}

قرن على ميلاد بوريس فيان.. "أسطورة" الأدب الفرنسي

نجيب مبارك 16 مارس 2020
استعادات قرن على ميلاد بوريس فيان.. "أسطورة" الأدب الفرنسي
بوريس فيان (1920 - 1959)
كان بإمكان بوريس فيان (1920-1959) أن يحتفل بعيد ميلاده المائة يوم الثلاثاء الماضي 10 آذار/مارس، لو لم يخطفه الموت مبكراً جدّاً، في سنّ التاسعة والثلاثين، ويحرمه من قطف ثمار نجاح أعماله الأدبية وتأثيرها الكبير على الأجيال اللّاحقة. وهو ما يشهد عليه زخم الفعاليات والاحتفاليات الكبرى، التي انطلقت هذه الأيام في أكثر من مدينة فرنسية، احتفاءً بذكرى مرور قرن على ولادته.
 تبقى روايته "زبد الأيام" واحدة من أشهر كلاسيكيات الرواية الفرنسية في القرن العشرين، بل إنّ كثيرين يرون أنها كانت بياناً جديداً للحداثة


















المرض المزمن وموسيقى الجاز

لعلّ أوّل ما يلفت الانتباه عند بوريس فيان، باعتباره واحداً من الأيقونات الأدبية خلال الخمسينيات، هو شخصيته المتمرّدة والمتعدّدة المواهب، فقد كان شاعراً وروائياً وفناناً ومغنّياً وممثلاً ومسرحياً وكاتب سيناريو وعازف جاز ورسّاماً ونحّاتاً وناقداً ومترجماً ومهندساً ولاعب شطرنج أيضاً، لكنّه عاش في بداية حياته مغموراً تقريباً، إلى حين إصدار كتابه المدويّ "سأبصق على قبوركم" في تشرين الثاني/نوفمبر 1946، والّذي نسبه إلى كاتب مستعار هو فيرنون سوليفان، بينما قدّم بوريس فيان نفسه كمترجم له من الإنكليزية، وهو رواية مرعبة وفظيعة، إيروسيّة وعنيفة، عن التمييز العنصري في أميركا، وقد كانت تمريناً على كتابة "رواية سوداء" فرنسية، أُنجزت في مدة لا تتجاوز الأسبوعين، بحسب اعتراف المؤلف.

لكنّها سرعان ما لقيت نجاحاً هائلاً، وفضائحياً أيضاً، لأنها أثارت في الوقت نفسه ردود فعل الرقباء، بحيث تم منع تداولها، وبمجرد أن انكشفت الخدعة، أدين "المترجم" أيضاً بسبب ازدرائه للأخلاق الحميدة، وصدر العفو عنه فنشرها مرة أخرى، ثم مُنعت من جديد...
في سنّ الثانية عشرة، أصيب بوريس فيان بروماتيزم حادّ، تسبّب له بمشاكل صحية مزمنة على مدى حياته القصيرة، وكان سبباً رئيساً في وفاته عام 1959. وقد انعكست معاناته مع هذا المرض في العديد من أعماله الأدبية. كان قد اشتغل في البداية مهندساً، بحكم تكوينه الأكاديمي، لكنّه سرعان ما تخلّى عن هذه المهنة ليتفرّغ نهائياً للأدب والفنون. كما أنّه عمل في نهاية حياته مديراً فنياً لدى إحدى كبريات شركات الإنتاج الموسيقي. ومن المعروف أنّه كان من المهووسين الكبار بموسيقى الجاز، التي اكتشفها أوّل مرة يوم 3 نيسان/أبريل 1939 عندما حضر حفلاً للفنان ديوك إلينغتون، وبعدها قرّر أن يصير عازفاً ومغنياً ومؤلفاً وناقداً متخصّصاً في الجاز، وقد لحّن فعلاً الكثير من القطع الموسيقية التي كان يعزفها باستمرار في نوادي حي سان جيرمان الشهيرة بباريس، وكتب الكثير من الأغاني التي ما زالت متداولة إلى اليوم، لكنّه سوف يتوقّف نهائياً عن عزف الترومبيت بسبب مضاعفات المرض. وقد تأثّر المنجز الأدبيّ لبوريس فيان كثيراً بالجاز، فبدت رواياته في أغلبها مبنيّة وفق مؤلّفات ومرجعيات موسيقى الجاز، وهو ما تعكسه أيضاً أذواق الشخصيّات وحواراتها اليومية.

 يرى كثير من النقاد أنّ الاكتشاف الحقيقي لبوريس فيان جاء متأخّراً، أي بعد وفاته مباشرة

















إنتاج أدبي وفني متنوّع

كان بوريس فيان غزير الإنتاج، إلى درجة وجد النقاد صعوبة في تصنيف كتاباته المختلفة والمتنوّعة، فقد كتب في كلّ الأجناس الأدبية المعروفة بلا استثناء، إضافة إلى ممارسته للمسرح والموسيقى والسينما. وكان في كتابته الأدبية شديد الاهتمام باللّغة ومنشغلاً بخلق الكثير من العوالم الموازية، بحيث مزج في أعماله بين الفنتازيا والخيال العلمي (على طريقة لويس كارول وهـ. ج. ويلز) والسخرية السوداء، المستوحاة من الرواية السوداء الأميركية، والعبث الأقرب إلى كتابات ألفرد جاري. وهو مدين في ثقافته الأبدية لقراءاته المبكرة، التي شملت بعض الكلاسيكيات (كافكا، بنيامين كونستانت، مارسيل آيمي)، وكذلك روائع الأدب الأنجلوسكسوني (ميلفيل، كيبلينغ، همنغواي، كالدويل، شتاينبك). وحسب كثير من المتخصّصين في أعمال بوريس فيان الأدبية، فإنّ تشبُّع أسرته بالثقافة الإنكليزية كان له فضل كبير على تجاربه الروائية، التي شقّ طريقه فيها بأسلوب متفرّد وغير مسبوق، اشتهر باختراعه لكلمات جديدة واللعب كثيراً على الجناس، وتقمُّص العديد من الأسماء المستعارة التي كان يستخدمها بانتظام لإخفاء هويته.
إنّ ما تركه بوريس فيان من أعمال يشهد على ثراء وتنوع كبيرين، إذ توزّعت رواياته بين الخيال العلمي وقصص الحب الغرائبية، في محاكاة ساخرة لإرث الحكايات الخيالية والروايات السوداء. فبعد محاولات أولى لم يكتب لها النجاح، سيصدر أربع روايات موقعة باسمه الحقيقي (هي: زبد الأيام، خريف بكين، العشب الأحمر وخاطف القلب) وستّ روايات أخرى بأسماء مستعارة مختلفة. وتختلف المواضيع التي تتناولها هذه الروايات، سواء منها الجادّة أو الساخرة، بحيث تتقاطع فيما بينها في أكثر من رواية، إذ نجد فيها، من ناحية، الندم، العنف، الجنس، الانحلال، الشيخوخة، ومن ناحية أخرى، قصص الحب التي تتجاذب ثلاثة أطراف.

من شقة بوريس فيان، حي فيرون في باريس 

















شهرة "زبَد الأيام" الكاسحة

عموماً، تبقى روايته "زبد الأيام" واحدة من أشهر كلاسيكيات الرواية الفرنسية في القرن العشرين، بل إنّ كثيرين يرون أنها كانت بياناً جديداً للحداثة. وهي للأسف رواية لم تنل حقّها من الشهرة خلال حياة بوريس فيان، حين صدرت عام 1947، لكنها ستعرف شعبية كبيرة بعد وفاته، خصوصاً في الستينيات والسبعينيات، بحيث كانت من الأعمال التي تداولها الشباب والطلبة خلال ثورة أيار/مايو 1968، وتكرّس نجاحها أكثر بعد أن أُدرجت ضمن المقرّر الدراسي الفرنسي بعد ذلك بسنوات.

وهذه الرواية، التي قال عنها رايمون كينو بأنّها "أكثر رواية مؤثّرة عن الحبّ في الأدب المعاصر"، تحكي قصّص حب غريبة بسخرية عالية، في قالب من الخيال العلمي وأجواء تطغى عليها إيقاعات الجاز، بحيث تتقاطع الحكايات مع الغرائبية، بينما تعاني الشخصيّات كثيراً لإيجاد موطئ قدم لها في العالم، ويصير الفضاء الذّي تتفاعل بداخله غير ملائم للعيش: تضيق الغرفة التّي يحتضر فيها "كلوي" ببطء مثلما تكبر في رئته زنبقة الماء الأبيض فتقتله، ويشيخ الطبّاخ "نيكولا" كلّما مرض "كلوي"، خلال ثمانية أيّام فقط، وفي نهاية الرواية يبلغ أحد العمال تسعة وعشرين عاماً بعد أن أنهكه استغلال حرارة جسده في صناعة المدافع، فبدا من خلال ملامحه كأنه عجوز خلال سنتين.


في الواقع، أعاد بوريس فيان اختراع العالم واللّغة والموسيقى، وذلك في كافّة المجالات التّي مارسها. وفي كلّ مرّة، كان يبدو أكثر حيويّة ونضجاً وإلهاماً. وفي مسعاه للانزياح عن الحقيقة، كان يأخذ معظم الأشياء بجديّة الأطفال، ما جعل خياله الجامح لا يتورط كثيراً في العالم الماديّ إلا بغرض تحويله وتغييره عن طريق اللغة المبتكرة. وهذا ما رسّخ لدى بعض القرّاء في عصره بأنه كاتب غامض وغير مفهوم، يقول في رسالة لزوجته أورسولا سنة 1951: "إنه لأمرٌ غريبٌ، عندما أكتبُ بعض النكات يجدون أنّها صادقة، وعندما أكتب شيئاً حقيقيّاً يظنّون أنّي أمزح". ومن هذا الصراع الشديد وسوء الفهم الدائمين، لم يخرج جسد بوريس فيان سالماً، وكان ذلك من الأسباب التي أدّت إلى موته المبكّر.



في صباح يوم 25 حزيران/يونيو 1959، أثناء عرض فيلم مقتبس من روايته "سأبصق على قبوركم"، توفّي بوريس فيان فجأةً بسكتة قلبية. وبعد واحد وستّين عاماً من اختفائه، ما الّذي تبقى من هذه الأسطورة من أساطير حي سان- جرمان الباريسي، إلى جانب معاصريه الكبار مثل سارتر وسيمون دو بوفوار؟ يرى كثير من النقاد أنّ الاكتشاف الحقيقي لبوريس فيان جاء متأخّراً، أي بعد وفاته مباشرة. وقد يكون هذا صحيحاً بالنسبة إلى أعماله الأدبية، الّتي تعرّضت للإساءة إلى حدّ كبير خلال حياته.

لكن، بعد إعادة نشرها في الستينيات، بيع من هذه الأعمال 4.8 مليون نسخة دفعة واحدة. ويتذكّر مارك لابراند مثلاً أنّه كانت تُباع 50.000 نسخة يومياً من رواية "زبد الأيام". وما تزال الأجيال تتذكّر إلى اليوم قصيدته عن السلام "الهارب من الجندية"، والتي تُرجمت إلى أربعين لغة وأصبحت مشهورة أثناء حرب فيتنام، وغنّتها الفنّانة جوان بايز. وخلاصة القول إنّ الكثير من العناصر ساهمت في تشكيل أسطورة بوريس فيان، الشاب الخارق للعادة، الذي وصفته "المجلة الأدبية"، في عام 1968، بأنّه "أحد الشباب الأبطال، وربّما أعظم أسطورة خلقها الأدب الفرنسي في القرن العشرين".


# قصيدته عن السلام "الهارب من الجندية"، والتي تُرجمت إلى أربعين لغة: 



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.