}

ميشيل فوكو.. الذات بوصفها موضوعًا جماليًا

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 15 يونيو 2020
استعادات ميشيل فوكو.. الذات بوصفها موضوعًا جماليًا
ميشيل فوكو (1926 - 1984)
في خمسينيات القرن الماضي رحل الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي في مهجره بالولايات المتحدة الأميركية، بعد أن ربط في قصيدته المشهورة "فلسفة الحياة" بين جمال الذات وجمال الوجود، فقال "كن جميلا تر الوجود جميلا". هذه المقاربة الشعرية لـ "جمالية الوجود" ستتعمق حفرا بمعول أركيولوجي فريد هو الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي بدأ إنتاجه الفلسفي بكتابه "الشخصية والمرض العقلي" 1954 واستمر حتى الجزء الثالث من كتابه "تاريخ الجنسانية" أواسط الثمانينيات (نشرت دار "غاليمار" الجزء الرابع منه عام 2018)، وكان العنوان الأبرز لهذا الإنتاج: "الفلسفة فن للعيش".
نعود إلى فوكو بمناسبة العودة إلى الذات، وهي اليوم أحوج ما تكون للانعتاق تحت ضربات مكثفة تمارسها علاقات السلطة وإكراهات الخطاب، لا سيما الخطاب الشعبوي، وخطاب الإرهاب والكراهية، والسلطة الصحية التي ازدادت شراسة في مواجهة الأوبئة، فتعززت معها آلية الرقابة والتلاعب بالحقيقة وتسييسها... وغير ذلك من أعراض هذا الحاضر. نعود إلى الذات متوخين انعتاقها من ذلك كله دون أن ننسى مسؤولياتنا تجاه هذا العالم المضطرب المتغير بسرعة.
فهل يمكن أن نمتلك من الجمال ما يكفي فنرى الوجود جميلا؟




الفلسفة بوصفها فنا للعيش
بعد المعرفة ثم السلطة، ومع كتابه تاريخ الجنسانية في جزئه الأول "تاريخ العرفان" (1976) ندخل مع فوكو في اللحظة الثالثة من مشروعه الفلسفي التي يتناول فيها السلوك من خلال علاقة المرء بجسده ورغباته، وكيفية تحصيل ملذاته، فيقدم مقاربة للكيفية التي يتم فيها تشكيل المرء كذات خلقية. هنا، ينتقل فوكو من الاهتمام بكيف نقاوم السلطات؟ إلى الاهتمام بتشكيل الفرد كذاتية، أو كيف يرتدّ الفرد على ذاته؟ الاهتمام هنا بعلاقته بذاته وليس بالآخرين، لتنبثق الذات التي لا تخضع فقط لعمليات الهيمنة بل تتشكل أيضا عبر تقنيات وفنون الانهمام بالذات.
يبحث في أنماط التذوّت وأشكال صناعة الذات في الثقافة الغربية لدى اليونان، ثم المسيحية، ثم في المجتمعات الأوروبية الحديثة، باحثا عن آفاق جديدة لتجاوز الحدود عبر تقنيات للذات كأساليب وقواعد لبناء الذات. ويعيد إحياء النظريات القديمة للفلسفة باعتبارها أولا وقبل كل شيء فنا للعيش لا مجرد نظرية. السؤال الذي يعترضنا هنا: لماذا لا نجد عند فلاسفة قدماء، أمثال ديوجين الكلبي وسقراط، ونحوهما، فلسفة مكتوبة؟
في هذه المرحلة القديمة، من تاريخ الفلاسفة، كان اعتناق الفلسفة بمثابة اعتناق لدين، ودخول الفلسفة هو دخول إلى الحياة، وكان هدف أكثر النظريات تجريدا تحسين الفهم من أجل تحسين التصرف. بناء أنساق فلسفية لم يكن غاية، إذ اهتمت المدارس الفلسفية القديمة (الأبيقورية، الرواقية، الفيثاغورية) بتزويد التلميذ، لا بمجرد الفهم النظري للعالم، بل جسّدت تلك المدارس نمطا للعيش والتفكير الجماعي، بوجود أساتذة ومعلمين. كانت طوائف يتم التعلم داخلها نمط محدد من العيش. لقد جعل هؤلاء من الفلسفة تمرينا دائما على الانهمام بالذات، فكان الانهمام بالذات طريقة لتدبير الحياة عبر مجموعة من الإجراءات والممارسات التي تحولت إلى كيفية في المعرفة وطريقة معينة في تدبير تلك المعرفة.
يميز فوكو بين الفلسفة والروحانية. فإذا كانت الفلسفة ذاك الشكل من التفكير الذي يتساءل حول ما يسمح للذات بالوصول إلى الحقيقة، فإن الروحانية هي البحث والممارسة والتجربة التي من خلالها تجري الذات على نفسها مجموعة من التحولات الضرورية للوصول إلى الحقيقة. يتم ذلك عبر مجموعة أبحاث وممارسات وتجارب تكون شكلا من أشكال التطهر والزهد أو الاعتكاف والتنسك أو أشكالا من التوبة... وغيرها. الانهمام بالذات سيكون هو الشكل الأكثر عمومية للروحانية الفلسفية.



الذات والحقيقة: معرفة النفس أم الاهتمام بها؟
ينشغل فوكو بالعلاقة بين الذات والحقيقة، لتصبح الفلسفة عنده شكل الفكر الذي يتساءل حول ما يسمح للذات ببلوغ الحقيقة، لذا يرتبط الانهمام بالذات عند فوكو بالفلسفة باعتبارها نمطا للعيش. الانهمام بالذات لا يعني الانعزال، ولا قطع صلة الذات مع العالم، بل يتعلق بممارسة اجتماعية عقلانية ودعوة للمساهمة بشيء ما في هذا العالم.

وفوكو يرفض أن يعطي مسبقا أي نظرية في الذات، فهي ليست جوهرا بل هي شكل ليس مطابقا لذاته دائما، فأنا لن يكون لي نفس النمط عندما أتشكل ذاتا سياسية تمارس حقها في الاقتراع أو عندما ألقي خطبة في مؤتمر أو أستمع إلى محاضرة أو عندما أزور معرضا فنيا أو حتى أبحث عن تحقيق رغبة داخل علاقة جنسية.
يميز فوكو بين الأخلاق بوصفها قواعد يخضع لها المرء أو يلتزم بها، وبين الأخلاق كمشروع مبتكر يتعامل من خلاله المرء مع الحياة كفن من فنون الوجود أو فنون العيش، لتغدو الحياة ممارسة ذوقية جمالية. لذا يحمّل الذات مسؤولية سياسة نفسها بنفسها، حين تصنع عالمها من خلال ممارسة كينونتها بصورة حية توازن بين الاستسلام الذاتي للأهواء والرغبات، وبين التطويع والقولبة الخارجية. لم تعد المسألة، أن يعرف الإنسان نفسه؛ أي معرفة ما يقدر عليه كي يتماهى معه وفق عبارة "إعرف نفسك بنفسك"، بل أصبحت المسألة كيف يصنع المرء ذاته، بتفكيك الإكراهات اللغوية والثقافية والسياسية والمجتمعية، التي تعيق استثمار طاقاته، وممارسة حيويته الوجودية بمختلف أبعادها.
يحاول فوكو تبيان العلاقة بين الذات والحقيقة في عبارة "إعرف نفسك" ذات المنشأ اليوناني، هنا ينقلب فوكو على التوجه العام في تاريخ الفلسفة الغربية الذي يرى في أن "إعرف نفسك" هي من دون شك الصيغة المؤسسة للعلاقة بين الذات والحقيقة ومصدر من مصادر ظهور الفلسفة اليونانية وازدهارها، وتحولها إلى نموذج للتفلسف، مقارنة بتلك الصيغة الهامشية التي كانت متداولة في الفكر اليوناني "الاهتمام بالنفس"، التي ارتبطت بدخول الفلسفة اليونانية مرحلة الانحطاط والتراجع، وإنها اتصلت بالمرحلة الهلنيستية وليس بالمرحلة الهيلينية لتفيد الانطواء والسلبية والتراجع. وعوضا عن ذلك يؤكد تزامن هاتين العبارتين. فعبارة "إعرف نفسك بنفسك"، التي نحتت على حجر معبد دلفي، لم تكن لها في البداية تلك القيمة التي أعطيت لها لاحقا، فلم تكن مبدأ لمعرفة الذات بل كانت، في أحد تأويلاتها الممكنة، تفيد أن نتذكر قبل كل شيء في حضرة الآلهة أننا كائنات فانية. ولقد ظهرت هذه العبارة في الفلسفة مع شخص سقراط الذي قام بوظيفة المعلم لحث الآخرين ودفعهم إلى الاهتمام بالنفس وعدم إهمالها، مضحيا لأجل الآخرين، ورأى في محاكمته أنه بموته لن يخسر شيئا، بل سيخسر الأثينيون بموته من يحثهم على الاهتمام بالنفس، إلا إذا تدخلت الآلهة وأرسلت لهم من يحل محله حاملا نفس الرسالة التي كلّف هو بها من قبل.
يحرص فوكو على إخراج مسألة الاهتمام بالنفس التي تم حصرها داخل "إعرف نفسك" التي قُلّل من أهميتها، وأن يبين أن مفهوم الاهتمام بالنفس لم يرافق معرفة النفس وحسب بل أسس لها وأطرها منذ لحظة ظهوره فكرا وتعينا في الواقع، وفي شخص سقراط. فهناك أهمية مؤكدة لهذا المبدأ عند أفلاطون وأبيقور والكلبيين، وأصبح يشكل مبدأ لكل سلوك عقلي ولكل حياة نشطة أو فاعلية تريد أن تخضع لمبدأ العقلانية الأخلاقية، وتوسّع على مدى تاريخ الفكر الهلنيستي والروماني ليصبح كما يعتقد فوكو ظاهرة ثقافية جامعة وحدثا فكريا في الوقت نفسه، ممتدا إلى المسيحية ليمهد للروحانية الإسكندرانية (فيلون)، وتجلى في الرهبنة أيضا، مع تعدد معاني هذا المفهوم وتنوع دلالاته عبر هذا التاريخ.
لقد طور القدماء العديد من تقنيات الذات: تقنيات التطهر- تقنيات تركيز الروح- تقنية الابتعاد والتقاعد- تقنية الصبر. انتشرت هذه التقنيات وتوزعت داخل الفكر الأفلاطوني (في حوار المأدبة، يظهر سقراط أثناء الحرب قادرا على أن يبقى وحيدا ثابتا مستقيما وقدماه في الثلج لا يحسّ بكل ما يجري حوله). توزعها داخل الفكر الأفلاطوني كان خطوة أولى من بين مجموعة من انتقالات، تم فيها إعادة تنظيم لتلك التقنيات، ليصبح الثقافة الكبرى للذات في المرحلة الهلنيستية والرومانية عند الفيثاغوريين الجدد.

عبارة "إعرف نفسك بنفسك"، التي نحتت على حجر معبد دلفي، لم تكن لها في البداية تلك القيمة التي أعطيت لها لاحقا

 

سؤال الأخلاق وسؤال الإيتيك
إن كان الانهمام بالذات عند اليونان والرومان يتعلق بتقوية وتجهيز الذات عبر قواعد يحتاجها الوصول إلى أسلوب معين في الوجود، فإن الهدف في المسيحية من تلك الممارسات كان التكفير عن النفس، ومحاسبتها تأمينا للخلاص الأخروي. يبين فوكو أن هناك نمطين من الأخلاق يختلفان جذريا: الأخلاق اليونانية الرومانية المتجهة نحو الخُلْق، وتتعلق بأن نجعل الحياة أثرا فنيا، والتي يقصد بها "جمالية الوجود"، والأخلاق الدينية التي تتعلق بطاعة نظام من القواعد، التي معها تفقد الأخلاق قيمتها الذاتية، فتنحدر حتى تختفي جزئيا. النمط الأخلاقي المتجه نحو الخلق لا يحدد قائمة الممنوعات والمسموحات كما في المسيحية، بقدر ما يعبّر عن صياغة عامة للممارسة الجنسية، تتناول العمر المستحسن للزواج وإنجاب الأولاد، والوقت الذي يجب أن تمارس فيه العلاقة الجنسية.
ينوّه فوكو بأن قول الحقيقة لم يكن يحتاج الانتظار حتى القرن 13 لكي يكون مدعوما بوجود الآخر، بما هو مستمع أو مساعد على الكلام (الشكل المؤسساتي للاعتراف في المسيحية الرومانية). فقول الحقيقة عن الذات كان موجودا في الثقافة الإغريقية قبل المسيحية، لكن ليس عبر المرشد الروحي كما في المسيحية، ولا عبر الطبيب والمحلل النفسي وطبيب الأمراض العقلية في العصر الحديث، بل كان أكثر غموضا وأقل تماسكا، فكان هذا الآخر فيلسوفا أو معلما أو موجها مؤقتا، يساعد الشباب على اكتساب مجموعة من القواعد أو المبادئ أو القناعات أو مستشارا خاصا. وبإدخالها مفهوم "الخلاص"، عملت المسيحية على خلخلة موضوعة الانهمام بالذات اليونانية والرومانية حين ربطتها بالخلاص والزهد في الدنيا، وعندما طورت نموذج "تقييد ذاتي" يستند إلى موضوعة الطهارة والعذرية المبنية أساسا على نموذج الاستقامة الجسدي، وليس على التحكم بالذات، مما أدى إلى حجب آليات الوجود، بحيث بقيت الأنا المسيحية في حالة امتحان مستمر بوصفها أنطولوجيا موسومة بالشهوة والغرائز. فالتعارض بين المسيحية والوثنية هو تعارض بين شكل من التزمت ارتبط بجمالية الوجود، وأشكال أخرى من التذوّت ارتبطت بضرورة التكفير عن الذات من خلال تفكيك وتأويل حقيقتها الخاصة.

الإيتيك كأسلوب في الوجود، وممارسة الذات، يتمايز عن الأخلاق بوصفها نظامًا من القواعد مندمجة داخل كل واحد منا. سؤال الإيتيك لا يدور حول معرفة أية قواعد، بل كيف تتصرف الذات إزاءها، وما المعنى الذي تعطيه لوجودها. ما يميز تجربة اليونان والرومان على مستوى الإيتيك كممارسة، هو تمحورها حول الاختيار الشخصي، وحول جمالية الوجد، وحول ما يمكن أن يجعل الحياة مادة لعمل فني وجمالي. بالنسبة لفوكو، ليست الأخلاق الإغريقية غير الجذابة بكل حال للكثيرين، المتمركزة على الذكورة (اللامساواة، ازدراء الرغبة في النساء..) هي المهمة، بل الإيتيك الإغريقي بوصفه طريقة جد أصيلة للنظر في العلاقة مع الذات. فلم يكن الهدف في المدارس الفلسفية القديمة، تعليم المريدين أن يكونوا شفافين وصادقين، وأن يعترفوا بما ارتكبوه من خطايا (مع الانتباه إلى أن المفهوم الوثني للخطأ كان بعيدا جدا عن الخطيئة في المسيحية)، وإنما أن تعليمهم تقنيات وممارسات تمكنهم من تكوين شخصية تكون قادرة على مواجهة كل الأقدار التي تعترضها في الحياة: المرض، الحب، الحرب، بغض النظر عما إذا كان الفرد إمبراطورا كمارك أوريل أو عبدا كـ (إبكتيتوس).
الصيغة الأكثر دلالة للتعليم السقراطي لا نجدها في "إعرف نفسك بنفسك"، بل في "اهتم بذاتك" أو "لتحكم ذاتك وتجعل منها موضوعا للاهتمام". مع هذه الصيغة الأخيرة نحن بعيدون عن البحث عن حقيقة سيكولوجية مستورة أو عن حكم أخلاقي ذي مرجعية مسيحية، ونكون في مستوى أن نجعل من ذواتنا موضوعا للخلق والإبداع.. إن سقراط هنا هو من دون شك إلى جانب ما يسمى بجمالية الوجود. دراسة القدماء لا تتيح لنا اكتشاف حقيقة كونية حول الكائن البشري: كل ما تفعله هو حثنا على ابتكار أشكال جديدة لعلاقتنا بأنفسنا، لم يتوصل إليها الإنسان بعد. والأطروحة التي سيطورها فوكو: إن الغربيين ورثة المسيحية تحرروا من الأخلاق المسيحية، ولكن ليس من الإيتيك المسيحي. هم لم يعودوا خاضعين لما تمليه الكنيسة من واجبات وما تحدده من ممنوعات، غير أنهم يرتكبون الممارسات الإيتيكية التي أبدعتها المسيحية. صحيح أن هذه الممارسات تمّت علمنتها وتحديثها، وربما تم جعلها "ما بعد حداثية"، غير أنه تم الحفاظ عليها. والرهان بالنسبة لفوكو هو معرفة ما إذا كان من الممكن الخروج من تلك الوضعية، وفيما إذا كان هناك بديل داخل الثقافة الغربية؟ المقصود بالبديل بشكل خاص: "جمالية للوجود"، أي أن نجعل من الحياة مؤلفا فنيا.


"اللحظة الديكارتية"



لكن ما الذي حدث وأدى إلى تجاهل هذا التصور الخاص بالانهمام بالنفس؟
"اللحظة الديكارتية" بتعبير فوكو هي المسؤول المباشر عن هذا التحول، فمن خلال كتابه "التأملات"، حيث البداهة مقدمة التفكير دون أي شك ممكن، قاد ديكارت مسارا أقصى مبدأ الانهمام بالذات من حقل التفكير الفلسفي، وفي حين تفترض الروحانية أن الذات غير قادرة على الولوج إلى الحقيقة ما لم تجرِ على نفسها عددا من التحولات الضرورية، وأن الحقيقة قادرة على تغيير الذات وإنقاذها، وكان سؤال الثقافة الأوروبية حتى القرن 15 يدور حول ما ينبغي أن أجريه على ذاتي كي أكون قادرا على ولوج الحقيقة؟ لترتبط الحقيقة في سياق الإجابة عن هذا السؤال بالتصوف، فإنه مع ديكارت ندخل العصر الحديث للعلاقة بين الذات والحقيقة، الذي يؤكد على أن الذات قادرة كما هي عليه على ولوج الحقيقة، وأن الحقيقة غير قادرة على إنقاذ الذات.
معنى ذلك، يستنتج فوكو، أنه "يمكن أن أكون لا أخلاقيا وأعرف الحقيقة". أما في الفلسفة الإغريقية فهناك صلة مباشرة بين الأخلاق والحقيقة، فلا يمكن للاأخلاقي بلوغ الحقيقي، لذلك تتطلب معرفة الحقيقة عند اليونان إجراء مجموعة من التحولات على الذات تجعلها جديرة بأن تكون صادقة. هنا يستدعي فوكو سقراط لمواجهة ديكارت، سقراط القائل "العلم فضيلة والجهل رذيلة". التحولات الإغريقية التي يجب إجراؤها على الذات كي تصبح جديرة بأن تكون صادقة ليست لها أي أهمية عند ديكارت وبينما لم يسائل الإغريق النص وإنما الذات التي تتلفظه، يجد التلفظ عند ديكارت أساسه داخل تجربة عقلية خاصة ببداهة ذاتية، هنا تنغلق المعرفة على ذاتها فليست الحقيقة هنا أخلاقية جمالية بالمعنى الإغريقي للمصطلح حيث الممارسة الأخلاقية ترتبط بالتلفظ بالحقيقة.



برأي فوكو، أقامت العقلانية علاقة وثيقة بين الفلسفة وفكرة النسق أو النظام، فتم التركيز على العقل وتنقيته مما قد يعلق به من شوائب الرغبة ورجس الحواس. أحد الملامح الكبرى لهذا التمركز اللوغسي في تاريخ الفكر إنكار ديكارت أن يكون للجنون مكان في البحث عن حقيقة متماسكة، تصمد في وجه الشك. إذ أنكر صاحب التأملات الميتافيزيقية الجنون في إطار تثبيت البداهة "الأنا أفكر". حاول فوكو تدارك إهمال الجنون باعتباره حقيقة، وفي مقابل "أنا أفكر إذًا أنا موجود" يضع فوكو "أنا أفكر في الآخر الذي يفكر بيّ أنا". العقل عند فوكو غير مبدع، وحتى يمكن للأفراد أن يبدعوا لا بد من الشعور بالجنون كبديل للعقل. تتشكل الأنا مع فوكو خارج حدود ذواتنا، فهي مغتربة، أما الأنا الحقيقية فهي ما نختبره في حالات الاضطراب النفسي والعقلي، حيث الشخصية هشة وممزقة. الانغلاق على الذات في حالة الجنون يعني الإمساك بالعالم الممزّق السابق على توحد الطفل بالصورة والساعي للملمة مِزَقِه. الإنسان بدون الآخر ليس لديه وعي بذاته، وعليه فالوجود ليس بالكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذًا أنا موجود" بل من خلال الآخر. ولا حكمة إلا وترتبط بالجنون "خذوا الحكمة من أفواه المجانين".

جمالية الوجود

في نيسان/أبريل 1983، قام فوكو بزيارة دراسية إلى جامعة بركلي في كاليفورنيا. خلال إحدى جلسات العمل سأله أحد الطلبة: ما هو نوع الأخلاق الذي يمكن أن نطرحه حاليا في عصرنا الحاضر؟ أجاب فوكو: "إن ما يثيرني، هو أن الفن قد أصبح في مجتمعنا شيئا لا علاقة له إلا مع الأشياء وليس مع الأفراد أو مع الحياة (…) ولكن ألا يمكن أن تكون حياة كل فرد مؤلفا فنــــيا؟ لماذا يكون القنديل أو المنزل موضوعات فنية، وليست حياتنا؟".
يدافع فوكو عن جمالية للوجود، تتضمن فكرة أن المؤلف الفني الذي يلزم أن يكون موضوع اهتمامنا، والموضوع الأساسي الذي يلزم أن يكون موضع تطبيق للقيم الجمالية، هو ذواتنا، حياتنا الخاصة ووجودنا الخاص، لذلك اهتم في أبحاثه التالية بالفلسفات التي طورت جمالية للوجود كالتي ذكرناها. هدف فوكو المعلن، وما يحاول إعادة بنائه، كما يقول" تشكل وتطور ممارسة للذات، والتي كان الهدف منها هو أن تتكون كصانعة لجمالية حياتها الخاصة". وحين يتناول استعمال الذات يتساءل فوكو ويجيب "ما هي الفلسفة إذا لم تكن عمل الذات على الذات؟ وإذا لم تكن، مغامرة من أجل معرفة كيف وإلى أي حد يمكننا أن نفكر بطريقة أخرى، بدل أن تشرعن وتقبل بما هو موجود. لا يمكن أن يحصل تحرير للإنسان إلا بالولوج إلى الثقافة، إلى الجميل، وبالتالي إلى الإمكانية، ليس فقط للنظر، وأن نكون محاطين بالأشياء الجميلة، وإنما بإمكانية أن نجعل من حياتنا فعلا مؤلفا فنيا".


إن الرهان حول الجنس برأي فوكو ليس أن يكون الجنس مقموعا، محرما من قبل خطاب طهري متزمت، وأن يفرض علينا الحديث عنه، والاعتراف به، ليصبح الكاشف عمن نحن عليه، عن هويتنا العميقة "أخبرني عن جنسانيتك، سأقول لك من أنت". السبب في ذلك يعود إلى المسيحية وتقنياتها في الاعتراف والتصريح، منذ قرونها الأولى مرورا بالرهبنة والتفتيش طيلة العصر الوسيط، ليتم تعميمها ومأسستها أخيرا بحيث أصبح على كاثوليكي أن يعترف على الأقل مرة في السنة. إذًا، أصبح الاعتراف في الغرب "إحدى التقنيات ذات القيمة العالية من أجل إنتاج الحقيقة" وامتدت مفعولاته إلى حقول متعددة: في العدل، في الطب، في البيداغوجيا، في العلاقات الأسرية والعلاقات الحميمية، ليصبح الإنسان في الغرب وفق تعبير فوكو "حيوان اعتراف".
هكذا ظل الإيتيك (العلاقة مع الذات) داخل ثقافة ما بعد الحداثة إيتيكا اعترافيا بشكل خاص، وبدا التحليل النفسي الحديث على أنه تجسيد معاصر للطـقوس الـمسيحية للاعتراف بالسلطة الرعوية وتأثيرها في الفرد ماديا وروحيا، وانعكاساتها على طقوس الانتماء الجنسي، وعلى صلة وثيقة بالسياسات الحيوية وأشكال السلطة المختلفة التي تمتد استراتيجياتُها إلى حياة الفرد.

ختاما

وعلى النقيض من النزعة الفرويدية يعتبر فوكو أنّه لا وجود لأيّ شيء مقموع يكون الإنسان مدعوّا لتحريره، سوى أن الإنسان مطالب بأن ينفكّ من نفسه، أي من الهويات الموكلة إليه وأن ينحت ذاته عبر ذاته. وإذا كان لا يوجد بالنسبة لفوكو سلطة دون مقاومات فإنّ هذه الأخيرة يجب أن تكون متيّقظة حتى لا تعيد تقديم وإنتاج السلطة التي تدّعي أنّها تتحرّر منها من خلال الاشتغال على الذات. إنّ الأمر يتعلّق بإنتاج ذات كريمة ومحترمة، لكن دون التورط بالفردانية المحضة، فهذا البناء يتم عبر علاقة معينة مع الآخرين.
مهمة الإنسان البحث عن الممارسات التي يمكن لها أن تتطور أسلوبا للحرية؛ وأثناء ممارسة الفرد لحريته وانشغاله بذاته، تظهر تلك الرغبة في تدبير الحياة الخاصة كعمل فني شخصي وإبداع إيتيك وجود متعلق أساسا بإبداع قواعد سلوك تتوافق مع بعض المعايير الجمالية، وإضفاء قيم على الحياة وجعلها موضوعا للمعرفة والفن، وهذا يعني جعل الحياة شيئا فنيا، ليؤكد على نشوء رابطة بين الحقيقة والحياة و"جمالية الوجود"؛ حيث الرغبة في قول الحقيقة وضرورة اختبارها في الواقع وتجليها في الحياة، مع الأمل بالفوز بـ"حياة جميلة وسعيدة وفاضلة". الإنسان عند فوكو هو الكفيل بوجوده، ويجب عليه إعادة إنتاجه كفنّ للوجود، يبدي من خلاله قيما هي في نفس الوقت قيم للآخرين.

دمتم بجمال وانهمام بالذات.

(*) هذا النصّ تكثيف لمحاضرة بعنوان "جماليات الوجود عند ميشيل فوكو" ألقيت من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بدعوة من حلقة "منيرفا" الفلسفية بتاريخ 4 يونيو/حزيران 2020.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.