}

جين بولز.. التمثال الذي تدبّ فيه الحياة

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 14 مايو 2020
استعادات جين بولز.. التمثال الذي تدبّ فيه الحياة
جين بولز وغلاف روايتها الوحيدة "سيدتان جادّتان"
ظلال الجنون والمعاناة
شهد يوم 4 من شهر مايو/أيار سنة 1973 وفاة الكاتبة الأميركية جين بولز، التي ولدت سنة 1917، وتزوجت بالكاتب الأميركي الشهير بول بولز سنة 1940. نشرت روايتها الوحيدة "سيدتان جادّتان" سنة 1943. فاتخذها الدارسون نموذجًا للأدب الذي يكون مرآة لصاحبه، ومرجعًا مريحًا لكُتاب السير الغيرية، كما هي الحال بالنسبة للكاتبة الفرنسية فيليسي ديبوا، التي ألّفت سيرة مدهشة عن جين صدرت سنة 2015 عن دار نشر "سوي"، كما فعلت من قبل مع الكاتب الأميركي، صديق جين، "التمساح العجوز" تينيسي ويليامز، الذي كان يعتبر جين من أكبر كُتّاب النثر في الأدب الأميركي المعاصر. عاش معها في أميركا، وزارها في طنجة، المدينة التي كانت موعدًا لغريبي الأطوار الكوسموبوليتيين، قبل أن توافيها المنية في مصحة للأمراض النفسية بمدينة ملقة الإسبانية، حيث كانت محاطة براهبات كاثوليكيات.
ترى فيليسي أن جين تنتمي إلى ذلك النوع من الكُتّاب الذين يجب إضافة شخصيتهم إلى أعمالهم. وأعمال جين لم تتجاوز ثلاثة في أجناس أدبية مختلفة: "سيدتان جادّتان" في الرواية، و"رغبات مسالمة" في القصة القصيرة، و"في بيتها الصيفي" في المسرح. 
نُشرت المجموعة القصصية، التي تضمّ تسع قصص، بعد موتها، وهي جزء من مفكّرة كانت تسجل فيها الأفكار لكتابة رواية لم تستطع إتمامها، وأيضًا لروايتها المنشورة "سيدتان جادّتان"، التي كانت تحمل في الأصل عنوان "ثلاث سيدات جادّات"، لكنها عدّلته عملًا بنصيحة زوجها بول بولز، صاحب الرواية الشهيرة "شاي في الصحراء"، الذي وافق، بعد تردّد، على نشر أعمالها غير المنشورة.
نجد في هذه الأعمال كلّ الأفكار المهيمنة على ذهن ونفسية جين بولز: الأمراض العُصابية، الضغط، الأزمات، تقلّبات المزاج، الأحزان، المخاوف، الرغبة في الانعزال، ردود الفعل غير المنتظرة، التي يصعب التحكم فيها، ووراء ذلك تقف، دومًا، ظلال الجنون والمعاناة.
كما نجد أيضًا الحاجة الملحة إلى اللقاء بالآخرين، والذهاب إلى أبعد مكان، والرغبة في إيذاء النفس والارتطام. العار والغضب يتمُّ نسيانهما في وقت وجيز ليتركا مكانهما للضجر، الذي يجعل بعض النساء مسطّحات بشكل كلّي، في حين يجعل أخريات على وشك الانكسار بشكل دائم.
كل شخصيات جين بولز تفكّر في هذه الخاصيّات، التي تعتقد الكثيرات أن بإمكانهن تغييرها ليتم التوافق مع ما ينتظره العالم منهن. لكننا نجد أحيانًا روحًا مرحة، وشيئًا من الهزل والغرابة، وبعض ملامح الدناءة والحذر تجاه الغرباء والفقراء، الغريبة بقوة الأشياء، وشيئًا ما مزدراة: "الإيرلنديون، اليهود أو العاملون في السيرك".


اكتشاف الأدب في سويسرا
ولدت جين يوم 22 شباط/فبراير 1917 من سيدني أور وكلير ستاجر آور. أمضت طفولتها بوودمير في شبه جزيرة "لونغ إيسلند". بعد وفاة والدها سنة 1930، عادت جين ووالدتها إلى مانهاتن. وطيلة مراهقتها عانت من مرض السل الذي أصاب عظامها. نقلتها والدتها إلى سويسرا من أجل العلاج، حيث بقيت مدّة طيلة عدّة أشهر في مارستان بلايسين. في تلك الفترة شعرت بحب عظيم تجاه الأدب. وحين عودتها إلى مدينة نيويورك، شرعت في محاولة كتابة الرواية، وفي مغامرات جنسية، خصوصًا مع النساء.
في سنة 1937 تعرّفت على الروائي بول بولز. وفي السنة الموالية عقدا قرانهما وانطلقا لقضاء شهر العسل في أميركا الوسطى. وبعدها انتقل الزوجان بولز إلى باريس، المدينة التي بدأت فيها جين تكتب بانتظام، وتزور حانات السحاقيات. استمرت الحياة المشتركة بين الزوجين بولز سنة ونصف السنة، لكن بعد ذلك عاشا حياة جنسية متفرّقة، مع بقائهما متزوجين. وبعد عودتهما إلى نيويورك سنة 1938، توجّها مباشرة نحو المكسيك. تابعت جين عملها كروائية، وتعرّفت على هيلفيتيا باركينز، التي جمعتها بها علاقة حبّ.



نشرت جين روايتها الوحيدة "سيدتان جادّتان" سنة 1943. لكن لم يهتم بها النقد كما كان منتظرًا. هنا تدخّل بول بولز فقام بجمع قصص قصيرة نشرها فيما بعد، ونالت ترحيبًا حارًّا. شرعت جين في كتابة رواية جديدة، لكن سرعان ما تملّكها الخوف من عملها الجديد. في سنة 1947 سافر بول إلى المغرب كي يشرع في كتابة روايته "شاي في الصحراء"، فلحقت به جين في السنة الموالية. وبقيت تتعب نفسها في كتابة القصص القصيرة والمسرح الذي أنتجت فيه مسرحيتها الوحيدة "في بيتها الصيفي" المترجمة إلى العديد من اللغات. في طنجة، المدينة التي أقام فيها بول وجين سنوات طويلة، ارتبطت جين بامرأة مغربية تدعى شريفة.
قُدّمت مسرحيتها على خشبة مسرح برودواي سنة 1953. ونالت مباركة منقطعة النظير. بعدها عادت جين إلى طنجة بغرض كتابة رواية جديدة، لكن علاقتها بشريفة شغلتها عن كل شيء آخر. وفي سنة 1957 حدث الأمر الذي جعل منها امرأة عاجزة عن النظر والتخيّل: أصيبت بجلطة دماغية قوية. لكنها رغم ذلك تركت لنا العديد من الدفاتر التي تؤكّد استمرارها في الكتابة دون انقطاع. وبعد عدة إقامات طويلة المدد في إنكلترا ونيويورك وإسبانيا، انتهى بها المطاف في مصحة بمالقة، التي ماتت فيها يوم 4 مايو/ أيار من سنة 1973.



*****

العشب الذي يخفي كل شيء 

(مقطع من رواية عن جين بولز)    

يأتي الربيع فتذوب الثلوج. لي ذكريات مع الربيع، مثلما لي ذكريات مع فصل الثلوج. في فصل الربيع هذا فضلت أن أحكي قصة طريدةٍ ميّتةٍ قامت وأمسكت بصيادها. ركضت وراءه في اليقظة كما في الأحلام. طريدةٌ ميّتةٌ محيّرة فعلًا. ماتت وتركت وراءها أشياء كثيرة فاقت ما كان موجودًا وهي على قيد الحياة.

توجّه محمد المرابط إلى جين بولز بهذا السؤال الغريب وهو يضحك:

- هل تحبين هذا الشراب؟

أجابته جين دون أن تنظر إليه:

- لم أتذوقه من قبل.

كانت جين، المرأة النحيلة، تضع أمامها على المكتب أعمالها الكاملة التي لا تتعدّى ثلاثة كتب متوسطة الحجم، في ثلاثة أجناس أدبية: رواية، مسرحية ومجموعة قصصية. ولا أحد يعرف لماذا أخرجتها من المكتبة، ووضعتها على المكتب، بعد أن فتحت نافذة الغرفة، في هذا الربيع الدّافئ من سنة 1973. جال في ذهن محمد، حين رآها تفتح النافذة وتطلّ بنصف جسدها الضئيل إلى الخارج، أنها ستصرخ: أنقذوني... أنقدوني... استدارت وتوجهت نحو الحمام، أرادت أن تلجأ إلى الماء. لو وصلت إلى الماء لتحسّنت حالتها، لكنها سقطت قبل أن تصل. لم يكلمها محمد، فقط بقي يراقبها وهي تتدحرج إلى أن سقطت. ركض نحوها وأمسكها من ذراعها ومشى بها إلى سريرها في غرفة تقع في نهاية الممرّ. بقي ينظر إليها والعرق يتصبّب منها.

كلما نظر محمد إلى جين انتابته حماسة أن يفكّر في كل شيء من جديد، أن يفعل ويعمل ويقوم بالأفضل، أن يحوّل اللحظات السيئة في حياته إلى شيء جيّد. باختصار، هذه المرآة النحيفة تبعث في داخله قوّة أن ينهض من جديد.

حين التفتت جين وجدت محمد قرب الباب، قالت له:

- لا تذهب أرجوك.

فأجابها دون أن يلتفت نحوها:

- سأذهب، لأنك تريدين قتل نفسك. وعلى كل حال، سأكون في الجوار، سأجلس على كرسي في الحديقة المجاورة.

مالت جين نحو الأمام:

- قبل أيام كنت في الحديقة، سقطت قلادتي وضاعت، اختفت في العشب. رجاء ابحث عنها. كنت جالسة على الكرسي الذي على يمين المدخل. انتبه لنفسك، فالعشب يخفي كل شيء.

كانت جين تتكلّم وهي تحرّك شفتيها بغرابة، كأنها تتلقّى أقوالًا من السماء. أقوال لو تلقّاها شخص أقل براعة لأخفق في نقلها إلى البشر على الأرض.

لم يتردّد محمد في قول كلمات لم يعرف من أين جاءت:

- العشب يخفي الأشياء، لكننا نحن نحتفظ بأسمائها.

في تلك الليلة، كان هناك أناس نائمون، وآخرون مستيقظون. نام محمد في بيته، وبقيت جين مستيقظة حتى الصباح. جين مريضة جدًّا، حركاتها ونظراتها تقول إنها كانت قريبة من الموت، لكنها لم تكن خائفة أو مثيرة للشفقة. لكن محمد كان ينوي إخضاعها لاختبار بسيط، أراد أن يطلب منها أن تحكي كيف كتبت روايتها "سيدتان جادّتان". أراد منها الرجوع في الزمن. السؤال الذي يدور في رأسه: أين كنت ليلة نشر روايتك في 12 مارس 1943؟ والجواب المنتظر من "جين" هو: حين أمسكت بالرواية، ورأيت غلافها كنت كمن ينظر إلى الجنّة. منذ 1943 وأنا أحتفظ بتلك السعادة في قلبي.

 الناظر إلى جين ومحمد في ذلك الصباح، سيظنّ أنهما يشتغلان ويتحدّثان. كانت جين تمسك قطعة ثوب في يدها، وسيظنّ الناظر أيضًا أنها هي من خاط هذه القطعة البيضاء المزركشة. كان ثمة صمت بينهما في غالب الأوقات، لأن محمد لا يعرف كيف يبدأ الحديث معها، ولأن جين لا تتوقّع ما سيصدر عن هذا المغربي الخفيف الظل والحركة. كانت أفكار كل منهما تسرح داخل عقليهما. رفعت جين رأسها نحو سقف الغرفة وبادرت بالسؤال:

- هل طنجة تساعد على تحقيق الأحلام؟

قال محمد ببرود:

- طنجة مدينة، لكنها في الحقيقة بداية تجربة. لكنها يمكن أن تتحوّل إلى ممحاة.

لم تعتد جين على هذه الاستعارات من محمد الذي يعبّر بلغة مباشرة. وهي تعتبر أن الرجل اللطيف وحلو العشرة هو من يعبّر دون أزهار البلاغة. ومع ذلك لم تستطع إلا أن تشجّعه على الاستمرار. فقالت بنوع من الجلال:

- أووووه يا محمد، حتى في حالة سقوطنا فإننا سنستقرّ في مكان ما. "د. هـ. لورانس" قالها بصيغة أفضل، في جوّ روائي مشحون بالفكر والأمل.

لاحت على وجه محمد ابتسامة رائعة. لقد بدأت جولة الاستفادة الفكرية في حديث هذه المرأة الضئيلة التي تمتدّ منهكة أمامه على السرير.

ردّ محمد على كلمات جين بنفس فلسفي:

- إذا سقط المرء من حافة اسمها نيويورك فإنه سيسقط في مكان اسمه طنجة.

صفقت جين بيديها بقوة فاهتزّ السرير تحتها. ظنّ محمد أنها ستسقط، فنهض من مكانه وتقدّم نحوها وأمسك بيدها. تراجع إلى الوراء وناولها كأسًا مليئًا بالماء. أمسكت جين بالكأس، تمتمت كلمات غير مفهومة، وأنهت المحادثة. مدّت رجليها ببطء، بدت في مظهر امرأة نائمة. فتحت فمها قليلًا، فظهر سنّ أبيض أكثر من الأسنان الأخرى، وشامة صغيرة في عنقها لم يرها محمد من قبل. لكن زوجها بول بولز كان قد لاحظ ظهورها المفاجئ منذ أسبوع، ولم تستطع تفسير الأمر. فقط اكتفت بالقول إن الكاتب كونان دويل لا يستطيع الجواب عن سؤال: هل كانت لشارلوك هولمز شامة في مؤخّرته؟

نامت جين، ووجد محمد نفسه أمام فراغ، أمام امرأة غابت بعد أن كانت حاضرة قبل قليل، وكانت تنظر للعالم من فوق الحافة. نهض بسرعة وتوجّه نحو الباب كأنه يبغي الهروب من شيء ما. لقد ظهرت جين ممدّدة مثل جثة، مما ولّد في داخله شعورًا من الرعب. لكنها سرعان ما انتبهت لانسحابه، فاستدارت نحوه وقالت كأنها تتمّم كلامًا بدأته دون أن تُنهيه:

- إن روايتي "سيدتان جادّتان" كتاب ظلّ يخيفني وأنا أكتبه... إنها لصيقة جدًّا بنهاية الإنسان. كنتُ أشعر كأنني أكتب عن شيء أراه أمامي لكنه سينتهي قريبًا، سيزول ويتلاشى في الهواء مثل الدخان. وأنا عاجزة عن الإمساك به وإعادته إلى الأرض. عالم صاعد إلى الله، وأنا لا أملك شيئًا أقوم به سوى ملاحقته بنظراتي، والتلويح له لأنه ذاهب دون أمل في العودة. وغايتي من ذلك ملء ذاكرتي البصرية بصورة لأمر يحدث لآخر مرّة.

ابتسم محمد وتردّد قليلًا قبل أن ينطق وهو يرفع بصره نحو الأعلى:

- لو كنتُ معك لَتَبِعت بنظري صعود العالم إلى الله.

ثمّ بدأ يغني أغنية ريفية حزينة، حاولت جين أن تتبع إيقاعها الذي يشعّ بالحنين إلى قمم الجبال. رفع محمد حاجبيه وهو ينظر إليها، متّخذًا مظهر من سمع أخبارًا زائفة. ثم استوى واقفًا على رأسها كأنه سيشرف على حراستها ما تبقى من النهار والليل كلّه. وقف بروح صادقة، مخلصة. بقي ينظر إلى وجهها المتعب. ارتسمت عليه خرائط مدن أميركية وأوروبية: نيويورك، سويسرا، المكسيك، باريس، مالقة... شقرة وسمرة في اختلاط غريب. شعر منثور، وشفتان متشقّقتان. أصابع نحيفة وقلب مليء بالمخاوف. وضع يده على جبينها، ووضع منديلًا صغيرًا مبلّلًا على وجهها، ثم خاطبها كأنها تسمعه:

- يؤسفني كثيرًا توعّكك، سيدة جين.

 تعلّم محمد أن يكون جادًّا مع هذه السيدة المحتضرة، التي علّمته أيضا أن يكون جادًّا مع اللّاشيء. نظر إليها مجدّدًا وعيناه تلمعان، ثم سألها كأنها تسمعه:

- ألن تغيّري ملابسك؟

بقي على مقربة منها.

  jane bowles 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.