}

محمد حسين هيثم.. 13 ربيعاً في الغياب

صدام الزيدي صدام الزيدي 3 مارس 2020
استعادات محمد حسين هيثم.. 13 ربيعاً في الغياب
الشاعر اليمني محمد حسين هيثم (1958 - 2007)
يتزامن غياب الشاعر اليمني، محمد حسين هيثم (8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958 -  2 مارس/ آذار 2007)، مع انكسار مهيب يضرب المشهد الإبداعي في اليمن (الآن في ظروف الحرب)، لتصبح الذكرى الثالثة عشرة لرحيله أكثر وجعاً وانكساراً.
بعد مضيّ ثلاثة عشر عاماً منذ رحيله، لا يزال الوسط الثقافي والأدبي في اليمن يتذكّر محمد حسين هيثم، صاحب "اكتمالات سين" 1983، و"الحصان" 1985، و"مائدة مثقلة بالنسيان" 1996، و"رجل ذو قُبّعةٍ ووحيد" 2000، و"رجلٌ كثير" 2002، و"استدراكات الحفلة" 2002، و"على بُعد ذئب" 2007، شاعرا ومثقفا وإنساناً يفيض نبلاً ومحبةً لكل من التقى بهم، وتحدث إليهم، وتحدثوا إليه، من الشعراء والمبدعين، وأهل البلاد اليمنية، أو العربية التي زارها وألقى شعراً في ضيافتها.
حينما يُذكر محمد حسين هيثم، في مناسبة هنا أو هناك، تندلع مجموعته الشعرية "على بُعد ذئب"، الصادرة بعد وفاته بأشهر قليلة، إلى الواجهة، باعتبارها المجموعة الأكثر أهميةً في تجربته، إذ كتبت بمخيال شاعر وجد نفسه يقدم ما يشبه الرؤية لسنوات من العمر، وتجربة في التعايش والتواصل الثقافي تصرّمت، وانكسرت بما يكفي، في واقع مستذئب ومريب.

عهد طباعة الكتب
على مدى ثلاثة عقود من الكتابة والشعر والعمل في الصحافة الثقافية، وصولاً إلى العمل النقابي كأمين عام لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، توّجت السنوات الأخيرة لمحمد حسين هيثم، بإشراقات مهمة، ما زالت محل احترام وتقدير وعرفان الأدباء والكتاب الذين حظي العشرات

منهم بطباعات فاخرة وأنيقة لكتبهم وإصداراتهم تحت راية اتحادهم الأدبي، لم يكن لها أن ترى النور على ذلك النحو لولا تواجد هيثم ضمن قيادة الاتحاد ولجنته التنفيذية، وسهره ومتابعته لأشغال الطباعة للأعمال في صنعاء، وفي عواصم عربية، لتُعدّ الفترة التي تولى فيها موقع الأمين العام (2001 - 2005) أخصب فترة يطبع فيها الاتحاد كتباً لمنتسبيه، كما أن مجلة "الحكمة"، التي يصدرها الاتحاد، وترأس هيثم تحريرها، استمرت في إضاءاتها، لكن جاءت الحرب في مارس/ آذار 2015، لتبدأ حالة الانهيار والخفوت للاتحاد الأدبي الكبير، وصولاً إلى الغياب التام والإغلاق المؤسف لأنشطته ومقراته. قبل مجيء الحرب، كانت توقفت "الحكمة"، التي تعد من بواكير المجلة الثقافية والأدبية اليمنية (أسسها الأستاذ أحمد عبدالوهاب الوريث، في صنعاء، سنة 1938، وأعاد الأستاذ عمر عبدالله الجاوي إصدارها باسم اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، في عدن، سنة 1971). وقد اتسعت صفحاتها لفكر ورؤية مؤسسي اتحاد الأدباء من الرعيل الأول، الذين كان لهم دور فاعل في تقريب حلم الوحدة اليمنية، ضمن مسيرة التنوير والنضال لـ(اتحاد الأدباء)، أول مؤسسة مجتمع مدني وحدوية في اليمن، التأمت في عهد التشطير، ومثّلت الموقف الرافض للوضع التشطيري لحساب صوت الديمقراطية ونداء الوحدة.
 

من عدن إلى صنعاء
يشار إلى محمد حسين هيثم كواحد من أهم كتاب قصيدة التفعيلة في اليمن من جيل السبعينيات، وتقترب كتاباته من قصيدة النثر، التي حلّق في فضاءاتها بأجنحته المحمومة شعراً. جاء إلى الحياة يوم 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958 في مدينة عدن. التحق بالمدرسة عام 1965، وأنهى الثانوية العامة عام 1978. تخرج في قسم الفلسفة - كلية التربية العليا - جامعة عدن عام 1983. عمل في الصحافة منذ فترة دراسته الجامعية، وبعد التخرج أشرف على القسم الثقافي في صحيفة الثوري (لسان حال الحزب الإشتراكي اليمني). في 1990، عمل في مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء بوظيفة باحث في دائرة الدراسات اللغوية والأدبية، المكان الذي شغل فيه لاحقاً منصب نائب رئيس المركز، في فترة ما قبل وفاته (بدءاً من العام 2000).
نقابياً، شغل هيثم موقع الأمين الثقافي لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين لعدة دورات انتخابية، قبل أن يتم انتخابه أميناً عاماً للاتحاد، كما رأس تحرير مجلة "الحكمة" الصادرة عن اتحاد الأدباء، بعد أن أسندت إليه مهمة مدير التحرير لفترة من الزمن، كما عمل محرراً في صحف: كفاح الشعب، صوت العمال، ومعين، وترأس تحرير مجلة أصوات الأدبية، وأشرف على القسم الثقافي في صحيفة الوحدة.
نال عضوية اتحاد الأدباء والكتاب منذ تأسيسه منتصف السبعينيات، وحتى وفاته.
رحل هيثم عن الحياة باكراً، عندما ألمّت به أزمة صحية في آخر أعوام عقده الرابع، وقياساً بسنوات عطائه الإبداعي، وحصاد سبعة دواوين شعرية تميزت بعنونتها المغايرة، ومضامينها

الجريئة، فضلاً عن ديوان لا يزال مخطوطاً لحظة وفاته، وآخر لم يطبع بعد في الشعر الشعبي، يعدُّ محمد حسين هيثم من المبدعين الذين ولدوا كباراً وفقاً للشاعر والناقد اليمني عبدالعزيز المقالح، في مقالة كتبها مودعاً فيها صديقه الشاعر هيثم، في صحيفة 26 سبتمبر اليمنية. إلى ذلك، يعد هيثم أحد أبرز الأصوات المتميزة في الشعر اليمني الحديث. وبحزن بالغ نعته الأمانة العامة لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وفي السياق نوهت الأمانة العامة أن اتحاد الأدباء والكتاب شهد في أثناء عمل هيثم في منصب الأمين العام للاتحاد "طباعة أكبر عدد من الأعمال الأدبية، وأوسع عملية نشر للكتاب، كما رفد هيثم الحركة الأدبية بإبداعات شعرية ونثرية قيمة، ونشرت أعماله الشعرية في كتاب مكون من ستة دواوين شعرية عام 2004م، ضمن إصدارات وزارة الثقافة". كما أن مهرجانات وملتقيات للشعراء الشباب نظمت تحت قيادته، ورأس هيثم اللجنة التحضيرية لملتقى صنعاء الأول للشعراء الشباب العرب الذي نظمته وزارة الثقافة اليمنية سنة 2004، بمناسبة الاحتفاء بـ"صنعاء عاصمة للثقافة العربية".
كل قصيدة كان يكتبها محمد حسين هيثم تفوق سابقتها، وتضيف جديداً إلى شعره، وإلى الشعر العربي الحديث، الذي استمرت إضاءته تتقدم وتتطور بفضل متابعته ومتابعة أمثاله ممن يكتنزون في ذواتهم عوالم من الإبداع الذي لا يدركه النقص ولا النفاد. كما يشير عبدالعزيز المقالح، في سياق مقالته الحزينة عشية رحيل محمد حسين هيثم.
ومن ناحيته، كتب الشاعر العراقي، سعدي يوسف، صديق هيثم، وأحد الذين أقاموا في عدن لسنوات: "نبأُ رحيل محمد حسين هيثم داهمَني كطعنةٍ في الخاصرة". مشيراً (بالحديث عن ذكرياته في عدن) إلى أن هيثم "كان يتقدم في الطريق بخطوات متسارعة مذهلة، ولربما كان الأبرز حركةً بين رفقته من الشعراء الشباب في عدن".

شهادة الصكر
ضمن كتابه "قصيدة النثر في اليمن/ أجيال وأصوات" الصادر سنة 2003 عن وزارة الثقافة

اليمنية، خصص الناقد والأكاديمي العراقي، حاتم الصكر، حيزاً لتناول شعر هيثم مع زملائه من شعراء السبعينيات، كعبدالودود سيف، وعبدالكريم الرازحي، وشوقي شفيق، وشوقي شايف، وآخرين. وفي كتابه "الثمرة المحرمة/ مقدمات نظرية وتطبيقات في قراءة قصيدة النثر"، الصادر العام المنصرم 2019، توقف الناقد الصكر أمام نص "صنعاء" للشاعر الراحل هيثم، ضمن حزمة نصوص في سياق تحليلات وتطبيقات الكتاب. يشير حاتم الصكر إلى أن نص محمد حسين هيثم يتخذ من المدينة بؤرة لتوليد صوره، وهو يبدأ من صنعاء (عنوان القصيدة) التي لا بحر فيها، ليقترح لها بحراً، ويجعل تكراره لازمة إيقاعية تفصل بين تطور بنية النص وتصاعدها الإيقاعي والدلالي، ولكن المدينة التي يقترح لها بحراً تقف في مواجهته، أي في مواجهة الذات المتلفظة في النص. ويجد الصكر أنه "بعد كل تكرار لجملة النص البؤرية (أقترح بحراً) ما يعود إلى الشاعر متلفظاً مثل: أصابعي؛ صهيلي؛ راحتي؛ خطاي؛ أضلاعي؛ داخلي". كما يلاحظ الناقد الصكر ما قال عنه: "الخرق الوحيد لهذا النسق هو رؤية صنعاء تفاحة متأرجحة على الحافات البيضاء، ولكن الشاعر يقود فعل الرؤية (أرى) وهو الفاعل النحوي والدلالي أيضا".
ويبين الصكر أن المكان غدا مناسبة لتوليد صور ذاتية تؤاخي المدينة في رؤى الشاعر، كما أن "تكرار جملة النص البؤرية ونواته (أقترح بحراً) يساعد القارئ على متابعة النمو البنيوي والدلالي للنص والتآلف مع نثريته، حيث يغدو تكرار جملة البؤرة بديلاً إيقاعياً لموسيقاه الغائبة، لكونه ينتمي إلى نوع قصيدة النثر، ويكتفي بلوازمها الإيقاعية والدلالية لبناء نصّ يسوده الحلم، ويوجهه الخيال الذي يحول المكان – صنعاء - إلى مدينة تتراءى في الحلم، وتتكون عبره في وجود يساعد القارئ في تخيله طافياً في لجة اللغة والصورة والاسترسال عبرها، حيث تتكون دون جغرافيا محددة، أو نهائية، برغم التقاطها بعض جزئيات المكان وإشاراته؛ كالجبل والعسل والبخور، لا سيما أن القصيدة مذيلة بمكان كتابتها، وهو صنعاء ذاتها، ما يضيف إلى معايشتها خبرة بها تحول تلك الجزئيات والإشارات إلى حقول دلالية تضاعف وجود المدينة واقعاً، أو وجوداً خارجياً، يجري عليها الشاعر ما يشبه إعادة تشكيل ورسم؛ لتظهر بما أراده لها حصراً حين دعا قصيدته وعنونها باسمها".
ونقتطف هنا نص "صنعاء"، للشاعر محمد حسين هيثم؛ النص الذي تناوله الناقد حاتم الصكر، في كتابه التنظيري لقصيدة النثر العربية "الثمرة المحرمة" الصادر عن مجلة نصوص من

خارج اللغة وشبكة أطياف الثقافية بالرباط: (أقترح بحراً/ وأطلق أسماك أصابعي فيه/ أقترح بحراً/ وأشمِّر عن صهيلي/ أقترح بحراً/ فتثب الأنهار إلى راحتي/ أقترح بحراً/ فتخطف البروق خطاي/ أقترح بحراً/ فتأتي صنعاء/ تفاحة تتأرجح على الحافات البيضاء/ تفاحة يقضمها المطر على الأرصفة/ أقترح بحراً/ فترتشف القبّرات والكائنات الصلصالية/ قهوتها بين أضلاعي/ أقترح بحراً/ فأنهض في الأزقة جبلاً/ تتسلقه امرأة من عسل وبخور وحقول/ امرأة تغمس مواقيتها/ في مرق السحاب/ امرأة تخلع خلخالها/ وترنّ/ في داخلي).
يوافق اليوم ذكرى سنوية جديدة لغياب شاعر، شهدت صنعاء ومدن يمنية في العامين الأخيرين فعاليات احتفت به شاعرا حاضرا لم يمت، إذ اتخذت من ذكرى يوم ولادته (8 نوفمبر/ تشرين الثاني) مناسبة للاحتفاء به. وهنا يحضر الشاعر محمد حسين هيثم في المشهد الثقافي اليمني كما لو كان ما زال على قيد الحياة، فهو وإن مات قبل 13 ربيعاً، إنما هو حاضر بكاريزما شخصيته وبراعة شاعريته وإخلاصه لدوره النقابي في الوقت الذي ذهب فيه أدباء وكتاب هنا وهناك متقاطعين مع مسيرة اتحادهم الأدبي الوحدوية!
ختاماً، نشير إلى محمد حسين هيثم الإنسان الأكثر نبلاً والمبدع المسكون بالدهشة، كما كان هيثم: الشاعر والنقابي والصحافي والمثقف والقارئ النهم وصاحب العناوين الشعرية، وصوت الحداثة الذي بدأ كبيراً ويمضي الآن في عزلته البعيدة "رجل ذو قبّعة ووحيد"، لكنه "رجل كثير" وشاعر كبير وذكرى حاضرة لم يطوها الموت في النسيان، ولم تغادرها بعد شهادات الأدباء والكتاب والنقاد والمهتمين بالشعر اليمني المعاصر، كلما أطلت ذكرى جديدة لرحيل هيثم وحضوره في الآن نفسه.

                                      ***

على بعد ذئب

كلنا عابرٌ في القصيدة
لكننا لا نقيم بها،
ونقيم القيامات فيها
نشاورُ أحجارها، أو نساير أشجارها، أو نحاورها
أو نسير حفاة على الجمر بين الكناياتِ
نهمسُ
أنَّ كمائن أعشابها قطرةٌ من مجازٍ
وأنَّ السياسةَ بيتُ القصيدْ.

كلنا عابرٌ في البياضِ
نؤلفُ مجداً،
ونطفح موتاً،
وندعو القصيدة أن تحتفي بالبعيدْ

كلنا عابرٌ في القصيدةِ
نسألُ عن قربنا
من مشانقَ مجدولةٍ من حبال السياسةِ
أو من خيوط الوعيدْ

كلنا عابرٌ قربهم
فالغزاةُ هنا،
كلهم داخلٌ،
والبداوة فينا،
فمن جمرتينِ
نقيمُ الممالكَ مملكة إثرَ أخرى،
وننثرها في حقول البروق وبين الجبالِ قلاعاً
ونرضع من ذئبةٍ
ثم نهوي إلي قصعةٍ من ثريدْ.

كلنا عابرٌ قربهم
لا نراهم
ولكنهم من سماءٍ ملونةٍ
يبدؤون الحكايةَ
أو يبدؤون على بعد ذئبٍ
يبللُ أيامنا بالجنودْ.
كلنا عابرٌ
حيث لا ظلَّ يبقى
إذا أيقن الساقطون على مائنا
إنهم يرشفون الثمالة من حدسنا
يسرقون من الغيم زهوَ الرعودْ.

كلنا حجرٌ يرتضي
أن يكون الفتى
أو فتىً ليته حجراً
أو فتىً حجر ليته في صعودْ.

كلنا في الصبا آية،
جعدُ هنديةٍ،
رنةٌ تتراقص من وقعها ساقُ جاريةٍ
كأنَّ بخلخالها جنّ أسئلةٍ،
وكأنَّ بإيقاعها دندنات الحشودْ

كلنا في المرايا
عبور الوعول إلى هاجسٍ
من نساءٍ وليلٍ مديدْ.

كلنا عابرٌ في رصيفٍ سيعدو
وثمة ما سوف نتركهُ
ها هنا أو هنالكَ
من أزلِ الكلماتِ، ومن خيلها،
من فوارسَ ترفعُ أسيافها للطواحينِ
أو تقتل الغولَ في غفلة السردِ،
أو تسرد الغولَ في برهةٍ للشرودْ.

كلنا سوف يعرفُ أن القصيدة
تبدأُ منا وتبدأُ فينا
وترسلُ في أوّلِ العشقِ سهمَ الصدودْ.

كلنا سوف يسألُ:
كيف تقودُ القصيدةُ هذا الذي لا يُقادُ
وكيف تسوس قطيعَ البداهةِ
كيف تروِّض جيشَ الحذاقةِ،
كيف تهدهدهم في المهودْ.

كلنا عابرٌ
والغزاة سيأتون،
من ثغرةٍ سوف يأتون،
تهوي سيولهمو من أعالي الخرافةِ،
لكننا
سوف نجمع ما سوف يطفو هنالك من جثثٍ
ثم نجثو نلملم ما سوف يبقى
على صفحة السيلِ:
بعضَ حنينٍ،
ودمعاً قديماً
وشيئاً من القلبِ
نعصرهُ ثم نفرده ثم ننشره في الهواءِ
ونتركه يابساً
كلنا عابرٌ في القصيدةِ
من غيبها
لا نعودْ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.