}

في رحيل صلاح ستيتية.. المبدع الذي لم يؤدلج شعره

بوعلام رمضاني 1 يونيو 2020
استعادات في رحيل صلاح ستيتية.. المبدع الذي لم يؤدلج شعره
"الإبداع في الشعر أو الفن عند ستيتية كالنار والنور"
القارئ لكتاب "ليل المعنى" الذي تحدثت عنه في الحلقة الأولى الأسبوع الفائت، وكتاب "إسراف" الضخم الذي أهداني صلاح ستيتية إياه في بيته موقعا باللغتين الفرنسية والعربية، يتأكد من "غباء" الإعلام الفرنسي الذي نعى الراحل الشاعر والديبلوماسي الكبير ستيتية من منظور لا يفرق بينه كحالة خاصة ومتفردة، وبين كتاب عرب عاشوا مثله في فرنسا وكتبوا بلغة موليير. فخلافا لمعظمهم، باستثناء أمين معلوف، لا يمكن تكريم الراحل الكبير دون تأكيد حقيقة مفادها أن شخصيته لا تشبه شخصيات أخرى بدعوى تبني أطروحات حداثية في مختلف ضروب الأدب بوجه عام والشعر بوجه خاص.
لماذا؟
أولا وحده القارئ لنماذج من شعره على الأقل وليس كله بالضرورة، ومن كتاباته النقدية ومن مفاهيمه ومقارباته للشعر، يفهم أن ستيتية علامة فارقة في المشهد الشعري والنقدي والفكري عربيا وفرنسيا وحتى عالميا. هذا الفهم، لن يكون ممكنا إذا لم نطلع على آراء مبدع شعريا ونقديا فكك الشعر العربي بكل أشكاله، وأزاح اللثام عن أوجه قوته وضعفه في كتاب "ليل المعنى" الذي يعد مرجعا تاريخيا كشف عن شخصية رجل استثنائي بفضل القدرة العجيبة لمحاوره جواد الصيداوي وصراحته، وبفضل صراحة ستيتية نفسه.
في كتاب "ليل المعنى" الذي أوضحنا ما قصد به في الحلقة الأولى، مضى الراحل يؤكد هويته العربية الإسلامية التي تربى في أحضانها وهو طفل، وعاد إليها وهو شاب في باريس كبار الأدباء والنقاد، لتحقيق ما أسماها بالوحدة الذاتية بعد عودته إلى البيت الأول وإلى الجذور "التي مكنته من تفادي انفصام الشخصية، ومن الاستلاب الذي يميز الكثير من فرنكفونيي عرب باريس، ومن الانسلاخ عن الذاكرة التي أعطت لشعره خصوصية هوية متوازنة لم تتحقق عند كتاب فرنكفونيين عاشوا للالتزام الأيديولوجي أكثر مما عاشوا للإبداع"، كما قال.
في كتاب "ليل المعنى"، عشرات الأدلة التي تثبت أن ستيتية خسارة شعرية ونقدية للعالم بأسره، حتى وإن لم يعرف خارج فرنسا بالقدر الكافي بسبب الروح اليعقوبية والشوفينية الفرنسية، والحقيقة نفسها يكشف عنها كتاب مذكراته الضخم "إسراف" الذي روى فيه حوالي نصف قرن قضاه في باريس محتكا بأشهر الشعراء والنقاد والشخصيات الأدبية والفنية والفكرية العربية والفرنسية والأجنبية، وكديبلوماسي لبناني يجيد الرسم ويتنفس الشعر بمفهومه الإنساني الأشمل والأعمق بكثير مما هو عند شعراء كثر وضعوا أنفسهم في زاوية الالتزام الأيديولوجي في كثير من الأحيان باسم الحداثة. الإبداع في الشعر أو الفن عند ستيتية "كالنار والنور في الوقود التي أيا كان نوعه يحرق ويضيء في آن معا، ولذلك من الخطأ الكلام عن الحداثة أو عن القدم في الشعر. إن الشاعر الحقيقي يبدع في حضارات وفي ظروف مختلفة ومتناقضة وبلغات عديدة، فالشنفرى أبدع كما أبدع امرؤ القيس والمتنبي وفيرجيل وماياكوفسكي ورينيه شار وكيتس وإليوت ومالارميه وأبولينير وفيرلين وسواهم ممن جسدوا شاعرية نتجت عن مناسبات سخيفة لا علاقة لها بقضايا الالتزام الأيديولوجي، والشاعرية هي التي جمعت ماياكوفسكي ومالارميه، ولم تكن حتما نتاج الثورة السوفياتية عند الأول".
ستيتية الفرنكفوني الذي لم يلتزم أيديولوجيا بشكل واضح وصارخ كما عرف عند معظم الشعراء العرب الذين ادعوا التجديد ووصف الكثير منهم بالانتهازيين "لتبنيهم الغموض من أجل الغموض بدل الغموض الطبيعي الذي يعد رفيق الشعر منذ البداية"، لا يتردد في الربط بين إبداعه الشعري والأبعاد الروحية والنفسية الناتجة عن الجدلية الإسلامية الأصيلة بين العابر والأزلي: "وهذا ما لم يسمح لأدونيس من اكتشاف عالمي الشعري وعلاقته بوطأة المخيلة الإسلامية، واقتصاره بالقول إن مفتاح شعري جمالي رغم ما يتمتع به من نبوغ".






جلال الشعر القديم
تزداد فداحة رحيل ستيتية أكثر، حينما نتأكد من عدم ترديده مقولات شبه لاهوتية جاءت على ألسنة شعراء عرب ادعوا الحداثة سواء تعلق بالذين كتبوا باللغة الفرنسية أو باللغة العربية. فهو القائل: "إن مهمة رواد الشعر الحديث كانت صعبة بسبب جلال الشعر القديم ووطأته، ويبدو أن التحرر منها كان أكثر صعوبة في شعرنا العربي مقارنة بالشعراء الفرنسيين والإنكليز والألمان والأميركيين"، وعندما "خرج الشعر العربي إلى النور، أقبل بظمأ صحراوي على صور ومعان وتجارب أدبية لم تكن متوفرة من قبل، خاصة في الشعر العربي الحديث، وأذكر ماياكوفسكي ومالارميه وسان جون بيرس وناظم حكمت وإيلوار وإيف بونفوا ورينيه شار وهنري ميشو وبيار جان جوف وإليوت وعزرا باوند و المدرسة السريالية وعلى رأسها أندريه بريتون، وهناك أيضا إيلتيس ويانيس ريتسوس". ستيتية لا يدعي تمثيل الحقيقة ولا يعرف ماذا يكتب وإلا لما كان شاعرا على حد قوله، وليس ضد التقليد في حد ذاته لأن الإبداع استمرارية وتجديد في الوقت نفسه، لكنه ضد من يتبجح ويتباهى بتجديده المستمر في الشعر والنثر كما قال فرنسيس بونج مرة لجان كوكتو: "أنا لا أعيب عليك تقليدك للآخرين، بل أعيب عليك تظاهرك بأنك السباق دوما".



حياة إسراف وجنون
شاءت الصدفة أن أعيد قراءة الكتابين اللذين أهداهما لي الراحل في بيته الريفي الذي عاش فيه متصوفا حتى رحيله يوم التاسع عشر من أيار/مايو بعد حياة عاد إليها في مذكرات تؤكد أنه عاش فعلا وبشكل جنوني كما عبر عن ذلك عنوان كتابه "إسراف". إنه الكتاب الذي صدر عام 2015 عن دار روبير لافو وجرى تقديمه في معهد العالم العربي بحضور الراحل الكبير الآخر جان دنيال والناقد والروائي عيسى مخلوف وجاك لانغ وجمهور لم يتسع له الطابق التاسع الزجاجي الذي يطل على نهر السين الوديع. في الكتاب أسهب بقلم شاعري أخاذ في وصف طفولته محاطا بوالدين أحبا بعضهما البعض، وبتأكيده على خاصية الطفولة وانعكاسها في إبداعه الذي تجلى بشكل صارخ في ديوانه الثاني "الماء البارد المحروس" والذي خرج من رحم جبل باروك الذي كان يقضي فيه العطلة الصيفية طفلا في قمة السعادة متناغما مع طبيعة تطيل العمر. من خلال إعادة قراءة كتاب "إسراف" يكتشف القارئ مفكرا ومنظرا وناقدا ومبدعا في الشعر وديبلوماسيا. قد يتحفظ الثوريون والتقدميون من الكتاب على شخصية البرجوازي الصغير غير المؤدلج من منظور نمطية أيديولوجية ثبت فشلها لكن لا يمكن لهم في حال من الأحوال عدم إنصافه كما أنصف بعض الذين أبدعوا شعريا بغض النظر عن توجههم الأيديولوجي الذي كثيرا ما تحول إلى وسيلة أساءت لمفهوم الإبداع الشعري كما شرحنا في الحلقة الأولى وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة.


تكريم شعراء التموزية
كرم ستيتية ممثلي الشعر التموزي الذي "جاء من داخل اليقظة الجديدة للإنسان العربي" على حد قوله، وأحب من بينهم بدر شاكر السياب الذي ترجم له قصائد "جيكور" التي اعتبرها ذروة شعره، وانتمى الى اليسار الشيوعي بوجه خاص، والتحق بجماعة مجلة "شعر" التي أسسها خليل حاوي.

أشاد الراحل بالجماعة التي سعت إلى "تدمير الحواجز اللغوية والمعنوية لإنشاء شعر جديد" بذكره يوسف الخال وأدونيس وخليل حاوي، وبإلحاحه على خصوصية السياب الذي أحبه شخصيا وشعريا، واعتبره "أبرع الشعراء في التصوير والنغم الشعريين ليس بمفهوم القصيدة العمودية التقليدية لكن من منظور الغنائية الداخلية العميقة". وردا على أسئلة فصل "شعراء ومراحل" أكد ستيتية قبل رحيله أن موته لن يكون إلا جسديا، وأن صاحب الإبداع المتميز لا يموت. وقال: "يهمني أن أقول إن ذكر أسماء شعراء عرب دون غيرهم لا يعني مطلقا الانتقاص من قدر ذلك البعض، ومنهم شعراء تقليديون من ذوي الشاعرية الأصيلة، وإنما ورد ذكر من ورد ذكره لعلاقته المباشرة أو غير المباشرة بمضامين الحوار. إن الذين ذكرتهم عايشوني وعايشتهم في مسيرتي الأدبية والنقدية، ولأن بعضهم اعتبروني مطورا لمفهوم الشعر نقدا وابداعا في فرنسا وخارجها. أنا من المؤمنين بنظرية مالرو في كتابه الشهير "أصوات الصمت"، والتي تقول إن الإبداع لا ينشأ من التاريخ أو من الظروف أو من الأحداث، أو من العواطف، وإنما ينشأ من إبداع آخر، فالشعر هو ابن الشعر، والفن ابن الفن، وتأتي الأشياء الأخرى لكي تغذي العملية التحولية المستمرة. هذه النظرية أساسية في مفهوم الإبداع".


سأختم باستشهادين حول ستيتية:

آلان بوسكيه: "منذ مجموعته الأولى ’الماء البارد المحروس’ (1973)، كانت قصائد ستيتية تتصرف كمبتكرات (منحوتات) لفظية يمكن القبض عليها من كل الجهات دون التأكد من احتجازها عن حق".

أندريه ميكال: "أحسدك أنا يا صلاح وأغار منك. كان قليلا أن أظهرك شاعرا وعالما حتى في لغتك التي تجعل منكم أيها العرب سدنة لكلام جوهري. إنك من العرب الذين أتوا إلينا مخضعين اللغة القديمة لدعواتها الجديدة، مضيفين إلى عود الشاعر القديم أوتارا لم تقطعوا سواها. إنها الآلة نفسها إلا أن الإيقاع منها إيقاع الساعة، وسواء كان ذلك بالعربية أم الفرنسية، أم كان في النهاية باللغتين، فأي أهمية تبقى إذا كان الشعر هو المستفيد؟".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.