}

ذكرى محمود مختار.. ريادة النحت المصري والعربي

راسم المدهون 5 أبريل 2020
استعادات ذكرى محمود مختار.. ريادة النحت المصري والعربي
محمود مختار (10 مايو 1891ـ 28 مارس 1934)
في عتمة كانت تعيش بدايات البحث عن المعرفة وخلق مناخات مفتوحة على العصر كان من المنطقي والطبيعي أن يشهد التغيير المنشود مجالات الحياة كلها وفي مقدمتها الآداب والفنون، والتي كانت أجناس منها غير معروفة في البلاد العربية ومنها الرواية والقصة والمسرح والسينما، فيما كانت فنون أخرى كالنحت حاضرة من خلال شواهد الحضارة القديمة والتي انقطع التواصل معها قرونا طويلة.
من هنا جاءت أهمية تجربة النحات المصري الشهير محمود مختار، وجاء دوره الريادي الذي وقع في اللحظة التاريخية الأسطع والأشد شغفا بالتجديد والتطور ومقاربة روح العصر في العالم الأوروبي وهي التجربة التي أعادت التواصل مع الحضارة القديمة من خلال أبرز شواهدها التي لا تزال الدليل الأبرز على عظمتها.
طفولة محمود مختار في العقد الأخير من القرن التاسع عشر كانت صداقة مع الطين: شغفُ التأمُل بحدقتي الدهشة جعل الفتى القروي يعيش في تلك السنوات الأولى من عمره حالة وجد مع طين القرية ويحاول دون كلل إعادة تشكيله ليحكي ما يجول بروحه من أفكار وحتى من صور وخواطر، هو الذي لم يدرك في تلك السن المبكرة الفن الذي شغل روحه ولم يقف بعد على جوهره العميق.
تمثال على شط النيل لمحمود مختار 
















محمود مختار في طفولته الأولى تلك كان لافتا برغباته وجموح مخيلته وحتى بـ"عبثه" الذي أخذه كثيرا لمحاولة تشكيل رؤى فنية من الطين.. رؤى كانت بالضرورة تعكس خياره المبكر، هو الذي لم "يتلكأ" أمام "الأجناس الفنية" ولم يفاضل بينها بل ذهب إلى ضالته منذ البدايات الأولى فاستحق انتباه الآخرين بل وتحفيزهم ورعايتهم له. كان حضوره مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في الموعد اللائق حيث "عصر التنوير" الذي أنتج التحوُلات الكبرى على صعيد الأدب والفن وأنتج في الوقت ذاته ثورة 1919 العلامة الأبرز في تاريخ تلك المرحلة والتي لا نغالي حين نؤكد أن مختار كان أحد أبرز نجومها بما حققه من نتاج فني تجاوز فكرة الريادة – على أهميتها – وقدم أعمالا ظلَت حتى يومنا هذا تثير الدهشة وتمنح من يشاهدها المتعة بما جسَدته من عمق ومن جمال.

لم تكن دون دلالة أن بدايات مختار مع النحت كانت تستلهم أجواء الريف المصري وأشكال الحياة في القرية وأهلها بل وأن يكون الطين بالذات مادته التي حقق بها تماثيله الأولى والتي جعلت معلميه في المدرسة ينتبهون لموهبته الاستثنائية ويخصصون له غرفة خاصة به يمارس من خلالها عمله الفني ويتجذر في داخله الإحساس بموهبته الفنية وشخصيته التي اكتسبت مبكرا قوة الحضور وصواب الخيارات.
"نهضة مصر" الذي كان ولا يزال عنوان واسم أشهر منحوتات مختار، هو في الوقت ذاته عنوان توجهاته الفنية والسياسية معا، فهذا الفنان الرائد تطلَع منذ بدايات حياته وفنه إلى مواكبة عصر ومواكبة ما يجري من حوله من أحداث خصوصا تلك الأحداث السياسية العاصفة وأبرزها ثورة مصر عام 1919 وهو الذي أنجز أكثر من تمثال للزعيم الوطني سعد زغلول، وجعل منحوتته "نهضة مصر" عملا رمزيا لارتباط نهوض البلاد بإنجاز تحققه الثورة المصرية. في سياق كهذا يشير النقاد والباحثون إلى أن أولى خطوات مختار نحو العالمية كانت حين عرض تمثاله "عايدة" في "صالون باريس"، الذي عاد بعد سبع سنوات وعرض فيه نموذجا مصغرا لتمثاله "نهضة مصر" ثم بعد ذلك عرض أربعين تمثالا في باريس دفعت أحد كبار النقاد الفنيين الفرنسيين إلى وصف فنه بأنه "قوة روحية فذَة".
 جعل منحوتته "نهضة مصر" عملا رمزيا لارتباط نهوض البلاد بإنجاز تحققه الثورة المصرية
















درس محمود مختار فن النحت دراسة أكاديمية على يد الفرنسي لابلاتيني في مصر أولا، ثم الفرنسي ميرسييه في باريس، وهناك تعرَف بصورة أكبر على تجارب فن النحت في فرنسا والعالم ما أهله لتقديم منحوتات بالغة الدقة خصوصا في "المنمنمات البارزة" التي عرفها الفراعنة من قبل، وكذلك في تحقيق منحوتات "كبرى" لعلَ أبرزها تمثال "إيزيس" التي تجلس ويداها خلف رأسها حزينة على "أوزوريس" طبقا للأسطورة الفرعونية.

تماثيل محمود مختار عاشت زمنا في فرنسا وحين بدأت استعادتها إلى مصر لم تلبث أن توقفت بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقد ساهمت جهود هدى شعراوي وجهود عميد الأدب العربي طه حسين في تحقيق ذلك خصوصا في فترة وجود طه حسين وزيرا للمعارف بين عامي 1950 و1952. مع ذلك لم يتوقف جهد الرائد الراحل عند تحقيق الأعمال الفنية فقد ساهم بجهد بارز في تأسيس "مدرسة الفنون الجميلة" وفي ايفاد البعثات الفنية إلى الخارج.
يرى نقاد فن النحت أن مختار استطاع بموهبته وثقافته الجمع بين المدرستين الرومانية - الإغريقية، وبين التراث الفرعوني المصري والرؤى الشعبية المصرية الحديثة والتي امتزجت في ذهنه بالحركة السياسية والثقافية الشعبية وتطلعات الشعب المصري لتحقيق تحرره ونهضته وهو بهذا كله نجح في تأسيس مدرسة مميزة في فن النحت، بل وفي تأصيل هذا الفن ومنحه حضوره بين الفنون كلها؟


عقود طويلة مضت منذ تلك التجربة الفنية الكبرى لمختار، جرت خلالها مياه كثيرة وشهدت
الحياة الفنية عشرات التجارب المتفاوتة في نجاحها وتألقها وفي مدى ما وصلت اليه من تطور وما تناولته من موضوعات وأفكار ومدارس فنية، لكن تجربة مختار الفنية بغزارتها وتنوعها، وبالأهم ببراعة تكويناتها واتكائها على الروح الشعبية والتي امتزجت بأفكار الحداثة وما عاشته التجارب الفنية العالمية من تطورات كبرى حفظت لمختار استمراره واستمرار أعماله كعلامات فنية بارزة على رؤية روحية وبصرية هائلة ودقيقة لديه ولعلنا نجد ذلك كأسطع ما يكون من خلال تنويع المواد الأولية التي حقق من خلالها منحوتاته الريفية والمدينية، الحزينة والمتفائلة وأيضا التي تحمل الغضب تارة والإصرار تارة أخرى، وقد فعل ذلك كله بمواد من بيئته المحيطة وحَد بها رؤاه الفنية والفكرية مع روح مصر وتطلعات أهله على نحو غير مسبوق.

أهم ميزات تجربة مختار أنها وقعت في سياق فن نخبوي إلى حد بعيد وجعلت الاهتمام بهذا الفن ومتابعته شأن قطاع واسع الناس وليس وقفا على عشاق الفن والثقافة عموما وقد تحقق ذلك بسبب من مزج فن النحت بالموضوعات الشعبية والوطنية التي تعبر عن طموحات الناس وأحلامهم بل وأيضا همومهم الكبرى ومعاركهم الوطنية في مراحل عصيبة من تاريخ مصر.
"متحف محمود مختار" واحد من أبرز المحطات الفنية التي كثيرا ما تستقطب حضور الزائرين لمصر وهو يمنح الزائر المهتم فرصة التعرف على تطور هذه التجربة النحتية الفذة، وما تحمله من جماليات كبرى لا تزال علامة بارزة على حضوره وتألقه رغم الزمن، بل وتقنعنا بجدارة ريادته لفن النحت في بلاده مصر وفي بلاد العرب كلها خصوصا وأن هذا الفن بالذات قد شهد ظلم الظلاميين واتهاماتهم مثلما شهد نعتهم له بأبشع أوصاف التحريم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.