}

عن الموعد السنوي في بيت علاء الديب.. "دايماً عامر"

هشام أصلان 26 فبراير 2020
استعادات عن الموعد السنوي في بيت علاء الديب.. "دايماً عامر"
عرَّف الديب بأسماء صار لها وزنها الأدبي (المصري اليوم)
تعودت أسرة الكاتب الكبير علاء الديب، عبر أربع سنوات، أن تحيي ذكراه السنوية مع أصدقائه القريبين، ومن كان يحبهم، في منزله في حي المعادي. جلسة شديدة الدفء، يتوزع فيها أصدقاء علاء، من كل الأجيال، منقسمين إلى مجموعات صغيرة بين صالة المنزل وشرفته وحجراته المفتوحة، يتحركون من هنا إلى هناك بأريحية بالغة. وعندما تأتي ساعة العشاء لا ترتاح السيدة عصمت قنديل زوجته، أبداً، إلا بعدما تتأكد بنفسها أن الجميع تناول شيئاً من الطعام. وعليك، إن لم تكن تشعر بالجوع، أن تمر على المائدة وتأخذ ولو شيئاً بسيطاً. البيت مفتوح لمن كان يحبهم صاحبه، يذهبون للاستئناس برائحته، وأجواء جلسته. الموجودون في تلك الليلة هم هؤلاء الذين ترك لهم مساحة ليست محدودة من محبة كانت عنوانأ بارزاً لشخصية علاء الديب، الكاتب الكبير، والإنسان الأحب إلى قلبي ممن تعاملت معهم في جيله داخل الحياة الأدبية، ومن أكثرهم شرفاً وعفة نفس واحتراماً لنفسه، من دون صياح، أو ضوضاء، أو مزايدة. وأمس الأول كنا هناك، في بيته العامر دائماً.
في حديث جانبي، أخبرتني السيدة عصمت بمفاجأة سارة، وهي أنها في صدد التحضير لإصدار الجزء الثالث من كتاب "عصير الكتب"، أحد أشهر وأجمل مشاريع علاء الديب الأدبية. وكان الجزء الأول قد صدر في حياته عن دار "الشروق"، ثم صدر الثاني بعد رحيله عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بينما لم تستقر الأسرة بعد على ناشر الجزء الثالث.
بدأ علاء الديب مشروعه الشهير "عصير الكتب" قبل نحو أربعين عاماً. كان باباً أسبوعياً
يكتبه في مجلة "صباح الخير"، وانتقلت معه الفكرة من جريدة إلى أخرى، وكانت عبارة عن مراجعة لكتاب كل أسبوع. يقول: "أسأل نفسي ما معنى هذا الباب الذي أحاول أن أكتبه كل أسبوع؟ تلك النكتة القديمة المكررة. هو ليس نقدًا بالتأكيد، وليس إعلانًا عن الكتاب، ولكن طموحه الأساسي أن يكون مشاركة في التفكير العام".

قضى كل هذه السنوات يوصّل كتابات الكتاب الكبار في عصور ما قبل السوشيال ميديا، وينقب عن المواهب الجديدة. هكذا صارت لدينا مراجعات نقدية بسيطة وشيقة لعشرات وربما مئات الكتب في كل المجالات، بأسلوب جذاب وضمير مستيقظ ونزاهة ابتعدت عن انتهاز المنابر الصحافية. لا شيء سوى الإشارة إلى كتاب أعجبه، أو إلى كاتب جديد يستحق الالتفات إليه.

وليس من المبالغة قول إن هذا المقال الأسبوعي واستمراريته ساهم في التعريف بأسماء صار لها وزنها الأدبي في ما بعد، بداية من بعض أبناء جيله، جيل الستينيات، وصولاً إلى أصغر الكتاب سناً في فترة ما قبل رحيله. وبطبيعة الحال كان بديهياً، لاستمرار مشروعه في تقديم الكتب كل هذه السنوات، أن يكون مُطلعاً إلى آخر لحظة على كل الإصدارات الجديدة، أولأ بأول، ما جعله على علاقة لم تنقطع أبداً بحالة الكتابة المصرية، وتطوراتها جيل بعد جيل، ويقظة للأدب لم تؤثر عليها حالة صحية فرضت عليه ندرة الحركة لسنوات. أفكر الآن أن أي مهتم بدراسة المشهد الأدبي، المصري خصوصاً، في تطورات أسئلة الكتابة وانشغالاتها عبر الأجيال، سيجد في مشروع علاء الديب "عصير الكتب" نماذج لأشكال من كل الحقب الأدبية منذ الستينيات وحتى اللحظة الراهنة.
شبّه علاء الديب تجربة أبناء جيله من الأدباء بلحظة معينة يرى أنها، عادة، تكون أروع ما في المقطوعات الموسيقية، يقول: "تعلمت من الموسيقى الكلاسيك، وخاصة من باخ، أن أروع ما في العمل الموسيقي هي الثواني التي تنتهي فيها الجملة الموسيقية أو اللحن، وتبدأ فيها جملة جديدة أو لحن جديد. في هذه الثواني، يتركز كل تركيب العمل، يضع فيها المؤلف أسرار الكمال الفني القائم في ذهنه، من دون إفصاح أو مباشرة"، هذه النظرية الموسيقية في رأيه صاغها كتاب الستينيات في كلمات "بإدراكه للجملة القصيرة التي تشبه الطلقة الصائبة".
سار هذا المشروع الأدبي الكبير "عصير الكتب"، بالتوازي، مع إنتاج مجموعة مهمة من

الأعمال الأدبية الأخرى، منها: "زهر الليمون" و"أطفال بلا دموع" و"المسافر الأبدي" و"قمر على المستنقع" و"القاهرة" و"صباح الجمعة" و"وقفة قبل المنحدر"، وعدد من الترجمات لصمويل بيكيت، وهنري ميللر، وإنجمار برجمان، ومشاركة في سيناريو فيلم المومياء لشادي عبدالسلام، وغيرها من الأعمال المعروفة والقيمة.

والاجتماع المدهش على المحبة الكبيرة لعلاء الديب ليس سببه الوحيد، قطعاً، قيمته الأدبية الكبيرة، ولكن هذا الكاتب الكبير كان إنساناً كبيراً. صنع علاقة نادرة مع كل من عرفه، ولو من بعيد. لطالما قلت له، هاتفياً، إنني مُقصر في السؤال، ويأتي رده دائماً: "ماتشغلش بالك. لما يجيلك النِدا هاتكلمني تقولي أنا جاي". وكأنه ترك تلك الحالة من الارتياح والتسامح بوابة غير مرئية، يمر عليها الداخل إلى منزله، عابراً إلى ساعات قليلة من السلام النفسي والحميمية والونس، وجلسة مرتاحة بين حجرات علاء الديب، أو في قول آخر: أحد نبلاء مدينتنا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.