توسط له، وصار يعمل مدرساً في المعهد الفني الأرمني بمرتب جنيهين في الشهر، ثم أقنع إدارة المدرسة بإصدار مجلة من رسمه، فارتفع مرتبه إلى خمسة جنيهات.
وذات يوم، قابل الأستاذ محمّد التابعي، رئيس تحرير مجلة "روز اليوسف"، وطلب منه

صاروخان أن يعمل في المجلة، وقدّم عدّة أعمال أعجب بها التابعي ونشرت على غلاف المجلة.
كان التنافس قائماً بين مجلة الكشكول ورسامها الإسباني سانتيس، ومجلة روز اليوسف. وفي ذكرياتها لم تنس روز اليوسف أن تتكلم عن صاروخان، وكيف بدأ العمل معها، تقول: "أرسلت باستدعاء صاروخان، وكان وافداً على مصر، ولا يعرف شيئاً عن شخصياتها السياسية، ولا يعرف من العربية شيئاً، فأحضرنا له نماذج من رسومات سانتيس للشخصيات المصرية، واستطاع التابعي، بعد عدّة محاولات أن يفهمه فكرة صورة واحدة، وهكذا أصبح صاروخان رسام كاريكاتير كبيراً. وما لبثت صور صاروخان أن نجحت بشكل كبير، فقد كانت مليئة بالحيوية والحركة والروح المصرية والنكتة اللاذعة، بينما كان أشخاص سانتيس يقفون في الصورة كالأصنام".
لقد اعتمدت روز اليوسف على عدد من رسامي الكاريكاتير بادئ الأمر، ثم استغنت عنهم، واكتفت بصاروخان، الذي ابتدع للمجلة شخصية "المصري أفندي"، ليعبر من خلالها عن انتقاداته الحادة للحياة الاجتماعية والسياسية بأسلوب ساخر، ونكتة لاذعة، وقد أطلق الاسم على عدد من المخازن التجارية وصالونات الحلاقة وحوانيت تصليح الأحذية.
عمل صاروخان في مجلة روز اليوسف من 1927 حتى 1934، وهي السنة التي ترك فيها التابعي روز اليوسف، وأسس مجلة خاصة هي "آخر ساعة"، التي انتقل إليها صاروخان في

ما بعد. في روز اليوسف، أبدع شخصية "المصري أفندي"، وهي شخصية تتصف بالوعي العميق، وتمثل فلسفة الناس في الشارع. جاء "المصري أفندي" رجلاً قصير القامة، طيب القلب، مبتسماً في أغلب الأحيان، يرتدي الثياب الإفرنجية في غير تأنق، ويمسك بيده المسبحة، وبدأ صاروخان في رسم شخصية "المصري أفندي"، وزجّه في مختلف المواضيع: الاجتماعية والسياسية بكل جرأة، وكان صاروخان يجيد إجابة واحدة في رده على الرقابة والمحققين: "أنا أرمني... أنا غريب ... أنا أرسم أفكار رئيس التحرير، فاسألوه هو".
في عام 1946، انضم صاروخان إلى دار "أخبار اليوم"، وأصبحت رسوماته حديث الوطن العربي، فهي تسخر من الزعماء والقادة، وتطال الطغاة والمتحكمين والمتنفذين. وبعد الحرب الثانية وسّع آفاق التعبير المحلّي بدخول السياسة الأجنبية في الحياة المصرية، هذه الآفاق الجديدة هي التي تجمع بين المصري والعربي والعالمي، وهي التي استمرت تجتذب صاروخان وتضعه في إطارها.
الجدير بالذكر أن "أخبار اليوم" هي آخر محطة صحفية لصاروخان خلال رحلته الطويلة مع الكاريكاتير الصحافي حتى وفاته عام 1976، وقد استطاع أن يحصل على الجنسية المصرية عام 1955، وكان عمره 57 عاماً، ومنذ ذلك التاريخ استعاد ثقته بذاته، وأخذ يفكر بتوسيع دائرة نشاطه وإبداعه، فحزم لوحاته وسافر إلى بيروت في عام 1955، وأقام معرضه الأوّل، حيث عرض أعمالاً ذات موضوعات اجتماعية، ولاقت أعماله إقبال اللبنانيين، وكتبت عنه الصحف، وكذلك وصل إلى حلب، وأقام له معرضاً في هذه المدينة التي تركت لديه ذكريات جميلة ومتميزة.
اعتمد صاروخان بذكاء وحساسية مرهفة على قراءاته وملاحظاته لتفاصيل المجتمع المصري وهمومه ومشاكله، فالتقط المواضيع ذات الحساسية البالغة والتي تشغل العقل الباطن للمواطن بشكل يومي، وقد أبدع في تصوير الوجوه، وإبراز عيوبها الحسية والعضوية معاً، اعتمد على تحوير وتغيير ملامح الوجه، وفي جوانب أخرى بالغ في تصوير هذه الأعضاء، وجعلها مثيرة للسخرية بضخامتها، ومن خلال "المصري أفندي" استطاع صاروخان أن يعبر عن مشكلاته واشتراكه في المسرح السياسي جنباً إلى جنب مع القادة البارزين، أو في الخندق الرافض لهم ولسياساتهم.  وقد أقام معارض عدة، منها في يريفان، ومونتريال، ونيويورك.

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
11 فبراير 2024
يوميات
5 يناير 2024
يوميات
25 نوفمبر 2023
يوميات
6 أكتوبر 2023

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.