}

ذكرى راشد حسين.. الشاعر الذي لم تقتله النار

راسم المدهون 9 فبراير 2020
استعادات ذكرى راشد حسين.. الشاعر الذي لم تقتله النار
"راشد حسين حقق وجوده بالشعر العاصف"
وحيدا وغريبا هناك في نيويورك عصفت النار بحياة الشاعر الفلسطيني المتميز راشد حسين في حادثة حريق عبثي ستظل مشهدا ختاميا لتراجيديا إنسانية تشبه إلى حد بعيد تراجيديا وطنه. راشد حسين الشاعر الذي حمل معه طيلة سني عمره القصير قلقا لم يعرفه شاعر آخر، غادر عالمنا في الأول من شباط/فبراير 1977 بعد رحلة حياة رأى فيها خيبات كبرى وعاش تحديات أكبر وسلاحه الشعر والإرادة.

معضلة الحياة في سلطة دولة احتلال عنصري فاشي صادرت الوطن وحجرت على حرية البشر والأرض وأصبحت منذ اللحظة الأولى محنة العصر، كانت هي بالذات محنة راشد حسين الأهم والتي تولَدت منها كل المحن: ولد في قرية مصمص قضاء أم الفحم عام 1936 أي تماما مع حركة المقاومة المسلحة التي أسسها وقادها الشيخ عز الدين القسام والتي كانت البداية الفعلية لثورة الشعب الفلسطيني الكبرى ضد الانتداب والوجود الصهيوني 1936 – 1939، فالشاعر الراحل تفتَح وعيه الأول عام 1948 على نكبة وطنه الكبرى ووجد نفسه أسير حالة شاذة وبالغة القسوة جعلته يعيش مواجهة دائمة ومحتدمة مع الاحتلال وقوانينه وسياساته وقسوتها على مجتمعه وأهله، وما خلقته النكبة من مناخات اليأس والإحباط:


ضد أن يجرح ثوار بلادي سنبلةْ 

ضدَ أن يحملَ طفلٌ - أي طفلٍ- قنبلهْ

ضدَ أن تدرسَ أُختي عضلاتِ البندقيهْ

ضد ما شِئتُم.. ولكن

ما الذي يصنعه حتى نبيٌ أو نبيه

حينما تشربُ عينيهِ وعينيْها

خُيولُ القَتَلهْ

ضدَ أن يُصبِحَ طفلٌ بطلاً في العاشرهْ

ضدَ أن يُثمِرَ ألغاماً فؤادُ الشجرهْ

ضدَ أن تُصبِحَ أغصانُ بساتيني مشانقْ

ضدَ تحويل حياض الوردِ في أرضي مَشانقْ

ضد ما شئتُم... ولكنْ

بعدَ إحراق بلادي

ورفاقي

وشبابي

كيفَ لا تُصبِحُ أشعاري بنادقْ

في مواجهة عسف الاحتلال وفاشية قوانينه عاش الشاعر الراحل "حياة متقطعة" بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ تناوبت عليه الاعتقالات والفصل من العمل وغيرهما من أساليب القمع فيما هو يطلق شعره سلاحا في وجه ذلك كله. عام خروجه من فلسطين 1967 كان أيضا عام النكبة الفلسطينية الثانية التي ألحقت الضفة الغربية وقطاع غزة بالاحتلال الأول، شهد انتقاله من الولايات المتحدة إلى دمشق ومن ثمَ إلى نيويورك مرَة أخرى كاتبا ومراسلا صحافيا فيما ظل على اتصال وتواصل مع فلسطين وحركتها السياسية والثقافية:

"سنُفهم الصخرَ إن لم يفهم البشرُ

                   أَنَّ الشعوب إذا هبَّت ستنتصِرُ

دم الجزائر صدرُ الفجر كعبتهُ

                   ونارهُ فوق صدر البغي تستعرُ"    

  









         

لغة راشد حسين الشعرية تلامس الواقع والحياة بموضوعاتها الكبرى ببساطة وبصورة مباشرة. هي لغة الغضب والعنفوان، لكنها في الوقت ذاته تمتحن شعريتها في مزيج من الصور الشعرية الحيّة والعاطفة الحارّة. شعر حسين شعر مقاوم بالمعنى الفاعل للكلمة، فالشاعر المسكون بمأساة وطنه وشعبه لا يخفي غضبه في لغة ضبابية بل يعمد دائما إلى حضور صور الوطن وموجوداته وأماكنه، ولهذا نجده يولي اهتماما عظيما بحضور المكان في قصائده فيكتب لمدن فلسطين ويحاورها مرة ويستعيدها مرّة أخرى.

هي قصائد وجد عاصف تجعل كل قصيدة منها حالة لها خصوصيتها ولها فرادة حضورها. الحال ذاتها بالنسبة للأرض، فراشد حسين يكرس شعره ولغته الفنية كلها لارتياد عوالم متفتحة على الذاكرة الثرّة التي حملها معه إلى أطراف العالم ومدنه المختلفة. هنا بالذات نشعر أن حضور المكان الفلسطيني في قصائده يتجاوز الحنين إلى استحضار حي وحيوي حتى في ابتعاد الشاعر عن الجغرافيا الفلسطينية وعيشه في الشتات والمنافي.
حياة راشد حسين وتجربته الشعرية جاءت وسطا بين جيل إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) والجيل الذي جاء بعده وفيه محمود درويش وسميح القاسم، وربما لهذا الموقع الزمني وجدناه يقترب من الحداثة بطريقته الخاصة وأبرز سماتها المحافظة على اللغة المباشرة والغضب وفي الوقت نفسه حضور العاطفة الفردية والمشاعر الشخصية على نحو مميز وطافح بحماسة الحب ووهجه:

"تسير ميتا

تموت بالشعر في مدينة بلا أصدقاء"

قد لا تكون هذه القصائد الوجودية ركنا أساسا في شعره، لكنها مع ذلك ظلّت مبثوثة في ثنايا سطوره وصوره الشعرية، بل وحاضرة في خلفية مشاهده الشعرية، فهي بواعث القلق الجميل، والتوتر الفاعل الذي نراه وراء كل قصيدة كتبها والذي رافقه في تجربته كلها ببلاغة حميمة تجعلنا نحسُ برعشة عاطفته ورعشة حزنه الشفيف حيث الكلمات دفقات مؤثرة تصدر من الوجدان والقلب فتلامس القلوب وتؤثر فيها.


هو شعر الحياة الصعبة، المركبة من مزيج الهم العام بمأساويته الكبرى والهم الفردي الذي نبت أساسا من عصف تلك المأساة وطغيانه. هو شاعر الحالتين الخاصة والعامة دون قسمة أو انفصال بل شمولية تجعلنا ننظر بعمق إلى ملامح تجربته الشعرية باعتبارها تجربة رائدة حملت لنا فرحا من شقوق الحزن وأتت لنا بتفاؤل خاص، تفاؤل يغالب جموح المأساة وما فعلته النكبة الكبرى ويؤسس لوعي الراهن وما يحرض عليه. راشد حسين بهذا المعنى هو شاعر الانتباه الذكي، الحاذق والرشيق، لما في الحزن من جدارة تبوح بالتفاؤل ولا "تؤلفه" بقصدية ساذجة. هو أيضا شاعر غضب يؤسس غضبه على قوة الموهبة إذ تبحر في أزقة الواقع ومنعرجاته وتوقفاته الكثيرة حيث الغضب "رؤية" والعاطفة الوطنية مزيج من الحب والإرادة خصوصا في تلك القصائد التي كتبها الشاعر الراحل لمدن فلسطينية بالذات وخاطبها بالاسم حيث يلحظ القارئ توحد القصيدة بمدينتها وتوحدهما معا بالشاعر والحالة الشعرية على نحو خاص ومميز.

حياة راشد حسين القلقة، بل المتوترة في الأمكنة كلها، تعكس إلى حد بعيد وواضح تعلقه الروحي والنفسي بمكانه الأول، وهي حالة رافقته منذ خروجه في فلسطين عام 1967 وحتى لحظة رحيله عن عالمنا بتلك الحادثة الفاجعة عام 1977 وحيدا في مدينة نيويورك حيث لا يعرف أحدا ولا يقف إلى جواره أحد. وحده عاش مع قلقه وتوتره، ووحده منح قصيدته صدق التجربة وبراعة الخطاب وتألقه فكتب ونشر هنا وهناك لكنه ظل طيلة الوقت مسكونا بعالمه الأول ومكانه العصي على النسيان والضياع رغم حالة الضياع الكبرى التي خلقتها نكبة وطنه وتشرد شعبه وسطوة طغيان الاحتلال والاقتلاع وهو خلال ذلك كله ولعٌ لا ينقطع بقراءة صورة فلسطين وحضورها العصي على النسيان والتبدد وهي التي رافقته العمر كله وحضرت في تجربته الشعرية كلها على نحو بهي.
ولأن راشد حسين حقق وجوده بالشعر العاصف، وأطلق لغة غضبه في بريته تحضر قصائده في وجداننا في صورة دائمة، مسمرة وفاعلة لأنها أتقنت صدق البساطة وبساطة الصدق فجاءت عميقة التأثير قوية الحضور تعيد تذكيرنا كل مرة بجدارة شاعرها واستحقاقه الأكيد لمكانته في الشعر الفلسطيني، مكانة تليق به وبمأساة شعبه وكفاح شعبه من أجل وطنه، وتجعلنا نثق أن تجربته الشعرية ستظل عابرة للأجيال وتصل إلى الأجيال القادمة بجدارة واستحقاق.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.